كلية الارباع لمهارات كرة القدم تنظم مهرجانا تودع فيه لاعب تقي الاسبق عثمان امبده    بيان من لجنة الانتخابات بنادي المريخ    بيان من الجالية السودانية بأيرلندا    رواندا تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لاستقبال ما يصل إلى 250 مهاجرًا    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    شاهد بالفيديو.. السيدة المصرية التي عانقت جارتها السودانية لحظة وداعها تنهار بالبكاء بعد فراقها وتصرح: (السودانيين ناس بتوع دين وعوضتني فقد أمي وسوف أسافر الخرطوم وألحق بها قريباً)    شاهد بالصورة.. بعد أن أعلنت في وقت سابق رفضها فكرة الزواج والإرتباط بأي رجل.. الناشطة السودانية وئام شوقي تفاجئ الجميع وتحتفل بخطبتها    البرهان : لن نضع السلاح إلا باستئصال التمرد والعدوان الغاشم    وفد عسكري أوغندي قرب جوبا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    مجاعة تهدد آلاف السودانيين في الفاشر    تجدّد إصابة إندريك "أحبط" إعارته لريال سوسيداد    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    لدى مخاطبته حفل تكريم رجل الاعمال شكينيبة بادي يشيد بجامعة النيل الازرق في دعم الاستقرار    عثمان ميرغني يكتب: لا وقت للدموع..    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حامد عثمان على باب الفضيحة "أم جلاجل"
نشر في الراكوبة يوم 09 - 04 - 2017

هكذا احتفلت، في تلك الليلة الصيفية البعيدة، بعيد ميلادي التاسع والعشرين، يا رفاق. احتفال من نوع فريد.. لا شموع تنيره، لا دفء رفقة، لا ضجة حميمة لملاعق على حواف آنية، لا بهجة صديق، لا كأس، لا موسيقى، لا ضوضاء آسرة، لا ثراء حضن أنثى، لا أماني بحياة مديدة سعيدة، لا هدايا، ولا حتى تأمّلات فلسفيّة حول مباهج حياة ومآلات الفناء أو العدم. احتفال يليق فقط بنهاية عقد وبداية عقد جديد.
كنت أحسّ، عند مطلع الليلة، وعلى نحو بدا الأغلب مبهما وغامضا، بشيء ثقيل، لا يني يضغط، ببطء وتزايد، على عظام صدري، وهو يكاد يهصرها ضلعا فضلعا، وقد أخذ يزداد منعة وثقلا، كلما مضى الوقت، أو تقدم. لعلّه أثر تدخين أعقاب السجائر الملقاة، على الطرقات، كيفما اتفق، هنا وهناك. لعلّه أثر هواء الغرفة الميت المشبع بعفن الرطوبة. أو كما لو أن أحدهم يحكم قبضته حول خناقي. ولم أكن آملا مع ذلك في خروج ولا بي حاجة بعد في نوم. ولا حتى ثمة من ذكرى بدأت تعاودني. كما لو أنني صفحة بيضاء خالية تماما من كل حنين ورغبة وحلم. فمددت يدي، والحال تلك، وتناولت أحد أعداد صحيفة الأهرام، وبدأت أقرأ، فقط ولا أكثر، من باب "لا بد في الأخير من عمل شيء ما"؛ متابعا أخبار عالِمٍ "جليل" يدعى أحمد زويل فاز للتو بجائزة نوبل في الفيزياء: "تتلخص فكرة الفيمتو كيمياء والتصوير فائق السرعة في استخدام أشعة الليزر ذات الترددات العالية لتصوير سلوك الجزيئات الذرية، وتتبع التحولات التي تحدث بعد أي نشاط كيميائي". ولم أفهم.
كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل. كان الستر والفضيحة والجنون ربما وجوها متناوبة لعملة واحدة داخل حدود تلك الحارة المصرية الغارقة في سباتها الكوني المطبق. والغرفة اللعينة، في شأنها القديم، لا تزال ساكنة، وقد بدت مغمورة تماما بظلال ذلك الأسى وربما بفيض من ذلك الحنين إلى ما لم يكن بعد وفوضى السنوات: صراصير ميتة، أخرى راكدة، ثالثة نشطة، بقايا طعام أعلى المكتب، غبار متراكم استحال لونه على الأرضية الإسمنتية العارية إلى سواد وتدرجات رماديّة قاتمة، عناكب تنسج على جوانب السقف بدأب، رفوف خالية، ملابس تقبع في قاع الدولاب الخشبي المشرع كجبل صغير من القذارة، صور ممثلات وعارضات أزياء ألصقها المستأجر السابق على أحد الجدران الرمادية القاتمة كيفما اتفق، صحف قديمة وأخرى حديثة، مجلات متخصصة ومصوَّرة، مسودات في تاريخ ثورات منسيّة ومجهضة بقسوة أو لحماقة، أرتال مبعثرة من كتب، ومراجع تتوزع كالدمامل المتقيحة هنا وهناك. كان المشهد برمته أشبه بتجليات فكرة خارجة للتو من رأس شيطان عزب له سبعة قرون من الوحدة والكبت والظمأ.
