شرطة ولاية القضارف تضع حدًا للنشاط الإجرامي لعصابة نهب بالمشروعات الزراعية    استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وراء تزايد تشتت انتباه المراهقين    بدء أعمال ورشة مساحة الإعلام في ظل الحكومة المدنية    سفارة السودان بالقاهرة: تأخر جوازات المحظورين "إجرائي" والحقوق محفوظة    ما بين (سبَاكة) فلوران و(خَرمجَة) ربجيكامب    ضربات سلاح الجو السعودي لتجمعات المليشيات الإماراتية بحضرموت أيقظت عدداً من رموز السياسة والمجتمع في العالم    قرارات لجنة الانضباط برئاسة مهدي البحر في أحداث مباراة الناصر الخرطوم والصفاء الابيض    غوتيريش يدعم مبادرة حكومة السودان للسلام ويدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار    صقور الجديان" تختتم تحضيراتها استعدادًا لمواجهة غينيا الاستوائية الحاسمة    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية مغمورة تهدي مدير أعمالها هاتف "آيفون 16 برو ماكس" وساخرون: (لو اتشاكلت معاهو بتقلعه منو)    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية غير مسبوقة على مواقع التواصل.. رئيس الوزراء كامل إدريس يخطئ في اسم الرئيس "البرهان" خلال كلمة ألقاها في مؤتمر هام    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفاجئ الجميع ويصل القاهرة ويحيي فيها حفل زواج بعد ساعات من وصوله    لاعب منتخب السودان يتخوّف من فشل منظومة ويتمسّك بالخيار الوحيد    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام والاستراتيجيَّة أو التَّدبير: المبنى والمعنى


بسم الله الرحمن الرحيم
الاستراتيجيَّة في جوهرها رؤية فكريَّة، أو هدى كما يعرِّفها الإسلام، تهدف لحسن إدارة الحياة، وهي لذلك تحتاج إلى وعاء يحملها، واللغة هي وعاء الفكر؛ فبها يفكِّر الإنسان ويعبَّر عن فكره، ولكن بين الوعاء والمحتوى نزاع وتكامل. والأديب الأصيل هو الذي يقرِّب الفجوة بين اللغة والفكر؛ أي بين المبنى والمعنى، فكلَّما نقصت الفجوة كلَّما تمَّ الإعجاز حتى تصير اللغة والفكر كانعكاس الصورة في المرآة، ولكن مع ذلك يلزمه الإتقان في النّظم باختيار الكلمات ذات الموسيقى وصياغتها كالعقود الفريدة فيتمُّ بذلك الجمال والكمال.
والاستراتيجيَّة تعني التَّدبير وهي في الإسلام لا تنبع من ولا تتبع إلا معايير علميَّةٍ صارمة لا مجال فيها للظنِّ والتَّخبُّط والخرافة. ولا يمكن تحقيق رؤية أو وصولٍ لقطار فكرها إلى منتهى رحلته إلا بوسيلة اللغة وباتَّباع "صراطٍ مستقيم"؛ لأنَّه أقصر الطُّرق بين نقطتين وأسرعهما لوصول الهدف. ومن هذا جاء دعاء المسلمين في أوَّل صلاتهم: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ"، وتعريفه هو صراط الذين أنعم الله عليهم، أي أتَّم عافيتهم.
ولكن قلَّما تنقل لغة ما الفكر كاملاً؛ لأنَّ أيّ وعاء يضيق بما يحمل، فالمبنى لا يتَّسع للمعنى إلا بقدر اتّساع مساحته. وأقرب اللغات لترجمة الفكر، وتبيين معانيه، وتيسير فهمه هي اللغة العربيَّة التي أيضاً من صفاتها الثبات والمرونة.
فالحروف هي لبنات بناء الكلمات، التي تكوِّن طبقات بناء الجمل، والتي تكوِّن حجرات بناء الكلام حتى يتمَّ البناء.
