حزب الأمة القومي: يجب الإسراع في تنفيذ ما اتفق عليه بين كباشي والحلو    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    الفنانة نانسي عجاج صاحبة المبادئ سقطت في تناقض أخلاقي فظيع    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    جبريل ومناوي واردول في القاهرة    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    الأمم المتحدة: آلاف اللاجئين السودانيين مازالو يعبرون الحدود يومياً    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    ((كل تأخيرة فيها خير))    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم الثورة..الأشياء تكمن في المفاهيم وتتجلي بالممارسة العملية


مفهوم الثورة
الأشياء تكمن في المفاهيم وتتجلي بالممارسة العملية
يهدف هذا المقال الي تناول مفهوم الثورة في العصور القديمة والحديثة، مع إعطاء لمحة تحليلية مختصرة عن الثورة السودانية، ماضيها، حاضرها، وآفاق مستقبلها وإستلهام بعض الدروس والعِبَر بغرض الإستفادة منها في تقييم تجربة الحركة الشعبية لتحرير السودان، منذ إنطلاقها في العام 1983م وحتي الآن.
وبما أننا وعدنا القراء الأماجد بتقديم مقال عن مفهوم الثورة، فلا يفوتنا أن نشير إلي مسؤليتنا عن ما نكتب وقياس مواقفنا وفقاً عليه، ومحاكمتنا إن أخطأنا في إصابة ما نهدف إليه والذي هو بالضرورة إنجاز التغيير بوعي وإدراك كافيين، ومن ثم صقل كل ذلك بالممارسة العملية التي تنفتح علي الأفق، حواراً ثراً، تلاقحاً، وإضافة.
أولاً/ خلفية تاريخية:
كانت العصور القديمة علي معرفة بالتغيير السياسي والعنف الذي يصاحب التغيير، ولكن تلك العصور لم تكن تري أن ذلك التغيير والعنف من شأنه أن يأتي بشئ جديد تماماً.
إن كلمة (ثورة) كانت بالأصل مصطلحاً فلكياً، إكتسب أهميته المتزايدة من خلال كوبر نيكوس، وكانت تعني الحركة الإعتيادية الدائرية للنجوم. وبما أن ذلك هو خارج تأثير الإنسان وبالنتيجة فهو لا يقاوم، فإن تلك الحركة لم تتصف بالجدة ولا بالعنف.
إن الكلمة تشير بوضوح الي حركة دائرية متكررة، إنها ترجمة لاتينية بالغة الدقة لمصطلح وضعه المؤرخ الروماني بوليبيوس (200 – 118ق.م)، وكان أصله قد نشأ كذلك في علم الفلك وأستخدم علي سبيل التشبيه في السياسة.
فإذا أستُخدِمت الكلمة للتعبير عن شئون البشر علي الأرض، فهي إنما تفيد بأن أشكال الحكومة القليلة المعروفة تدور بين البشر الفاني بتكرار أزلي وبالقوة ذاتها التي لا تُقَاوَم وتجعل النجوم تسير في الدروب المرسومة لها في السموآت.
تعريفات العصور القديمة:
- افلاطون: الثورة هي (تحول شبه طبيعي في شكل من أشكال الحكومة الي شكل آخر).
- أما بوليبيوس فيعرف الثورة بأنها: (الدورة المحددة المتكررة التي تحكم الشؤون الإنسانية لأنها مدفوعة دائماً نحو الحدود القصوي).
فحين نزلت الكلمة من السماء لأول مرة وأُدخِلت في الإستعمال لتصف ما حدث علي الأرض بين بني البشر الفانين فقد بدت بوضوح كمجاز أو إستعارة، والتي شُبِهَت بالشروق والغروب للشمس والقمر والنجوم منذ الأزل.
ووفقاً للمعني الأصلي لكلمة "ثورة" فإن مضمونها العميق هو جدلي ويخضع للحتميات أكثر منه فعل ثورى عنيف يحدث صيرورة تاريخية في بداية أحداث الثورة ويأتي بالجديد قياساً علي سابقه.
ولأول مرة تأخذ كلمة ثورة معناها في الإصطلاح السياسي كان ذلك في العام 1660م، بعد الإطاحة بالبرلمان وبمناسبة إعادة السلطة الملكية، وقد أستخدمت الكلمة بهذا المعني بالضبط في عام 1688م، حين طُرِدَت أسرة ستيوارت و نُقِلَت السلطة الملكية الي وليام وماري، في إنجلترأ.*
إن (الثورة المجيدة) وذلك الحدث الذي عن طريقه وَجَدَ المصطلح بمفارقة كبيرة مكانه الأكيد في اللغة السياسية والتاريخية، لم يُنظر إليها كثورة علي الإطلاق، وإنما كإعادة للسلطة الملكية الي مجدها القديم وأخلاقيتها القويمة السابقة.