وكنت راقدا متمددا، لا أزال عهدي منذ ازداد الليل حلكة، على سرير الحديد الضيق، حيث أواصل قراءة الصحيفة نفسها، في عمق الصمت المتنامي أكثر فأكثر، محاولا جهدي كله عقل أبعاد حدث ضخم، في الفيزياء قد يغير وجه الحياة "كليّة". كما قيل. ولم أفهم شيئا بعد. أنا أسير العبارات وعاشقها الأبديّ المترع بخدريس الشعر وأدبيات هذا اليسار. أما الخمر اللعينة فلم تكن هناك حتى كي تسعف. والأدهى انعدام رغبتي الذاتية في نفض كل ذلك الشعور، بالحيطان الجاثمة داخل صدري. ولا مفر. إذ واصلت جهدي ذاك الأكثر مدعاة للتعاطف ماضيا في دهاليز قراءة مضجرة ومقبضة بذات الدأب والعناد: "ولتقريب الفكرة إلى الأذهان يمكن اعتبار نبضة الليزر التي تستغرق جزءا من مليون المليون جزءا من الثانية تحاكي غطاء عدسة الكاميرا، حيث إن كل نبضة تصطدم بالذرة وترتد حاملة معها صورة مختلفة، وبذلك فإن سرعة النبضات الليزرية التي تفوق حركة الجزئيات بآلاف المرات تعطي شكلا كاملا لخطوات التفاعل".
لما لم أفهم بعد، وضعت الصحيفة، على المكتب، قرب الأباجورة الفضية المطفأة، وأنا لا أزال في تمددي ذاك، ولما عادت يدي فارغة، قفزت من السرير، على حين غرة، وغادرت الشقة، تاركا الباب ورائي مواربا. وقد انحدرت عبر تلك الدرجات الإسمنتية القليلة المؤدية إلى الشارع، حيث توقفت هناك، داخل فراغ باب البناية المفتوح على مصراعيه. مددت رأسي إلى الخارج. مثل ثعبان أسود يطل من جحره. أخذت أتلفت يمنة ويسرة. مسحت بناظري بلكونات الحارة المقابلة. لا أحد يدري إن كان ثمة من أحد آخر يتلصص كذلك متواريا بالليل ومشبعا بالأرق. كانت فروع الأشجار القليلة المتناثرة بغير انتظام ثابتة يلفها السكون والعتمة. أشجار نحيلة. تشكو من التلوث وقلّة الماء، أو الرعاية. ثمة بضع سيارات محدودة القيمة تنام أمام محلات الحرفيين والبقالة على جانبي الشارع. كنت أستطلع المكان بحذر سارق. وكان كل ما رأيت وسمعت وتنفست وشعرت به يدفعني قدما للاحتفال بعيد ميلادي التاسع والعشرين على ذلك النحو الآسر الفريد. بل البديع. ولم أتردد. منذ بداية الليلة، بدا ثمة أكثر من سبب قابع هناك لتكاثر خلايا الضيق داخل صدري: التفكير في وفاة الرفيق فلاديمير لينين المبكرة، اعدام زعيم الحزب منذ أكثر من ثلاثة عقود وترك ذرية ضعفاء، قرار الحاج إبراهيم العربي برفع قيمة الإيجار بغتة، آثار الرطوبة وهي تجدد آلامها على ظهر ساقي اليسرى، وذلك الإحساس المتفاقم في داخلي بانهيار البناية على أمّ رأسي في أية لحظة. هكذا، كنت محاصرا بما بدا لي عصبة أعداء غامضين لا ينقصهم الحماس. وكانت كل تلك الطرق القاتمة تؤدي في الأخير مجتمعة إلى القيام بذلك الاحتفال الأكثر فرادة من نوعه في العالم قاطبة ولا مراء. احتفال الأرجح يثير حيْرة الشيطان الرجيم نفسه.