ومن هنا جاءت معجزة القرآن الكريم باختياره للغة العربيَّة، إذ أنَّ مبناها كان من البيان والثبات والمرونة لدقَّة وبلاغة لبنات كلماتها، فاستوعبت كلمات القرآن الكريم كامل المعنى، فإذا بالآية الكريمة تقرِّر هذا المعنى من خلال مبنى، وهي كلمات الآية، يشمله مبنى أكبر وهي كلمات القرآن كلِّها التي تنقل مفاهيمه ومعانيه كلِّها بلا نقصان:
"مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ".
لا أحد سوى ربّ العالمين يستطيع أن يؤكَّد الشمول؛ أي أنَّ كتابه؛ وهو المبنى، وعاء شامل لكلِّ المفاهيم والمعاني، ويؤكَّد صحَّتها أيضاً والهدف منها وهو الهدى أو الرؤية والمنهج والهدف من الإيمان: "ذلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ".
والهدى عكس الضلال وهو الرَّشاد، وهو الإرشاد للطريق القويم، ولا هدى بغير إبصار وتبيين وتعريفٍ ودلالة، أي بغير رؤية، وهي معنيٌّ بها الشريعة التي هي الاستراتيجيَّة.
ولذلك يؤكِّد المولى عزَّ وجلَّ أنَّه لا استراتيجيَّة ناجحة ومفيدة لعباده غير تدبيره: "قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ۗ." ولم تكن الاستراتيجيَّة لتقوم على التَّخبُّط والتَّسرُّع وإنَّما على التَّخطيط الدَّقيق: "‫إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ"، والآية الكريمة تظهر مفارقة تقدير الأشياء مع سرعة العمل وهي مستحيلة عند البشر ولكن المولى عزَّ وجلَّ لا يحتاج بطلاقة قدرته غير أن يقول لكلِّ شيء كن فيكون، ولكنَّه من رحمته بخلقه بيَّن لهم سبيل الخلق ومنهجه ليتَّبعوه في حياتهم ولذلك ذكر أنَّ خلق السماوات والأرض أخذ أيَّاماً.
إنَّ كلَّ المؤلِّفين في العالم يدركون أنَّ مباني كلماتهم لا تتَّسع لمعاني أفكارهم لتشملها، وأنَّهم غير واثقين، حتى بعد المراجعة، أنَّ ما يقولون لا يدخل على صحَّته شك، ويدركون أيضاً أنَّ ما يُسمَّى بلاغة هو معادلة صغر المبنى مع شمول المعنى ولذلك يقولون: "خير الكلام ما قلَّ ودلَّ"، وأنَّ تزيين الكلام بعد خلقه بتنسيقه وصياغته مع بهاء منظره يهوِّن حفظه للمتلقَّي هو ما يسهر عليه الأدباء. ونجد ذلك في كلام الله سبحانه وتعالى بعد خلق السماوات السبع: "وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا"، أي أنَّ النّجوم والكواكب والأقمار لها وظيفة جماليَّة وعمليَّة وكذلك يجب أن يكون الكلام المنظوم.
فالأفكار العالية تحتاج إلى لغة عالية لا شحوم وزوائد كلاميَّة لها، فتصير قيِّمةً ودقيقة الصنعة، لطيفة الشكل، وهو الإتقان في المبنى وفي المعنى، فلا جدوى من وضع الكنوز في بيت من الطِّين.
ولوضع استراتيجيَّة لا بُدَّ من وجود وضعٍ منظَّم ذي نسقٍ معروف إن كان فكراً أو واقعاً، فالاستراتيجيَّة تحتاج إلى ثلاث مراحل:
وهي مرحلة التَّشييد الفكري،
ومرحلة التَّشييد العملي،
ومرحلة التَّطوُّر.
ولعلَّ من خير الأمثلة لذلك هي قصة سيدنا يوسف عليه السلام: "‫قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ".