وفي 14 يوليو/ تموز عام 1789م، في باريس سمع لويس السادس عشر من رسوله ليانكورت بسقوط الباستيل وتَمرُد القوات الملكية، دار حوار بينهما:
"يُقال أن الملك صاح، قائلاً: (إنه تَمرُد) فصححه رسوله ليانكورت، قائلاً: (كلا يا صاحب الجلالة، إنها ثورة).
إننا هنا نسمع الكلمة وهي لم تزل بالمعني المجازي القديم وهو معناها الذي يفيد بأنها من السموات الي الأرض وفقاً للمجاز القديم، وكلنا هنا، وربما لأول مرة، نجد أن التأكيد قد إنتقل كلياً من شرعية حركة دائرية متكررة الي الأمر الذي لا يقاوم.
ومنها تطورت كلمة ثورة لتأخذ معناها ومفهومها في الإصطلاح السياسي الحديث.
ثانياً/ المفهوم الحديث للثورة:
إن كلمة "ثورة" لا تنطبق إلا علي الثورات التي يكون هدفها الحرية. وإن من الأمور الجوهرية جداً، في أي فهم للثورات في العصر الحديث، أن تتزامن فكرة الحرية مع التجربة لبداية جديدة.
قد يكون من الحقيقة البداهية أن نقول إن التحرر والحرية ليسا مثل بعضهما، وإن التحرر قد يكون هو شرط الحرية ولكنه لا يقود إليها آلياً.
لأن، فكرة الحرية Liberty التي ينطوي عليها مفهوم التحرر Liberation، لا تتشابه مع الرغبة في الحرية Freedom.
وبما أن الإنقلابات وثورات القصور، حيث تنتقل السلطة من رجل الي آخر ومن زمرة الي أخري، كل هذه ظواهر مشتركة في الثورة التي يجري إشعال شرارتها بالعنف، فإن العنف وحده لا يكفي لوصف ظاهرة الثورة، وإنما التغيير هو الوصف الأجدر بها.
ولا يمكننا الحديث عن الثورة إلا حين يحدث التغيير ويكون بمعني "بداية جديدة"، وإلا حين يُستخدم العنف لتكوين شكل مختلف للحكومة لتأليف "كيان سياسي جديد"، وإلا حين يهدف التحرر من الإضطهاد الي "تكوين الحرية " Freedom.
وبذلك وحده يمكننا الفصل بين مفهوم الثورة في العصور القديمة والمفهوم الحديث، لأنه لا يوجد في التاريخ مرحلة عاد فيها "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الذي طرحته الثورة الفرنسية الي الوراء.
إن العلمانية، وفصل الدين عن السياسة، وتصاعد دنيا المدينة ذات المنزلة الرفيعة، هي بالتأكيد عوامل جوهرية في ظاهرة الثورة.
وهذا قد يوضح أن ما نسميه الثورة هو بالضبط تلك المرحلة الإنتقالية التي تؤدي الي ميلاد "مملكة"** علمانية جديدة.
وإذا كان هذا صحيحاً، ف "العلمانية" إذاً هي ذاتها تشكل أصل الثورة.
ومن الكلمات التي تخطر بالبال بطبيعة الحال هي:العصيان Rebellion، والتمرد Revolt، لكن هاتين لا تشيران أبداً الي تأسيس حرية جديدة.
تعريفات حديثة للثورة:
هناك العديد من التعريفات الحديثة للثورة، نورد منها ما يلي:
- صامويل هانتنيغتون Samuel Huntington: الثورة هى (تحول محلي سريع، أساسي وعنيف في القيم والأساطير المسيطرة في مجتمع ما وفي مؤسساته السياسية وبنيته الإجتماعية وقيادته وأنشطته الحكومية وسياساته).
- جيفري بيج Paige: (إن الثورة هي تحول سريع وأساسي في فئات الحياة الإجتماعية والوعي والإفتراضات الماورائية التي ترتكز عليها هذه الفئات وعلاقات القوة التي يُعبِر عنها نتيجة للقبول الشعبي الواسع النطاق للبديل الطوباوي للنظام الإجتماعي الراهن).
- أنطوني قيدن Gidden: الثورة هي (سيطرة قادة حركة شعبية علي سلطة الدولة عبر السُبل العنيفة وإستخدام هذه السلطة لإطلاق مسيرات هامة من الإصلاح الإجتماعي).
ثالثاً/ ماذا عن الثورة السودانية؟:
ماضيها وحاضرها:
في السودان قامت ثورات كثيرة في فترات الإستعمار المختلفة، وأيضاً بعد الإستقلال، سواءاً كانت مدنية أو مسلحة، ولكن لا ينطبق عليها المفهوم الحديث الذي يركز علي ضرورة التغيير وفتح الفضاء العام للحريات العامة وما يليه من مفاهيم جديدة تتعلق بحقوق الإنسان، ونقتصر التحليل علي ثورات ما بعد الإستقلال.
