قطعت الانقلابات العسكرية الطريق امام تطور الديمقراطية في السودان ، ولقد كان تتطور المسألة الديمقراطية في الأساس ضعيفاً بسبب هيمنة الطوائف الدينية التي غيبت الوعي عن الشعب بهيمنتها على الوجدان الديني لدى الافراد والجماعات ، وبالرغم من ذلك لم تكن الطائفية قادرة على تجميد التطور الفكري والسياسي بصورة نهائية كما كانت فعلت الأنظمة الديكتاتورية التي جاءت على ظهر دبابة ( نظام عبود نظام نميري نظام البشير ) وكانت هذه الأنظمة قد وجدت ضالتها في ضعف الأحزاب الطائفية التي كثيراً ما كانت تفتقر للحس الوطني الذي كان من المفترض ان يعلو على الحس الطائفي والحزبي ، وهذا شيء طبيعي بحسب الفهم المغلوط لمعنى الوطنية حيث كثيراً ما نجد الأحزاب الطائفية والأنظمة الشمولية تختزل كل الوطن في حزب او في طائفة اوفي تنظيم حاكم بل نجدها في بعض الأحيان قد اختزلت الدين كله في الولاء لها حتى وصلت مرحلة تجهيل المريدين والمواليين لدرجة ربط مصيرهم الأخروي بالولاء للتنظيم حزباً كان ام طائفية حيث كانت توزع الهبات على شكل اشبه بصكوك الغفران ابان هيمنة الدولة المسيحية في غابر الازمان . وهكذا كان بعض زعماء الطوائف يعدِون مريديهم وحواريهم بالجنة بقدر ولائهم لهم ، بل قد تطور الامر خلال حقبة حكم نظام الإنقاذ الى ابعد من ذلك حيث كانت تقام الاحتفالات في الميادين العامة وفي المسارح وتروى القصص المثيرة عن حظوة المواليين للنظام ( الاحياء منهم والاموات ) في الجنة ، وقد تجاوزت هذه المسائل عند نظام الإنقاذ الحد لدرجة انها قد أصبحت موضع تندر وسخرية ليس لدى العامة فحسب ولكن وصل بها الحد حتى سخر منها كبار شيوخهم الذين علموهم من قبل علماً تجاوزوا به حد المعقول حتى اصبحوا يفتون في مصير العباد في الحياة الآخرة من بعد ما انكروا عليهم حق الحياة الدنيا وحرموهم نعيمها الذي استأثروا به دون وجه حق . جاء نظام الانقاذ كنتيجة طبيعية لضعف الحياة الحزبية التي لم تكن ناضجة وطنياً في كل اوجهها من طائفية متمثلة في حزبي الامة والحزب الاتحادي الديمقراطي والعقائدية متمثلة في (أحزاب اليسار عامة ) وفي ما سُميت ( بالاحزاب الإسلامية وعلى رأسها أحزاب الإسلاميين ) او ما اطلق عليهم بالمتأسلمين نسبة لبعدهم عن الاسلام وما أتوا به من حكم استبد وفسد وغالى في ذلك حتى اصبح نقيضاً لكافة القيم الإنسانية وبما لم يكن متسقاً مع قيم الدين الإسلامي على وجه الخصوص و كافة الأديان في عمومها ربانية كانت او وثنية ، وليس هذا قولاً يُطلق على عوهنه وانما التجربة الطويلة التي امتدت لأكثر من ربع قرن تقول بذلك وقد شهد بهذا الوضع شاهد من أهلها في اعلى مراتبها وقال بها الشيخ حسن عبدالله الترابي ( عرّاب نظام الإنقاذ) حين سبق عليه الكتاب فصدق القول في آخر أيام حياته ( عليه رحمة الله ) . نظام الإنقاذ لم يكن كسابقه من الأنظمة الشمولية اكبر دوراً في اضعاف تطور الديمقراطية فحسب ، بل هو النظام الذي كانت له اليد الطولى في إيقاف التطور وتخريب كافة مؤسسات الدولة واحالتها الى دمار ، كما أنه خرب القيم والمبادئ السياسية