ولا بُدَّ لها من عاملين وهما:
اختيار القيادة من أجل إحسان الإدارة: ‫"وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ"؛ وهو أهمَّ القرارات الذي يترتب عليه تكوين وتنفيذ الخطط المصممة لتحقيق أهداف المنظمة،
ثمَّ الاستدراك والصيانة، أي القيموميَّة بأمرها.
إذن فاللغة في قمَّة أدائها تكون ترجمةً شاملة للفكر خاصَّةً إذا كانت غير مسهبة، وبمعنى آخر أن يوافق النَّقل العقل، فما تنقله اللغة يجب أن يوافق ما تفهمه الأذهان بلا نقصان.
ونحن نعلم أنَّ معجزة الخلق هي في اختزال الكائنات الحيَّة في حمض أميني لا يُرى بالعين المجردة ولكنَّه يحمل كلَّ مباني ومعاني المخلوق، فهو في جوهره لغة مكتوبة ولذلك يطلق عليه شفرة أو رمز الجينات، ولذلك ما أن يجد تربة صالحة إلا وينمو في شكل إنسانٍ أو مخلوقٍ آخر كامل الدَّسم حسب جدول زمني ثابت مثل شروق الشمس ومغربها.
فحبوب القمح لا تنبت في كلِّ أرضٍ وهذا ينطبق على القرآن الكريم فهو تنمو أفكاره ومفاهيمه على حسب تربة من يزرع آياته ويسقيها ويرعاها، فإذا كانت شروط النَّمو المثاليَّة متوفِّرة فهي ستنمو وتترعرع ‫"كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ" يسرُّ النَّاظرين وينتفع به العالمين.
وإذا تأمَّلنا فسنجد أنَّ تفاعل اللغة؛ والتي هي المبنى، مع الفكرة؛ والتي هي المعنى، ينتج معنى المعنى أو ما وراء المعنى، ولذلك نجد بلاغةً معجزة في الآيات القرآنيَّة كأنَّها بذرات حيَّة إذا ما وفَّرنا لها ماء الفهم، وتربة المعاني، وهواء الإخلاص أنبتت من كلِّ زوج بهيج. هكذا تُوضع الاستراتيجيَّة وهذه هي عناصرها، فالآيات توضِّح لنا كيفية وضع التَّدبير أو الاستراتيجيَّة وعناصرها الأهم.
ولذلك فالجسد لاستراتيجيَّة المسلمين هي كتاب الله وهو نهر المبنى الذي يحمل بين ضفَّتيه ماء المعنى المتجدِّد والذي يحمل بذور الخير، والتي لا يعرف طريقة إنباتها إلا أصحاب العلم والمهارة والخبرة والتَّقوى الذين يستخدمون التَّفكير التَّدبُّري لإدارة حياتهم وفهم مغزاها:
"كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ".
فالآية تقول إنَّ الكتاب مبارك، وكلمة مبارك تعني أنَّه كثير المنافع والفوائد والخير والنَّماء، وتطلب الآية تدبُّر آياته والمعنى أن يتأمَّلوا ويتفكَّروا فيه على مهل والنَّظر إلى عاقبته، أي بمعنى آخر ليستخدموا الفصَّ الأمامي من المخ الذي يقوم بكلِّ المهام التَّنفيذيَّة للعقل وأوَّلها وضع الاستراتيجيَّة التي يعرف هدفها، وتحليل منافعها وضررها لتقارن وتوزن لتُعرف عاقبتها. ولذلك ارتبط التَّفكير التَّدبُّري، الذي يحتوي في جانبيه التَّفكير التَّفكُّري والتَّذكُّري؛ والثلاثة أنواع هي أنضج أنواع التَّفكير، بالتَّدبير الذي هو الاستراتيجيَّة.