وبما أنه لا يمكننا الحديث عن الثورة في العصر الحديث إلا حين يحدث التغيير ويكون بمعني "بداية جديدة"، وإلا حين يُستخدم العنف لتكوين شكل مختلف للحكومة لتأليف "كيان سياسي جديد"، وإلا حين يهدف التحرر من الإضطهاد الي "تكوين الحرية " Freedom، فإننا نجزم بعدم نضج العوامل الضرورية وعدم إكتمال الظروف الموضوعية لإنجاز الثورة في الماضي، وبالخصوص فيما يتعلق بالجانب المفاهيمي الذي يرفد الوعي بالوجود والمصير المشترك، ويؤدي الي فعل تاريخي تشترك فيه أغلب الكيانات الممثلة للشعب لإنجاز التغيير وإعادة تأسيس الأوضاع علي أسس جديدة بمعايير مختلفة وشكل آخر، لبلوغ مرحلة الثورة شكلاً ومضموناً، جوهراً ومحتوي.
وإذا فتحنا النظر علي الأفق المنظور لتلك الثورات سنجد بكل تأكيد تخللها قصور معرفي نظري/فكري، يسند خطاب الثورة ويحوله الي خطاب إجتماعي ينجز مرحلة التنوير المفضية الي تبني الشعب بكافة فئاته وإختلافاته الطبقية والمذهبية والثقافية/ الإثنية،...الخ، لثقافة وطنية تسند التغيير وتخاطب بنية الدولة المأزومة بتقديم الحلول اللازمة والمتطورة.
وأيضاً فقدان تلك الثورات لتحديد من هم الأعداء الحقيقيين والمحتملين، أثناء مرحلة الثورة ومرحلة البناء الوطني التي تعقبها، مما سهل عملية إختطافها بواسطة جماعات لا علاقة لهم بالغايات المتعلقة بأهداف ومبادي الثورة، وخاصةً تحقيق العدالة الإجتماعية.
لذلك، نجد أن حركات التحرير في المناطق المتخلفة في السودان والتي سميت أنانيا في الجنوب، وسوني واتحاد عام جبال النوبة في الغرب، وإتحاد عام شمال وجنوب الفونج، ومؤتمر البجة في الشرق؛ وحركة كوش في الشمال، كلها حصيلة مباشرة لظاهرة استقلال أفريقيا بعد الحرب العالمية الثانية.
حيث إستولت المجموعات التي كانت تساعد الإستعمار في تحقيق أهدافه، علي السلطة. هذا "الاستقلال" بني على نتائج سياسة "فرق تسد" الاستعمارية.
ونتيجةً لذلك نتج تهميش غالبية الشعب السوداني "أفراد وجماعات" سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، في الدولة السودانية الوليدة بعد الإستقلال.
كل تلك العوامل مجتمعة هيأت المسرح السياسي السوداني لإنفجار الثورة، حيث بدأت في جنوب السودان وإستمرت من 1955م الي 1972م. وهي الثورة التي خاضتها الانانيا "1". ومن ثم تجدد النضال بعد انهيار اتفاقية أديس أبابا بظهور حركة أنانيا "2".
ولم يتوقف الأمر علي الجنوب فحسب بل إمتدت جذور الثورة الي مناطق أخري، إبتداءً بمؤتمر البجا الذي قدم الدكتور طه عثمان بليه مطالبه في عهد رئيس الوزراء عبد الله خليل في 1958م، وقُوبلت بالاستخفاف مما قاد البجا الي رفع السلاح في النهاية.
ثم قام إتحاد عام جبال النوبة وإتحاد عام شمال وجنوب الفونج، في 1965م بعد انتفاضة أكتوبر وقدما مطالبهما المحدودة والتي لم تجد الإعتبار.
ونتيجة لذلك إنضم جزء كبير من أبناء جبال النوبة للحركة الشعبية في العام 1984م، وتلاهم جزء كبير من أبناء النيل الأزرق في العام 1985م، لخوض النضال المسلح في نهاية المطاف.
ثم قامت حركة في دارفور، نبهت الي حرمان ذلك الإقليم من الخدمات والمرافق العامة وهي حركة (سوني) التي كان قوامها المسرحين من الجيش بعد حرب الانانيا "1".
وأيضاً لم يستجيب المركز لنداء أهل دارفور، وإستمرت التزمرات الي أن إنفجرت الثورة المسلحة في دارفور في 2003م.