عدت إلى الشقة. دفعت الباب الموارب. أوصدته دون صوت. فجأة، أسفل النور الشاحب، تراءت أمام عيني سلسلة من عناوين على كعوب بعض الكتب المتراكمة كحيوات يفصل بين بعضها البعض آلاف السنوات، أو القرون:
"سيدتي، كيف تنجبين أول أطفالك؟"، "شبح العولمة يدق الأبواب"، "رسائل الإمام الشهيد حسن البنا"، "اليسار العربي إلى متحف التاريخ؟"، "دليل الأكلات الشامية اللذيذة"، "صعود القوى البديلة"، "أربع وعشرون ساعة في إسرائيل"، "نقد الفكر اليومي"، "علامات يوم القيامة"، "الآثار الاجتماعية لعولمة الاقتصاد"، "معذبو الأرض"، "العام الخامس للثورة الجزائريّة"، "قوى اليمين تُغير من جلدها"، "طلائع ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال"، "تاريخ النقود"، "الإنسان ذو البعد الواحد"، "الصناعات الدقيقة وعلوم الفضاء"، "مذكرات رجل قتلته المخابرات"، "الشخصية اليهودية في أعمال كبار الروائيين الأوروبيين"، "شرح صحيح البخاري للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773- 852 ه)"، "خمس وخمسون طريقة فرنسية لممارسة الجماع"، "مصادر الطاقة النظيفة على مشارف القرن الحادي والعشرين"، "مناهج ما بعد الحداثة". الضجيج. لا شيء يتردد داخل رأسي الآن، سوى الضجيج. لا شيء هناك، غير الضجيج. أغلقت عينيَّ لدقائقَ بدت كدهر، كنت أستجمع خلالها شتات روحي، وقد ظللت كذلك، أستقبل أجزائي الضائعة، إلى أن شعرت بي أعود كاملا مكتملا إلى ذاتي، وقد غمرتني أخيرا، حالة من الخشوع، أو السكينة.
هذه إذن طقوس صلاة وثنية خاصّة جدا لا يؤديها المرء، على ندرتها، ومشقة القيام بها، إلا من باب المغامرة، أو الجنون، وربما اليأس أحيانا. ومع ذلك، لا أمتلك سجادة واحدة داخل هذه الشقة الأرضية الضيقة كقبر.
سجادتي العمارة بأكملها.
هكذا، شرعت في خلع حذائي البيتي القديم، برعشة عابد أضناه القيام، أو السهر. قطعة فقطعة، نضوت عني ثيابي، ورميت بعيدا عني، بكل شيء، حتى بسروالي الداخلي المتسخ.
أخيرا، أدرت وجهي صوب حائط صور الممثلات وعارضات الأزياء. حائط مبكى المنفيّ الغريب لحظة أن يكافح سعير الوحدة بدعاء الخطر وهو لا محالة هالك. في كل عيد ميلاد، سأتخذ منهن خليلة، تؤجج محراب الرغبة لمدى عام، فليتقدس إذن الحائط واهب الخيال لعبوره. ولتتمجد جهامة القضبان صانعة الأبطال والثورة.
لما فتحت عينيَّ ببطء، رأيته هناك، موضوعي الخاصّ، هو نفسه، ذلك السجين، حبيس سراويلي المتعاقبة منذ المراهقة، بلا أمل. كان يتمدد. ينتشر واحدة فواحدة. يغادر منابته القصيّة أسفل منتصف جسر الساقين. لا شيء في الأثناء يتبادر إلى ذهني من تاريخي القديم. المستقبل لا وجود له. الحاضر بيت الداء والدواء. وموضوعي الخاصّ لا يزال سيد الوقت وحده، الآمر الناهي هناك، بلا منازع، أو منافس. ها هو نفسه، يواصل تأرجحه أسفل ضوء اللمبة الشاحب كظلال نور شمعة في معبد فرعوني، يعلو ويهبط برأسه المُثقلة، ينتفض من حين لآخر، كشعب كريم أرهقه عقودا نير الطغاة وعسف الحكام أو الكوارث. فجأة، أحسست بوهج أنفاسها المتصاعد وهو يلفح صفحة وجهي. تلك جوليا روبرتس. تخرج بلحمها وشحمها حيّة من قلب الحائط. شعر أشقر مبتلّ. قوام لادن طيِّع. ملمس ناعم. شفتان مكتنزتان. نهدان يذوبان بلطف عميقا داخل صدري. إلى أن كدت أمزق الصورة. ولم أعد أحتمل، أكثر. غادرت حائط المبكى. وقد وضعت تلك الصور الملصقة عليه مجتمعة