والتَّدبير؛ وهو تهيئة الأمر وتنفيذه ومتابعته وتذليل خطواته ومشكلاته وصيانته:
"يُدَبِّر ُالْأَمْرَ مِن َالسَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ"، وله كامل التَّحكُّم في كلِّ شيء: "لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ
"، ويشمل التَّدبير كلَّ عناصر الاستراتيجيَّة، وهي كثيرة، منها حسن القيام على شئون العالم وتصريف أموره بقدرة وحكمة، وذلك بوضع الخطط والسياسات المفيدة التي تحدِّد الأهداف. وأيضاً التَّرتيب للأولويَّات والخطوات والتَّرتيبات والإجراءات التي توجَّه التَّنفيذ، والتَّسيير، والاحتياط والاستعداد للطَّوارئ، وبالعناية بالمنفِّذين وما يجري تنفيذه.
فما هو الأمر إذن؟
الأمر نقيض النَّهي، وهو يختصُّ بالفعل، فلا أمر بلا فعل يتبعه إن كان لتنفيذ فعل أو النَّهي عنه، ولكن تنفيذ الأمر يعتمد على قدرة الآمر وقدرة المأمور ووسعه، فإذا كان الآمر هو الله سبحانه وتعالى فإنَّ الأمر يبدأ منه وله يعود، وهذا غير ممكن في حال البشر إذ أنَّ الإنسان إذا أَمَرَ بتنفيذ شيء فليس له كبير تأثير في طريقة التَّنفيذ ولا في اتِّقاء كلِّ العواقب مثل أن تعطي توجيهات لمن يبني بيتك: "أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ".
ولأهميَّة الأمر، الذي يتبع الوصول لقرار بعد مشورة؛ لأنَّ منها آمره واستأمره أي شاوره، لم يترك الله سبحانه وتعالى تدبير أمر السماوات والأرض لمخلوق ولم يعتمد على مشورة أحد: "وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ".
ونحن عندما نتحدَّث عن المولى عزَّ وجلَّ فإنَّنا نتحدَّث عنه سبحانه وتعالى في سياق: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ".
فإنَّه لا يحتاج لوقت ليفكَّر ولا ليقرِّر ولا لينفِّذ وإنَّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وكينونة الأشياء في مقدرته ليست بالكلام أو الإشارة وإنَّما بالخاطرة.
فهو لا يحتاج أن يستشير أو حتى أن يُخطر أحداً بنيَّته على فعل شيء، وهو أيضاً جلَّ ثناؤه لا يحتاج لملائكة يفوِّض إليهم أداء الأعمال وإنَّما يربَّينا على أبجديَّات العمل الجماعي وتكامل القدرات والمواهب.
وفي قوله الكريم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ".
+++++
وسنواصل إن أذن الله تعالي
ودمتم لأبي سلمي
مؤسِّس حزب الحكمة
الإسلام والاستراتيجيَّة أو التَّدبير: المبنى والمعنى
د. عبد المنعم عبد الباقي علي
[email protected]
++++
بسم الله الرحمن الرحيم
الاستراتيجيَّة في جوهرها رؤية فكريَّة، أو هدى كما يعرِّفها الإسلام، تهدف لحسن إدارة الحياة، وهي لذلك تحتاج إلى وعاء يحملها، واللغة هي وعاء الفكر؛ فبها يفكِّر الإنسان ويعبَّر عن فكره، ولكن بين الوعاء والمحتوى نزاع وتكامل. والأديب الأصيل هو الذي يقرِّب الفجوة بين اللغة والفكر؛ أي بين المبنى والمعنى، فكلَّما نقصت الفجوة كلَّما تمَّ الإعجاز حتى تصير اللغة والفكر كانعكاس الصورة في المرآة، ولكن مع ذلك يلزمه الإتقان في النّظم باختيار الكلمات ذات الموسيقى وصياغتها كالعقود الفريدة فيتمُّ بذلك الجمال والكمال.