إذا نظرنا لكل تلك التزمرات التي أنتجت الكايانات السياسية الإقليمية التي قادت لاحقاً الي العصيان Rebellion، أوالتمرد Revolt، في تلك المناطق نجد أن خطابها كان مطلبياً، ولا يشير أبداً الي تأسيس حرية جديدة، ولم يطرح رؤية شاملة تنجز التغيير وتقود الي تحولات أساسية وعنيفة في القيم والأساطير المسيطرة في المجتمع ومؤسساته (من الأسرة الي الدولة)، ولم تقدم نموذج قيادي يحتزي به علي شاكلة روبسبيار الثورة الفرنسية.
بل إكتفت بطرح خطاب مطلبي/ جزئي/ إقليمي، يفصل قضايا تلك المناطق كل منطقة علي حدة، بدلاً عن مخاطبتها بشكل بنيوي شامل يحقق نقلة نوعية نحو سودان متحد يتجاوز مرحلة الأزمة بطرح جديد وفق فلسفة ورؤية جديدتين، ربما كان ذلك نتيجةً لقصور الوعي بأبعاد الصراع.
وبالتالي أصبح الفرز القبلي/العِرقي، والجهوي/الإقليمي، هو أحد أقوي العوامل في تحديد الإنتماء الي تلك الكيانات، وبالمقابل تحديد الآخر/ المختلف، ووضعه في قائمة الأعداء بإختزال وتعميم مختلين ومعوجين يهددان بقصورهما المفاهيمي أي إكتمال للعوامل التي تقود للتلاحم الموضوعي لإنجاز التغيير، والأمر المزعج حقاً هو إستبطان كثير من الذين إلتحقوا بتلك الكيانات في فترة من الفترات، لمشاريع الحلول الجزئية/الإقليمية، حتي بعد إنتماءهم لكيانات سياسية ذات رؤى ومبادئ وأهداف مختلفة، مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان وهو الأمر الذي يُعتبر من أقوي العوامل الداخلية التي تهدد الثورة بالفشل في الراهن.
أما الثورات المدنية كثورة أكتوبر 1964م وأبريل 1985م، فهما أيضاً تخللهما قصور فكري نظري من جانب، وغياب القيادة الثورية التقدمية من الجانب الآخر، مما قاد في نهاية المطاف الي السيطرة عليهما بواسطة القوى الرجعية، التي أستخدمت السلطة الوليدة ومنجزات هاتين الثورتين، لتصفية الخصوم السياسيين وعلي رأسهم الحزب الشيوعي السوداني، رغم إيديولوجيته الإشتراكية/الثورية وفلسفته العميقة التي تجاوزت كل الخيارات المطروحة نظرياً في تحقيق العدالة الإجتماعية، وإدخال الدين في السياسة بطريقة لم يشهدها السودان من قبل وبذلك دخل الإسلام حلبة الصراع السياسي بعد (ثورة 21 اكتوبر 1964).
فبإسم الإسلام تم حل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من البرلمان. ثم برزت دعوة الدستور الإسلامي بشكل حاد وصاحبتها دعوة الجمهورية الرئاسية، وأصبحت فترة الثورتين (أكتوبر وأبريل) هي التربة الخصبة التي نمت وترعرعت فيها التحالفات ذات الطبيعة الإنتهازية بين القوى الرجعية التي يجمعها قاسم مشترك هو تطبيق الشريعة الإسلامية أو إنجاز دستور إسلامي لحكم الدولة السودانية.
وإستمرت المحاولات وفقاً لتلك الرؤى القاصرة الجزئية (من جانب ما نطلق عليه في الراهن قوى الهامش التي تقود النضال المسلح حالياً) و (غياب المشروع الوطني والقيادة الثورية التقدمية في التحالفات التي أنجزت ثورتي أكتوبر 1964م وأبريل 1985م).
وأصبح أمل التغيير بلا قوى حية وفاعلة لإنجازه، وأستمر الحال بعد ثورة أكتوبر، الي أن ظهرت الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان في عام 1983م علي المسرح السياسي السوداني. فحين أنشأت الحركة الشعبية ، قدمت تحليل نقدي لواقع الصراع في السودان وتوصلت لقناعة بأن المشكلة ليست جزئية تتعلق بمطالب كل إقليم علي حدة، بل هي مشكلة شاملة، وهي مشكلة كل السودان ولابد من مخاطبتها بطرح شامل وتفكير كلي وليس جزئي، وضرورة الكفاح لأبد أن تكون من أجل نوع جديد من السودان الذي نتبع له جميعاً، سودان متحد ولكن علي أسس جديدة وإدارة سودانية جديدة مبنية علي حقائق السودان علي كل من (التنوع التاريخي / والتنوع المعاصر). وهذا النوع من السودان أطلقت عليه إسم (السودان الجديد).
