عندما هدد نقيب الصحفيين السابق محي الدين تيتاوي في تعليقة علي بوست للكاتبة شمائل النور بقوله (اكتبي كلامك دا في التيار انكان راجله!) فحينما يردد نقيب مقوله مثل هذه؛ فإن هذا القول لا ينطوي علي خطاب؛ القصد منه الدفاع عن السلطة التي يناصرها فحسب؛ بل أن مثل هذا الخطاب يعكس بالضرورة نسق ثقافي لتصورات مضمرة، تختبي خلف التعليق . وبغض النظر عن فكرة إن نقيب الصحفيين السابق قد أراد من خلال التعليق أن يدافع عن السلطة بشكل ضمني؛ إلا أن آلية الخطاب التي إستخدمها؛ تكشف عن وجه آخر لسلطة آخري؛ راح تيتاوي يستخدم مقولاتها، بوعي أو من دونه، ليدافع عن سلطة المجتمع وأنساقه الثقافية؛ والتي بالطبع تُغيّب عن المرأة صفة (الشجاعة) من خلال ما هو سائد ومعلوم لدي المجتمع بالضرورة؛ هذه الانساق تجعل من الشجاعة، علي سبيل المثال لا الحصر، شأن ذكوري محض . وبما إن (الكاتبة) كانت قد كسرت هذه القاعدة السلطوية بصورة مذدوجة، عندها ستبدو مطالبة تيتاوي المشفوعة بالذكورية، أن تكون هي (راجله)، عبارة عن دفاع عن قيم ثقافية؛ لا تُعلي من شأن الذكورة فحسب؛ بل يصل لدرجة مطالبة المرأة أن تصبح رجل !! هذا الخطاب وما ينضوي عليه هو ما يطلق عليه في النقد الثقافي ب (النسق الثقافي)، فأنساق الثقافية تتمثل في المقولات التي تسقط في المحادثات اليومية؛ أو ككلمات في قصيدة يقولها شاعر حداثوي؛ فتسقط كزلة (وعي) لما تم فرضه من قبل المجتمع؛ وبغض النظر عما إذا كنا مع أو ضد؛ إلا أن خطباتنا واحديثنا تفضح هذا النسق الذي يحكم الوعي، فحينما يردد الناس مقولة ان فلان (ولد أصول) أو فلان (ما عندو أصل)، او كقولنا بأن فلان (راجل) وذاك إنسان (وما هو إنسان)؛ وأن فلان يخاف الله وآخر لا يخاف الله، كل هذه المترادفات تشير الي مدلول واحد؛ هو النسق الثقافي؛ بمعني أن هناك تصورات مضمرة عن مجموع الصفات المتوخاه؛ فإذا وجدت هذه الصفات؛ صار المرء رجلاً وذا أصل؛ وعدمها ينزع من ذلك إنسانيته؛ أو قد تؤدي به في خانة عدم مخافة الله . وتماماً مثلما طالب تيتاوي إمراة بأن تصير (رجلاً)؛ فإن هذه المطالبة تعود بالنسبة له إلي تصور ذهني لمدلول الرجولة، ويعمل كنموزج يقاس عليه هذا التصور، ويجري الإلتزام به والإحتكام عليه كدليل موجه لسلوك إجتماعي . وبما أن كلمة (رجل) هي كلمة تعمل كدال رمزي علي منظومة من الصفات الجامعة التي تختبئ في الوعي، فإنها لا تنبئ عن نفسها إلا في وقت الحاجه؛ مما يجعلها ملجأً نفسياً ذاتياً لحسم اللحظات الغامضة والحرجة التي لا يملك الإنسان فيها لغة أخري لمواجهة الموقف والتعبير عنه، وتأتي هذه الكلمات من المخزن العميق لتتكلم بإلانابه عن ما هو مُضمر اصلاً . من جهة أخري، فإن هذه المقولات تنم عن تضارب بقيم وقناعات أخري، فبالرغم من إنه قد تم رفض الدارونية؛ إلا ان فكرة أصل الأنواع قد تبدو إجتماعياً مقبولة لحد ما، طالما أن هناك تمايزات وصفات تنتقل بالشفرة الثقافية؛ فتأتي صورة إبن الأصول أو (ود القبائل) في إطار موصوف بالكرم ومحفوف بالشجاعة ونقاء العرق .. الخ، في