في ذاكرة العانة. أذكر أنني مضيت بها متراجعا والوقت في بطئه والرغبة في اندفاعاتها فرسا رهان على مضمار مغامرة. بغتة، أصابتني عيناه. رجل شاحب. أخذ يتفحصني بأنفاس مكتومة. كان يطل، في وجوم لا نهائي، من داخل مرآة جانبية علاها غبار خفيف. كما لو أنه يتأمّل في جنونِ عالمٍ هو وحده مركزه وأطرافه البعيدة الدائرة، في فلكه، ومع ذلك، لا سيطرة له عليه. "عيد ميلاد سعيد، يا صديقي"، خاطبته، بنبرة مرتعشة، وعلى عجل، "عيد ميلاد سعيد، يا صديقي"، ردد معي، في آن، بما بدا حشرجة ورقة شجرةِ نيم صفراء تتكسر أسفل وطأة قدم ثقيلة لا مبالية. وها هو، موضوعي الخاصّ نفسه، يتقدمني، يقودني إلى الداخل، صوب حيِّز ملحق صغير يدعى "المطبخ"، حيث توقف هناك، مشدود القامة، كجندي يلقي بتحية، ثائر الأعصاب، مثل كلب يتطلع إلى سيده لحظة جوع. الصمت لوعة وعواء ورغبة ورجاء. هكذا، بشوق، مد إليَّ برأسه المثقلة، عنقه المشدود، عوده الغليظ المستدير الممتد صوب منابت الساقين، إلى أن غمرتُه، حتى منبت العانة، بما تبقى من زيت الطعام.
ولم أتردد.
حملت كرسي الخيزران من وراء المكتب الخشب بيدي اليسرى الناشفة. كان الإنجيل لا يزال قابعا هناك. "مثل دواء منتهي الصلاحية". وهذا مرض عضال. كنت أهدئ إذن من روع موضوعي الخاص، بيدي الأخرى، والاحتفال قاب قوسين أو أدنى، على بدئه. ولم يعد ثمة من بصيص داخل الشقة وخارجها. كان الظلام يغمر تفاصيل العالم. وقد أطفأت قبلا تلك اللمبات القليلة الواحدة تلو الأخرى. كان قلبي يخفق بشدة وأقدامي تتحسس الطريق إلى خارج الشقة. ثم توقفت هناك أستجمع أنفاسي، بصعوبة تامّة، بينما أخذ يغني دمع غبطة، داخل عينيّ، من دون توقع.
وضعت أذني وراء شُرَّاعة الباب. أصغي لما يدور خارج الشقة. لا نأمة هناك. فتحت الباب على مصراعيه. وضعت أمامه كرسي الخيزران تحوطا من هبوب ريح صيفية مباغتة أثناء احتفالي الوشيك، بعيدا، هناك، في الأعلى.
كان مدخل البناية الصغير لا يزال غارقا في بحر من العتمة والسكون. وكنت أقف هناك، داخل فراغ الباب، مترددا ما بين عالمين، لا يجمع بينهما سوى هالك، ولا جسر يصل بينهما سوى الجنون، أو المغامرة أو ربما اليأس أحيانا. أجل، كنت أقف هناك، عاريا تماما، فوق الخط الفاصل بين عالمي السر والعلن. ورائي الشقة، الغرفة، القبر في سكونه الأبدي، عالم الأسرار الصغير البائس، وقد لف كياني تصميم لا هوادة فيه. وأمامي هناك، على بعد خطوة واحدة يسارا، بدت بداية السلم، المدخل إلى الطوابق العليا، ساح الاحتفال والفضاء المرتقب لتصفية الحسابات العالقة. وكان كل الاحتمالات الغبية واردا: صعود أو هبوط أحد أولئك السكان في موجة أرق، إضاءة نور السلم لحظة وصولي إلى الطابق الثالث، زيارة صديق غير متوقعة، وما لا يعلمه في الأخير سوى الشيطان.
أخيرا، غادرت الخط الفاصل. وضعت قدمي بجرأة وخفة على عتبة السلم الأولى. لا أثر الآن لكل ذلك الضجيج المتصاعد من أسفل قبة رأسي. كنت أصعد حافيا مرتجفا، كاتما أنفاسي، واطئا على ذرات الرمل الدقيقة والحصى، مشرعا أذنيَّ لأدنى نأمة. قد تصدر عن أسفل، أو أعلى، بينما موضوعي الخاصّ لا يزال يشق الطريق أمامي كمقدم سفينة حربية لا مرئية. هناك، فيما وراء الأبواب المقفلة، في كل طابق، كانت الأجساد لا تزال تغط ولا بد داخل موتها الصغير، لعل بعضها كان يحلم، لعل بعضها الآخر كان يعاني من وطأة الكوابيس أو الديون.