ومن الضروري بمكان توضيح بعض الجوانب المفهومية لمعني ومفهوم السودان الجديد الذي تتبناه الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، وتناضل من أجل تحقيقه، حتي نزيل اللبس المفاهيمي المقصود والمتعمد من الذين إمتطوا الحركة الشعبية وهم يحملون الآن أطروحاتهم المطلبية القديمة التي لم تنجز شئ ملموس منذ الستينات وحتي الآن ويحاولون إلباسها للحركة الشعبية قسراً، أو محاولات من أسماهم د. منصور خالد بالنخب السودانية المدمنة للفشل الذين يحاولون الإنتقام من الحركة الشعبية بالشوشرة عليها.
ما هو السودان الجديد؟
السودان الجديد هو مشروع فكري سياسي يهدف إلى إعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديدة. وهذه الأسس هي المساواة والعدالة والحرية والوحدة الطوعية. كما يسعى هذا المشروع إلى تحقيق النهضة والتحديث والتقدم. وهو مشروع يطرح نفسه بديلا للدولة السودانية القائمة، أي السودان القديم، لأنها تقوم على أسس وتوجهات تتناقض مع قيم الحرية والعدالة والمساواة والتقدم.
المساواة، العدالة، الحرية، والوحدة الطوعية:
المساواة Equality:
إذا أخذنا الناس كبشر، فيم يتساوون مساواة لا شك فيها؟ هل يتساوون في اللغة؟ العرق؟ الدين؟ النوع؟ الإجابة: لا. فالناس يتساوون في الإنسانية، لأن كل إنسان هو بهذه الصفة متساوٍ مع الآخرين بغض النظر عن أي صفة أخرى. ولأننا لو أخذنا أي صفة من الصفات المذكورة أعلاه كأساس للتصنيف أو التقسيم، فإن الناس لا يمكن أن يكونوا متساوين البتة. إذن الإنسانية أول أساس للمساواة.
غير أنه في واقع الحياة، نجد أن الناس يعيشون في وحدات سياسية كبيرة تعرف بالدول. فما هي الصفة التي يتساوى فيها الناس، ساكني الدولة المعينة، بلا تمييز في الدولة؟ أهي اللغة أو الثقافة أو العرق أو اللون، أو الدين؟ الأجابة: لا. إذن ما هي الصفة التي يتساوى فيها جميع سكان الدولة؟ إنها المواطنة. وبعد الإنسانية، ففي أي دولة هناك صفة واحدة، لا غيرها، يتساوى فيها مواطني تلك الدولة مساواة مؤكدة.
إذن إذا أردنا صادقين أن نطبق مبدأ المساواة بين الناس في أي دولة، فليس أمامنا سوى هاتين الصفتين: صفة الإنسانية، وتوجد تفاصيلها في مبادئ ومواثيق حقوق الإنسان؛ والتي ترتبط بشكل بنيوي بمشروع السودان الجديد.
لأن علاقة حقوق الإنسان بمشروع السودان الجديد هي بمثابة علاقة الروح (الحقوق) بالجسد (السودان الجديد). إن مشروع السودان الجديد هو نضال مستمر من أجل الاعتراف بحقوق الإنسان والتاكيد عليها وتعزيزها وحمايتها. فالنضال من أجل تحقيق السودان الجديد هو في جوهره نضال مبادئ الحرية والمساواة والعدالة والوحدة الطوعية ، وقيام الدولة على مشروعية العقد الاجتماعي. وهذه هي نفس مبادئ حقوق الإنسان القائمة على مبادئ الحرية والمساواة وعدم التمييز بسبب اللون أو العرق أو الأصل أو الدين أو الوضع الاجتماعي. وفلسفتها هي فلسفة السودان الجديد القائمة علي تأكيد الكرامة الإنسانية.
والمواطنة: وتوجد تفاصيلها في الدساتير والقوانين. فكيف ننجز دولة تحترم وتلتزم بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان؟ وكيف ننجز تلك الدساتير والقوانين؟.
ويبقى السؤال: هل بمجرد الاعتراف بمساواة الناس على أساس الإنسانية والمواطنة يكفي؟ الإجابة لا. لأنه في الواقع العملي فإن المساواة لا تتحقق إلا بتوافر عناصر أخرى. أهم هذه العناصر: العدالة.
العدالة Justice:
للعدالة معاني شتى، ولكن المعنى المقصود هنا هو تنظيم المجتمع المعين بطرائق تضمن تكافؤ الفرص لأفراد ذلك المجتمع. ففي أي مجتمع قائم هناك تفاوتات هيكلية موروثة مثل التفاوتات القائمة على أساس النوع، بين الرجال والنساء، أو على أساس الثروة، بين الفقراء والأغنياء، أو على أساس الأعراق، بين عرق سائد وآخر مسود، أو على أساس الأقاليم، إقليم نال حظاً من التنمية أكثر من الآخر، إلخ. وهنا أيضاً التفاوتات القائمة بسبب الفروقات الفردية سواء كانت فروقات فيزيائية مثل الحجم أو الطول، أو اللون، إلخ، أو فروقات ذهنية مثل أختلاف درجات الذكاء والميول أو الأخرى النفسية مثل الجرأة، الجبن، الإنفتاح أو الإنغلاق على الآخرين، إلخ.