والاستراتيجيَّة تعني التَّدبير وهي في الإسلام لا تنبع من ولا تتبع إلا معايير علميَّةٍ صارمة لا مجال فيها للظنِّ والتَّخبُّط والخرافة. ولا يمكن تحقيق رؤية أو وصولٍ لقطار فكرها إلى منتهى رحلته إلا بوسيلة اللغة وباتَّباع "صراطٍ مستقيم"؛ لأنَّه أقصر الطُّرق بين نقطتين وأسرعهما لوصول الهدف. ومن هذا جاء دعاء المسلمين في أوَّل صلاتهم: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ"، وتعريفه هو صراط الذين أنعم الله عليهم، أي أتَّم عافيتهم.
ولكن قلَّما تنقل لغة ما الفكر كاملاً؛ لأنَّ أيّ وعاء يضيق بما يحمل، فالمبنى لا يتَّسع للمعنى إلا بقدر اتّساع مساحته. وأقرب اللغات لترجمة الفكر، وتبيين معانيه، وتيسير فهمه هي اللغة العربيَّة التي أيضاً من صفاتها الثبات والمرونة.
فالحروف هي لبنات بناء الكلمات، التي تكوِّن طبقات بناء الجمل، والتي تكوِّن حجرات بناء الكلام حتى يتمَّ البناء.
ومن هنا جاءت معجزة القرآن الكريم باختياره للغة العربيَّة، إذ أنَّ مبناها كان من البيان والثبات والمرونة لدقَّة وبلاغة لبنات كلماتها، فاستوعبت كلمات القرآن الكريم كامل المعنى، فإذا بالآية الكريمة تقرِّر هذا المعنى من خلال مبنى، وهي كلمات الآية، يشمله مبنى أكبر وهي كلمات القرآن كلِّها التي تنقل مفاهيمه ومعانيه كلِّها بلا نقصان:
"مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ".
لا أحد سوى ربّ العالمين يستطيع أن يؤكَّد الشمول؛ أي أنَّ كتابه؛ وهو المبنى، وعاء شامل لكلِّ المفاهيم والمعاني، ويؤكَّد صحَّتها أيضاً والهدف منها وهو الهدى أو الرؤية والمنهج والهدف من الإيمان: "ذلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ".
والهدى عكس الضلال وهو الرَّشاد، وهو الإرشاد للطريق القويم، ولا هدى بغير إبصار وتبيين وتعريفٍ ودلالة، أي بغير رؤية، وهي معنيٌّ بها الشريعة التي هي الاستراتيجيَّة.
ولذلك يؤكِّد المولى عزَّ وجلَّ أنَّه لا استراتيجيَّة ناجحة ومفيدة لعباده غير تدبيره: "قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ۗ." ولم تكن الاستراتيجيَّة لتقوم على التَّخبُّط والتَّسرُّع وإنَّما على التَّخطيط الدَّقيق: "‫إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ"، والآية الكريمة تظهر مفارقة تقدير الأشياء مع سرعة العمل وهي مستحيلة عند البشر ولكن المولى عزَّ وجلَّ لا يحتاج بطلاقة قدرته غير أن يقول لكلِّ شيء كن فيكون، ولكنَّه من رحمته بخلقه بيَّن لهم سبيل الخلق ومنهجه ليتَّبعوه في حياتهم ولذلك ذكر أنَّ خلق السماوات والأرض أخذ أيَّاماً.
إنَّ كلَّ المؤلِّفين في العالم يدركون أنَّ مباني كلماتهم لا تتَّسع لمعاني أفكارهم لتشملها، وأنَّهم غير واثقين، حتى بعد المراجعة، أنَّ ما يقولون لا يدخل على صحَّته شك، ويدركون أيضاً أنَّ ما يُسمَّى بلاغة هو معادلة صغر المبنى مع شمول المعنى ولذلك يقولون: "خير الكلام ما قلَّ ودلَّ"، وأنَّ تزيين الكلام بعد خلقه بتنسيقه وصياغته مع بهاء منظره يهوِّن حفظه للمتلقَّي هو ما يسهر عليه الأدباء. ونجد ذلك في كلام الله سبحانه وتعالى بعد خلق السماوات السبع: "وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا"، أي أنَّ النّجوم والكواكب والأقمار لها وظيفة جماليَّة وعمليَّة وكذلك يجب أن يكون الكلام المنظوم.
