أقطن في بناية مكوَّنة من ثلاث طبقات تطل على شارع أبي بكر الصديق في "مصر الجديدة". تجاورها، من ناحية الغرب، بناية نحيلة مكوَّنة من خمسة طوابق، يطل مدخلها المعتم الكابي على شارع هارون الرشيد، وقد ميز باحتها الأمامية شجرة، أخذت تستحوذ، مع مرور الوقت، على مركز تفكيري شيئا بعد شيء، وحتى الآن، لا أدري ما الذي ظلّ يشدني إلى تلك الشجرة، على ذلك النحو الآسر الفريد؟. كان بين البنايتين ممران جانبيان يفصل بينهما حائط قصير. وكانت محض شجرة عتيقة، لا تثير في دواخلي أدنى خلجة من تلك الأحاسيس، عندما أراها كاملة أثناء سيري في شارع هارون، قبل أن أنحرف يسارا نحو بنايتي، حيث درجت منذ مدة على ممارسة حياتي العادية بين جدران غرفة السطح المؤجرة، وقد أحاطت بي من كل ناحية هوائيات الإرسال التلفزيوني، مثل شواهد مقبرة مسيحية قديمة. في أحيان كثيرة، كنت أتوقف في شارع هارون. أطيل النظر إلى الشجرة نفسها، من فوق الرصيف البعيد، متمعنا فيها برويَّة، باحثا جهدي كله عن سر تلك الأحاسيس، التي ظلت تجتاحني كلما أبصرت فروعها العالية، من "هناك". كذلك، وعلى الدوام، بدا الأمر لي من زاوية شارع هارون: مجرد شجرة "عادية"، تكاد تحتل الجانب الأيمن من واجهة البناية المجاورة، وهي تشرئب صوب ذلك الفضاء بساق ضخمة، فيما أفرعها الأكثر علوا تتهادى في ثباتها غير بعيد من أبواب الغرف الجانبية المفضية إلى بلكونات الطابق الرابع المحاطة بشبكة حديدية صدئة. على أن الأمر يختلف حقا حين أرنو إليها من هناك: فأي سحر، أية فتنة، بل أي جمال غامر أجدني سابحا داخله وقتها؟. ربما لهذا، ظللت أحرص، في أيام الخميس، على العودة، قبل حلول ساعة الأصيل، من جولاتي الغامضة، في وسط المدينة. وكان ذلك وقتا كافيا لدخول الحمام على عجل، إعداد كوب من الشاي، ثم الجلوس بحواسي كلها أمام غرفة السطح المؤجرة انتظارًا لظهور الشجرة، المتعة. بعد ثوان أشبه بدهر، من يأس ورجاء، أبدأ في التململ، متنفسا بصعوبة وبطء كما لو أنني أقترب من نهاية قمة جبلية، مرتعشا كمراهق على أعتاب القبلة الأولى، وقد انصبت عيناي على نافذة موصدة في ظهر البناية المجاورة تقبع وراءها امرأة. نافذة لا تفتح إلا نحو الساعة من كل أسبوع. وكان ذلك في شهوره الأولى يثير حيرتي إلى حد بعيد، قبل أن أتحول عنه تماما إلى معشوقتي، الشجرة. كذلك، لم يكن بوسعي - ساعة أن تعرض جارتي، في أيام الخميس، عن فتح نافذة غرفتها، ما بين السابعة والثامنة مساء (إذا كان الوقت صيفا).. أو الرابعة والخامسة (إذا كان الوقت شتاء) - رؤية الشجرة في فروعها العالية العالية. أخيرا، أرهف أذني لصرير رتاج النافذة، وهو يتناهى مثل مطلع سمفونية عبر الفراغ القصير القائم بين البنايتين. ثم لا تمضي سوى ثانية واحدة، حتي تلوح ذرى راحتيها، ثم ذراعاها وهما يدفعان ضلفتي الشيش الأزرق الباهت نحو جانبي الحائط في جلبة، ولا أروع!. على هذا النحو، كان وجه جارتي يطل على العالم، ناظرا خطفا إلى أسفل، أو إلى أعلى، أو متلفتا يمنة ويسرة، قبل أن يختفي داخل الشقة لأمر ما. إذ ذاك، إذ ذاك فقط، أستأنف رحلة النظر، عبر النافذة المشرعة للتو، إلى باب غرفتها الجانبي المفتوح على البلكونة و"مشهد الفروع العالية العالية". هكذا، حين أشاهدها من أمام غرفة السطح المؤجرة، وهي تخربش في دلال منغم وجه السماء، ثم تنثني سعيدة بعودة الطيور الصغيرة المتعبة؛ يجتاحني حب جارف تجاه الكون والجارة ونفسي. أظل في تحديقي هذا، غافرا لأعدائي ما قد تقدم أو تأخر، إلى أن تطل ثانية، وتغلق النافذة. لينفتح، في قلبي، مثل جرح غائر، بابُ السؤال "يا ترى، هل سأشاهد الفروع، بيتَ الطيور الصغيرة المتعبة، مرة أخرى"؟. "لو لا وجه الجارة، غلق النافذة، واختفاء باب غرفتها الجانبي لمدى ستة أيام متصلة؛ لما صار كل هذا الرواء الجميل"، كنت أدخل السكينة إلى نفسي. وأخاف، إذا تغيبتُ، في مرة مقبلة، لأي سبب، كأن يأخذني النوم خلسة، أو تمطر السماء بغزارة؛ أن يكمل الزمن دورتين. ولا أراها، وهي تميل سعيدة بعودة الطيور الصغيرة المتعبة، قبل مرور ثلاثة عشر يوما بالتمام. أذكر، في هذه اللحظة، أن النافذة، ومنذ أسابيع خلت، ظلت موصدة في مساءات الخميس، "رغم أني" لم أنم، ورغم أنها لم تمطر بغزارة... هذا الشتاء. [email protected]