المقابل ستجد من لا أصل له، سيوصف في هذه الحالة بالنقيض لتلك الصفات . إما صور الشخص الذي (يخاف الله) فهذه الصورة غالباً ما تتخذ إطار شكلاني؛ فكما إذدات الإسسكورات الدينية أمام الناس؛ أصبح الشخص حسب تصورات تلك الانساق هو الأقرب الي مخافة الله . ولا تتوقف هذه النسق الاجتماعية عند حد الفاصل بين كونها مجرد إنساق تفضح وعينا التراتيبي الإجتماعي؛ والذي يبرز من خلال أحاديثنا؛ بل إنها أمتدت لتكسر الحد الفاصل؛ حيث لا يعود هناك حدّ؛ كما يشير هايديجر محيلا إلي الدلالة الإغريقة لكلمة حد، وهو الذي لا يعني نهاية شئ ما، وإنما يشير إلي بداية شئ آخر جديد ومختلف؛ فأدخلت هذه الأنساق إلي مجال السخرية من خلال (النكات) والتي تنتشر بين الناس بسرعة البرق، فأخذت تُنمّط جماعات إجتماعية في إطار معين؛ فخلال النكات أصبح أهالي الجزيرة بالطبع هم (أهل العوض)؛ وصار الشايقية نموزجاً (للخسه) والرباطاب نموزجاً (للمساخه)؛ وكارثة مثل هذه النكات؛ وبعيداً عن المضامين التي تحملها؛ إنها تُنمي الشعور (القبلي) أولاً؛ وتُذكي العصبية ثانياً؛ بما لا يدع فسحة لنول الوطنية ليغزل المجتمع بنسيجها . ولا تقف مضامين النكات عند حدود القبلية؛ بل إمتدت لتجعل من الذكاء والتفكير خارج السرب؛ ميزة لا يتصف بها إلا المساطيل؛ علي قرار ما تحمله كل نصوص ونكات المساطيل . هذه النمازج وغيرها من الانساق الاجتماعية لا تتحرك علي المستوي البسيط فحسب؛ فقد اصبح الأمر اكثر تعقيداً من ذلك؛ فهذه التصورات الإجتماعية أوجدت حيز كثيف؛ وأمواج في بحور الشعر والغناء، سواءٍ كان غناء شعبي او حديث؛ فليس هناك حد فاصل في تخليق صور ذهنية دلالية تمثل الدلالة النسقية؛ وأكثر من تعرض لهذا التنميط بالطبع هي المرأة، التي تحولت إلي مادة للمتعة والاستخدام، وبعد ذلك التهميش، فصورة المرأة في الفقه ليست في إطار إنها مجرد (عوره) فحسب، لكن طبقا للمرويات؛ فإنها ناقصة عقل ودين؛ وأكثر من ذلك أنها توضع بالتساوي مع الحمار والكلب الأسود في خانة من يبطل الصلاة؛ بالمقابل لهذه الصورة الفقيه للمرأة، بدت صورة أخري مختلفة للمرأة في الشعر، تضعها علي النقيض، في خانة أقرب إلي (الملاك) وبين صورتها في ميزان الشعر والفقه نزعت عن المرأة الإنسان؛ علي حد سواء . ففي نموزج تيتاوي؛ فإن صورة (الرجل) أتت علي شكل بسيط وواضح، كأن يكون (الرجل) هو الموصوف بالشجاعة؛ مقابل واقع حال (شمائل) كأنثي لا تتصف بهذه الصفة؛ بل إن النسق الإجتماعي قد لا يحبذ ان تكون المرأة (شجاعة) إي كان المعترك؛ ففي انساقنا الاجتماعية قد لا نقبل (بشجاعة) الأنثي؛ اللهم الا كما في معيار تيتاوي؛ فهو لا يريدها كرجل فحسب؛ بل يريد أن يعيد إنتاج صيغة (الفحل) بكل صفاته و (عيوبه .. !) القديمة، وهي اشبه ما تكون بصورة الرجل الأوحد المتفرد؛ الذي لا يقوم وجوده إلا بتفرده في إلغاء الآخر؛ بمستوي ثقافي مماثل يقبع في (الآنا) ويجعله سجين لهذه الفكرة؛ وقد صدق وعي تيتاوي؛فأزمة شمائل تتلخص كلها في تعليقه (إنكان هي راجله!!) [email protected]