فالأفكار العالية تحتاج إلى لغة عالية لا شحوم وزوائد كلاميَّة لها، فتصير قيِّمةً ودقيقة الصنعة، لطيفة الشكل، وهو الإتقان في المبنى وفي المعنى، فلا جدوى من وضع الكنوز في بيت من الطِّين.
ولوضع استراتيجيَّة لا بُدَّ من وجود وضعٍ منظَّم ذي نسقٍ معروف إن كان فكراً أو واقعاً، فالاستراتيجيَّة تحتاج إلى ثلاث مراحل:
وهي مرحلة التَّشييد الفكري،
ومرحلة التَّشييد العملي،
ومرحلة التَّطوُّر.
ولعلَّ من خير الأمثلة لذلك هي قصة سيدنا يوسف عليه السلام: "‫قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ".
ولا بُدَّ لها من عاملين وهما:
اختيار القيادة من أجل إحسان الإدارة: ‫"وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ"؛ وهو أهمَّ القرارات الذي يترتب عليه تكوين وتنفيذ الخطط المصممة لتحقيق أهداف المنظمة،
ثمَّ الاستدراك والصيانة، أي القيموميَّة بأمرها.
إذن فاللغة في قمَّة أدائها تكون ترجمةً شاملة للفكر خاصَّةً إذا كانت غير مسهبة، وبمعنى آخر أن يوافق النَّقل العقل، فما تنقله اللغة يجب أن يوافق ما تفهمه الأذهان بلا نقصان.
ونحن نعلم أنَّ معجزة الخلق هي في اختزال الكائنات الحيَّة في حمض أميني لا يُرى بالعين المجردة ولكنَّه يحمل كلَّ مباني ومعاني المخلوق، فهو في جوهره لغة مكتوبة ولذلك يطلق عليه شفرة أو رمز الجينات، ولذلك ما أن يجد تربة صالحة إلا وينمو في شكل إنسانٍ أو مخلوقٍ آخر كامل الدَّسم حسب جدول زمني ثابت مثل شروق الشمس ومغربها.
فحبوب القمح لا تنبت في كلِّ أرضٍ وهذا ينطبق على القرآن الكريم فهو تنمو أفكاره ومفاهيمه على حسب تربة من يزرع آياته ويسقيها ويرعاها، فإذا كانت شروط النَّمو المثاليَّة متوفِّرة فهي ستنمو وتترعرع ‫"كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ" يسرُّ النَّاظرين وينتفع به العالمين.
وإذا تأمَّلنا فسنجد أنَّ تفاعل اللغة؛ والتي هي المبنى، مع الفكرة؛ والتي هي المعنى، ينتج معنى المعنى أو ما وراء المعنى، ولذلك نجد بلاغةً معجزة في الآيات القرآنيَّة كأنَّها بذرات حيَّة إذا ما وفَّرنا لها ماء الفهم، وتربة المعاني، وهواء الإخلاص أنبتت من كلِّ زوج بهيج. هكذا تُوضع الاستراتيجيَّة وهذه هي عناصرها، فالآيات توضِّح لنا كيفية وضع التَّدبير أو الاستراتيجيَّة وعناصرها الأهم.
ولذلك فالجسد لاستراتيجيَّة المسلمين هي كتاب الله وهو نهر المبنى الذي يحمل بين ضفَّتيه ماء المعنى المتجدِّد والذي يحمل بذور الخير، والتي لا يعرف طريقة إنباتها إلا أصحاب العلم والمهارة والخبرة والتَّقوى الذين يستخدمون التَّفكير التَّدبُّري لإدارة حياتهم وفهم مغزاها:
"كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ".