تجاوزت الطابق الثاني.
الآن، غدا الرجوع إلى الشقة، القبر، عالم الأسرار الصغير البائس، من رابع المستحيلات، والحال تلك. لا تراجع إذن، لا استسلام، ولا مهادنة. ثلاث لاءات مصنوعة من جحيم الكبت وظمأ رغبة مزمن لا رواء له.
كنت أعبر الطوابق مرتقيا وموضوعي الخاص داخل تجويف يدي اليمنى، يغوص ويطفو طليقا، يتأخر خطوة، ثم يتقدم خطوتين، متوغلا في الصمت، ومدهونا بالزيت وظلمة الدرج الحالكة وخيالات آلف النسوة المستحيلات.
ولم أتوقف.
واصلت الصعود محاطا في كل خطوة بزهو احتفالي، وقد تركت الغرفة ورائي، مشرعة الباب، ومغمورة بظلال ذلك الأسى أو الحنين وفوضى السنوات.
هناك، في الطابق الثالث، إلى يسار باب شقة الحاج إبراهيم العربي، توقفت.
كاد الصمت والظلمة يتحدثان من كثافة.
ثم وضعت ساعد يدي اليسرى على الحائط كوسادة. وبدأت ذلك الاحتفال، بعيد ميلادي التاسع والعشرين. كنت أسمع صوت انزلاقاته داخل تجويف يدي المدهونة وهو يُقطِّع رحم ذلك الفراغ الرطب ببطء وتلذذ بالغين. من شقوق الباب، عبر خلل الشُّرَّاعة الصغيرة المؤصدة بإحكام، بدأتْ تتسلل إلى أنفي، رائحةُ شقة الحاج إبراهيم العربي، مثل رائحة دكان قديم للعطارة، وكدت أسقط بينما أحاول جهدي كتم ضحكة مباغتة.
في هذه اللحظة، لو فتح الحاج إبراهيم العربي باب شقته، لما تسلل إليه الشك لحظة أنه يقف قبالة الشيطان الرجيم نفسه وجها لوجه. تمالكت زمام خيالي.
وسعيدا، عاودت التوغل داخل غمار احتفالي المدهش المجيد. كنت ألهث. وكانت الأفخاذ والسوق والنهود تتري وموضوعي الخاصّ يغوص في نهر الشفاه السُّفلى لكلوديا شيفر ويطفو ليغوص مرة أخرى في ثنايا جوليا روبرتس قبل أن يطفو من جديد مواصلا سعيه المحموم بين ساقيّ ما بدا في حمّى الهذيان نعومي كامبل غائرا صوب خلوده أو فنائه والأمر سيان. هكذا، نطفة فنطفة، أتممت الحفل، وبدأت رحلة العودة، هابطا درجات السلّم المظلم، صوب باب الشقة المشرع هناك، في الأسفل، مثل حلكة بئر مهجورة لا قرار لها. وفي أثناء ذلك، حدث ما كنت أخشاه. لا بل وقع بالضبط ما كاد يذيب مفاصلي، يقصف بأجنحة عقلي، بكياني كله، ملقيا بي، من دون أدنى قدر من رحمة، في براثن الفضيحة أو الجنون. كنت متأكدا، وأنا لا أكاد أقف على أقدامي، أن شعري استحال، من هول الصدمة، إلى بياض. إذ ذاك، مرق من بين قدمي قطّ، لعله أسود، محدثا جلبة لا نهائية. وكنت لا أزال أقف، متسمّرا في مكاني، لا بل ميتا. أنصت لصوت دقات قلبي. لما عاد الهدوء يلف المكان مجددا، خطر لي أن أتبول، مثل طفل شقيّ، على ما تبقى من تلك الدرجات المتعاقبة.
وقد كان.
حملت إذن كرسي الخيزران إلى الداخل. صفقت الباب خلفي. فأحدث تلك الجلبة. ثم أضأت النور. وكنت لا أزال أشعر بتلك الراحة التي تعقب البكاء. وكان ثمة شخص يلوّح لي بعلامة النصر من داخل تلك المرآة الجانبية المتربة. بادلني الابتسامة الواهنة الحزينة المتعبة نفسها وكذلك التهنئة "عيد ميلاد سعيد". ثم مضى صامتا إلى الحمّام. هناك، أسفل مياه الدش، كان موضوعي الخاصّ يتدلى ضامرا منكمشا ملمعا من أثر الزيت، خائر القوى، مفتت العزم، وقد لاح لسبب ما مثل جندي خرج للتو من رحى حرب أهلية ضروس لم يكسبها أحد.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.