إذن، فإن الإقرار بالمساواة وحده لا يكفي وإنما لابد من العدالة، وذلك بتوفير الفرص ومراعاة تكافؤ توزيع هذه الفرص بين الأفراد من جهة وبين الجماعات من جهة أخرى، وبين الأقاليم من جهة ثالثة.
ولكيما تتحقق المساواة والعدالة، فلابد من إرادة تقف وراءهما، تحرسهما وتراقب تنفيذهما. ولكن المعروف أن من يسيطر على سلطة الدولة عادة لا يلتزم جانب العدالة والمساواة إذا لم توجد جهة تجبره على إلتزام جانب هذه العدالة وهذه المساواة. إذن لابد من وجود مواطنين قادرين على إجبار الحكام على إلتزام جانب العدالة والمساواة؛ وهؤلاء المواطنين لا يمكن أن يكونوا أقوياء بهذا القدر إلا إذا كانوا أحراراً. وهذا يقود إلى موضوع الحرية المرتبط بشكل أساسي، بمفهوم الثورة.
الحرية Freedom والديمقراطية Democracy:
الحرية هي الحالة التي يكون فيها الإنسان قادراً على التصرف بناءاً على إرادته. ولكنها في حقل السياسة يقصد بها: حرية الإعتقاد، وحرية التعبير، وحرية التنظيم، وحرية تقلد المناصب العامة أو تفويضها. وهذا هو المعنى الحقيقي للديمقراطية. وكما ذُكِرَ سابقاً، فإنه بدون هذه الحرية لن تكون هناك عدالة، وبدون العدالة لن تتحق المساواة، ولن تتحقق جميعها (لا المساواة، ولا العدالة، ولا الحرية ولا الديمقراطية)، دون فصل الخاص/ الذاتي عن العام/الموضوعي، سواءً كان هذا الخاص (دين، طائفة دينية، عرق، ثقافة/إثنية، جهة، الي آخر تلك الخصوصيات)،مهما إدعى المدعون، وهذا هو السبب الذي يجعل العلمانية "بحسب حنة أرندت" بمفهوم Secularism، أي النزعة الموضوعية هي أصل الثورة، فما هو مفهومنا عن العلمانية؟، وكيف نربط التغيير بضرورة تحقيقها؟.
الوحدة الطوعية Voluntary Unity والوحدة في التنوع Unity In Diversity:
ونحن في السودان، قد ورثنا دولة وضع حدودها الإستعمار وظلت تحكمها جماعات تصادر الحريات وتمارس التمييز على أسس جهوية وثقافية/إثنية ودينية وحاولت وما زالت تحاول فرض الوحدة القسرية، على اساس الهوية الأحادية الإقصائية، من خلال ممارسة القهر العرقي والثقافي والديني والجهوي، واتبعت سياسات التهميش بكافة أشكاله، مما قاد إلى الحروب الأهلية وإلى تهديد وحدة البلاد. إن الوحدة التي يطرحها مشروع السودان الجديد هي وحدة قائمة على أسس جديدة: فهي طوعية إختيارية، وتقوم على مبادئ المساواة والعدالة وحرية الإختيار وتنبنى على التنوع بشقيه التاريخي والمعاصر.
حقائق الواقع في السودان: التنوع التاريخي والتنوع المعاصر
التنوع التاريخي:
أثبتت الدراسات التاريخية أن الإنسان عاش في الرقعة الجغرافية التي تشكل السودان القائم اليوم منذ العصر الحجري القديم، أي قبل ما يزيد عن مائة ألف عام وذلك بعد اكتشاف جماجم وآثار لأولئك الأسلاف. كما تؤكد الدراسات الآثارية قيام حضارات مزدهرة في كل أنحاء السودان منذ عصور ما قبل التاريخ وذلك من خلال الإكتشافات الآثارية للأدوات التي كان يستعملها أولئك النفر من أسلافنا القدماء.