فالآية تقول إنَّ الكتاب مبارك، وكلمة مبارك تعني أنَّه كثير المنافع والفوائد والخير والنَّماء، وتطلب الآية تدبُّر آياته والمعنى أن يتأمَّلوا ويتفكَّروا فيه على مهل والنَّظر إلى عاقبته، أي بمعنى آخر ليستخدموا الفصَّ الأمامي من المخ الذي يقوم بكلِّ المهام التَّنفيذيَّة للعقل وأوَّلها وضع الاستراتيجيَّة التي يعرف هدفها، وتحليل منافعها وضررها لتقارن وتوزن لتُعرف عاقبتها. ولذلك ارتبط التَّفكير التَّدبُّري، الذي يحتوي في جانبيه التَّفكير التَّفكُّري والتَّذكُّري؛ والثلاثة أنواع هي أنضج أنواع التَّفكير، بالتَّدبير الذي هو الاستراتيجيَّة.
والتَّدبير؛ وهو تهيئة الأمر وتنفيذه ومتابعته وتذليل خطواته ومشكلاته وصيانته:
"يُدَبِّر ُالْأَمْرَ مِن َالسَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ"، وله كامل التَّحكُّم في كلِّ شيء: "لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ
"، ويشمل التَّدبير كلَّ عناصر الاستراتيجيَّة، وهي كثيرة، منها حسن القيام على شئون العالم وتصريف أموره بقدرة وحكمة، وذلك بوضع الخطط والسياسات المفيدة التي تحدِّد الأهداف. وأيضاً التَّرتيب للأولويَّات والخطوات والتَّرتيبات والإجراءات التي توجَّه التَّنفيذ، والتَّسيير، والاحتياط والاستعداد للطَّوارئ، وبالعناية بالمنفِّذين وما يجري تنفيذه.
فما هو الأمر إذن؟
الأمر نقيض النَّهي، وهو يختصُّ بالفعل، فلا أمر بلا فعل يتبعه إن كان لتنفيذ فعل أو النَّهي عنه، ولكن تنفيذ الأمر يعتمد على قدرة الآمر وقدرة المأمور ووسعه، فإذا كان الآمر هو الله سبحانه وتعالى فإنَّ الأمر يبدأ منه وله يعود، وهذا غير ممكن في حال البشر إذ أنَّ الإنسان إذا أَمَرَ بتنفيذ شيء فليس له كبير تأثير في طريقة التَّنفيذ ولا في اتِّقاء كلِّ العواقب مثل أن تعطي توجيهات لمن يبني بيتك: "أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ".
ولأهميَّة الأمر، الذي يتبع الوصول لقرار بعد مشورة؛ لأنَّ منها آمره واستأمره أي شاوره، لم يترك الله سبحانه وتعالى تدبير أمر السماوات والأرض لمخلوق ولم يعتمد على مشورة أحد: "وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ".
ونحن عندما نتحدَّث عن المولى عزَّ وجلَّ فإنَّنا نتحدَّث عنه سبحانه وتعالى في سياق: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ".
فإنَّه لا يحتاج لوقت ليفكَّر ولا ليقرِّر ولا لينفِّذ وإنَّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وكينونة الأشياء في مقدرته ليست بالكلام أو الإشارة وإنَّما بالخاطرة.
فهو لا يحتاج أن يستشير أو حتى أن يُخطر أحداً بنيَّته على فعل شيء، وهو أيضاً جلَّ ثناؤه لا يحتاج لملائكة يفوِّض إليهم أداء الأعمال وإنَّما يربَّينا على أبجديَّات العمل الجماعي وتكامل القدرات والمواهب.
وفي قوله الكريم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ".
+++++
وسنواصل إن أذن الله تعالي
ودمتم لأبي سلمي
مؤسِّس حزب الحكمة
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.