والفكرية التي بدأت تنمو وتتطور ببطء لدى الشعب السوداني الذي كان يذهب في طريق النضوج السياسي والفكري من قبل ، ولما اعيت نظام الإنقاذ الحيلة في إقامة دولته المتوهمة ( المشروع الحضاري ) ، حيث فشل في ذلك فشلاً زريعاً آثر العودة للخلف وهو يسعى الآن لإعادة انتاج الطائفية في صورة باهته تمكنه من الاستمرار على هيمنة مفاصل الدولة ويجعل من الآخرين تابعين له من خلال ما سمي ب ( مخرجات الحوار الوطني ) ، ولكن يوت على نظام الإنقاذ ان الامر لم يعد بالسهولة التي تجعله محققاً لمآربه من بعد ما فضحت التجربة برامجه الفاسدة ومشاريعه الوهمية التي كانت مبنية على العاطفة الدينية والنظر للآخرين بالدُّونِيّة السياسية ، ومصادرة صوت وصدى وضمير الشعب في ادعاء باطل لنيل ثقته ، وهو نظام الإنقاذ يتكون من جماعات لا زالت تصر على احتكار تمثيل الشعب متجاوزة في ذلك معاني ومفاهيم التفويض والتعاقد السليم مع الشعب ، وقد اخذت هذه الجماعات العباد بخطابها العاطفيٍّ الذي كان يفتقر للرؤى الواضحة، ولا زالت تروج لعداء الديمقراطية والخصومة السياسية الفاجرة مع الآخر ، وسيظل خطاب الإنقاذ خطابٌ مُبْهَمٌ وعاطفي، لا يعتمد الأفكار والرؤى، بل يميل إلى إثارة الحماس وإلهاب المشاعر، كما كان في عهده الأول خلال سنينه الأولى وهو يصور للعباد صوراً دراماتيكية وحبكات مسرحية لغرض التضليل والانصراف عن حياة الواقع وتميع المشاكل الواقعية وهو يعتمد في ذلك الى الإحالة إلى التاريخ الذي يتم استحضاره واستخدامه كوسيلةٍ إيديولوجيةٍ ذات عمقٍ انفعالي يستدر العواطف دون ان يهذب العقول من اجل ان يدفع بها لعمل مفيد للعامة ، لهذا كان نظام الإنقاذ سبباً في اقعاد دولة السودان عن اللحاق بمصاف الدول المتقدمة بالرغم من ان السودان يحمل كافة المؤهلات والأسباب والظروف المواتية للتطور والتقدم . لن يكون هناك من بد الا بالثورة الحقيقية من اجل إزالة كافة آثار الأنظمة الشمولية التي ترسخت بطول الزمن بصورة احدثت خللاً عميقاً في مفهوم القيم وقد خربت الذمم حتى آلت الأمور الى انهيار اقتصادي واضمحلال أخلاقي وهدم اجتماعي يتطلب بناءه من جديد وضعاً ثورياً لايقبل التوفيق والمساومة والتسويات التي تترك الباب مفتوحاً لعودة معاول الفساد والتخريب من جديد . وهذا امر ليس باليسير ولا بالسهل حيث انه يتطلب عملاً يقوده أناس قارئون للماضي مع الحاضر ولهم مقدرة على استشراف مستقبل مشرق بحق وحقيقة وما اكثر مثل هؤلاء وسط شعب ابي عصي علم الشعوب اكثر من مرة ماذا تعني الثورة وماذا تعنى الفوضى ، شعب ظل يبدع منذ الاستقلال ومروراً بثورتي أكتوبر 1964م وابريل 1985م وانتفاضة سبتمبر العام الماضي القريب 2015م ويوم 27/11/2016م والى موعد التاسع عشر من ديسمبر 2016م . وللايام القادمات حديث يؤكد ان الشعب السوداني شعب ليس ككل الشعوب، ودولته ليست ككل الدول شعب فريد ..... فريد وخسي الذين يتخوفون مما يجدث في دول أخرى ولا نامت اعين قاصري البصر والبصيرة . .......................... علي احمد جارالنبي .................... [email protected]