وفي العصور التاريخية، ومنذ 4500 ق.م، نشأت سلسلة من الحضارات العظيمة وواصلت تطورها إلى أن ظهرت حضارة المجموعتين الأولى والثالثة التي استمرت منذ 3100 ق. م وحتى 2100 ق.م التي صنعت الفخار وعدنت النحاس ومارست التجارة وأقامت العمران. عقب ذلك وفي الفترة من 2000 1750 ق.م استطاعت الأسرة المصرية الثانية عشر من بسط سيادتها على أجزاء من السودان حتى منطقة سمنة (حوالي 60 ميلا جنوب وادي حلفا) والتي صارت تعرف باسم المملكة المصرية الوسطى في السودان، وتلتها الحضارات والممالك التالية:
- حضارة كرمة 2000 1850 ق.م
- حضارة كوش: نبتة 900-593 ق.م ومروي 593 ق.م 350 م
- العصر المسيحي 540-1504م
- دولة الفونج أو السلطنة الزرقاء 1504-1821م
- سلطنة الفور 1445-1875م ثم 1898-1916م
- ممالك كردفان:
بالإضافة لمملكتي الفونج والفور، فقد قامت في كردفان مملكتي تقلي والمسبعات ابتداءاً من القرن السادس عشر. وبالرغم من أن المسبعات لم تتمتع بالإستقلال إلا قليلا، وذلك بسبب إخضاعها بواسطة دولة الفور، إلا أن مملكة تقلي، في جبال النوبة، استمرت لوقت طويل وكان لها دور كبير في انتصار الثورة المهدية.
بالإضافة لكل ذلك فكانت هناك، على سبيل المثال، حضارات البجا في شرق السودان، والمساليت في غرب السودان.
ومن ثم جاء الحكم التركي المصري 1821-1885، ثم المهدية 1885-1898، ثم الحكم الثنائي الإنجليزي المصري 1898-1956م، ثم الاستقلال 1956م وحتى الآن. هذا هو التنوع التاريخي.
التنوع المعاصر
الشكل الآخر من التنوع هو التنوع المعاصر. يتكون السودان من مجموعات إثنية متعددة؛ فهناك أكثر من 500 مجموعة تتحدث أكثر من 100 لغة مختلفة. فبالإضافة للقبائل العربية ذات الثقافات المتميزة المنتشرة في بقاع عديدة من السودان، نجد مجموعات لها ثقافات متميزة مثل الحلفاويين والمحس والدناقلة والجعليين والشوايقة والرباطاب ...، في شمال السودان. كما نجد مجموعات قبائل البجا، والرشايدة، والزبيدية، ذات الثقافات المتميزة في شرق السودان. أما في جنوب السودان فنجد الكثير من القبائل ذات الثقافات المتميزة، وفي دارفور أيضاً مثل المساليت، الفور، الزغاوة، الرزيقات، المعاليا، البني هلبة، والكثير من القبائل الأخرى في غرب السودان. وفي جبال النوبة نجد عددا كبيرا من القبائل المتعايشة. فبالإضافة لقبائل النوبة المتعددة، نجد قبائل عرب البقارة وقبائل الهوسا والفلاتا والداجو والبرقو والكثير من القبائل الأخرى. وفي النيل الأزرق نجد الفونج والأدوك والأنقسنا، والكثير من القبائل الأخرى ذات الثقافات المتميزة. هذا بالإضافة للكثير من المجموعات المتمايزة ثقافيا التي هاجرت من مواطنها الأصلية في الأطراف لتعيش في وسط السودان.
وبالإضافة لهذا التنوع الإثني الثقافي، فهناك التنوع الديني؛ فبالرغم من أن الأغلبية من المسلمين إلا أن هناك أعداد معتبرة من المسيحيين وأصحاب الديانات المحلية، وحتى في وسط المسلمين، فهناك تنوع واختلاف في أنماط التدين لا يمكن إغفالها، مثل الصوفية والسلفية والطوائف والإسلام الشعبي والإسلام السياسي. هذا هو الواقع. وهذا هو التنوع المعاصر.
إن رؤية السودان الجديد، تتبنى نظرية التنوع داخل الوحدة، وهي تعتبر التنوع بشقيه، التاريخي والمعاصر، مصدر غنى للشعب السوداني، وهو أساس هويته الجامعة. وهذا عكس النظرية التي تتبناها دولة السودان القديم القائمة على الأحادية والإقصاء. وعليه، فإن الوحدة التي يتحدث عنها مشروع السودان الجديد، تختلف تماما عن الوحدة التي يتحدث عنها الآخرون في السودان القديم؛ فبالإضافة لأنها تنطلق من موقف إيجابي من التنوع، فهي وحدة طوعية إختيارية ضامة وليست أحادية إقصائية بأي حال من الأحوال. وتعتبر كل عنصر من عناصر التنوع مصدر لإضافة قيمة وطعم ولون في لوحة السودان الجديد.
ونحن علي ثقه تامه بأن المجموعات الدينية والعرقية والثقافية العديدة في السودان تستطيع أن تستخدم التنوع التاريخي والمعاصر للسودان في تشكيل وتطوير هويه وكيان سودانيين صحيحين. وإذا لم نتمكن من تشكيل وتطوير هوية وكيان يمثلاننا جميعاً، فسوف يتمزق السودان.
لذلك فإن رؤية الحركة الشعبية لتحرير السودان قائمة علي تحقيق مشروع السودان الجديد لبناء (سودان جديد علماني ديمقراطي موحد) علي أرض الواقع بالشكل الذي ينسجم مع تكوين وبناء الأمة السودانية.
ووفقاً لذلك نستطيع القول بأن مفهوم الثورة في العصور الحديثة ينطبق ويتجلي علي المستوي النظري/الفكري، في خطاب الحركة الشعبية لتحرير السودان، الذي ينطلق من رؤية وفلسفة السودان الجديد، وليس مما هو ذاتي لدعاة المشاريع الذاتية/ الإقليمية، بشكلها الجزئي، أو حسد الذين عجزوا عن أنتاج فكر ومشروع وطني يستصحب حقائق الواقع السوداني لمخاطبة الأزمة السودانية.
ولابد من الإشارة في هذا الجانب الي غياب التغيير الذي وفقاً عليه تتم محاكمة الثورة بأنها فاشلة أو ناجحة في تجربة الحركة الشعبية لتحرير السودان في جنوب السودان، والذي له مسبباته الذاتية الداخلية والتي لا تنفصل عن أصحاب الأجندة الجزئية، وطمع القوى الخارجية في الموارد، كما اشرنا الي ذلك في المقال السابق، وهذا يحتاج الي بحث منفصل وتقييم دقيق.
مستقبل الثورة السودانية:
يكمن مستقبل الثورة السودانية في فتح حوار شامل داخل قوى التغيير كلٍ علي حدة لتحقيق الوحدة الفكرية الداخلية بين منسوبيها والإنتقال من الذاتي الي الموضوعي أولاً، وبناء حوار جاد وشفاف بين قوى التغيير والإستنارة سواءً كانت مدنية أو مسلحة للإتفاق علي برنامج حد أدني للتغيير وتشكيل: "الكتلة التاريخية" لأن الأوضاع في السودان، وبعد ما وصلت إليه من تردي طال حياة غالبية سكانه، تحتاج إلى وحدة قوى السودان الجديد، بقيادة الحركة الشعبية، لتشكيل كتلة تاريخية من أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير لإنجاز التغير) ثانياً، وطرح ذلك لكل أفراد المجتمع السوداني أخيراً، وفقاً لعمل مؤسس وممنهج وكلٍ حسب آلياته ووسائله، ومن ثم العمل الجاد والتضحية في سبيل إنجاز تلك القواسم المشتركة علي أرض الواقع. وذلك لا يتم إلا بتوحيد العمل المعارض لقوى التغيير في السودان وتحديد العدو بشكل دقيق ومواجهته بشكل موحد داخلياً وخارجياً.
أخيراً/ الدروس والعِبر المستفادة:
قامت الكثير من الثورات في تاريخ البشرية، منها ما نجح في إنجاز مشروع التغيير ومنها ما فشل، وبما أن مشروع الثورات عادةً مرتبط بتحقيق العدالة الإجتماعية فلابد لنا أن نتسائل، لماذا ينتج الفشل؟
نري أنه ينتج الفشل من الآتي:
- إختطاف الثورة: وذلك، بواسطة جماعات لا علاقة لهم بالغايات المتعلقة بالعدالة الإجتماعية، وأخطرهم، صنفين:
1- الإنتهازية: وهم الذين يحاولون حرف الثورة عن خطابها الموضوعي وأهدافها ومبادئها التي قامت من أجلها، لتحقيق مكاسب ومصالح ذاتية بإسم الجماهير.
2- العملاء: وهم مأجورين ترسلهم جهات معادية لمشروع الثورة للانخراط فيها والإستفادة من العلاقات الذاتية الطبيعية التي يتميزون بها لخلق تكتلات خارج الأطر الموضوعية للثورة والإنقضاض عليها من الداخل متي مالزم الأمر وتوفرت ظروفه الموضوعية.
- إخفاق المخلصين:
وذلك بإرتكاب أخطاء في الممارسة أو تحولهم الي نخبة أوليغارشية*** تتصرف بإسم الجماهير ولكنها تخدم مصالحها التي لا تتماشي مع مصالح الجماهيرالحقيقية، وهو الأمر الأخطر علي الثورات من فعل أعدائها.
ولكيما تنجح ثورة السودان الجديد، التي تقودها الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال، لابد من التمسك بالأبعاد الأخلاقية للثورة التي تستمد منها مشروعيتها ودوافعها للإستمرار، وأهمها إثنان:
1- المبادي والأهداف التي تشكل أحلام الجماهير.
2- التضحية من أجل تحقيقها.
وذلك لا يتم إلا ببناء حركة تحرر وطني حقيقية تنطلق من أرضية فكرية صلبة، تستلهم من التضحيات الجسام التي قدمها شعبنا ومازال يقدمها من أجل تحقيق القيم والمبادئ والأهداف، التي تشكل أحلامه وتتطلعاته نحو مستقبل واعد، تستلهم دوافعها للإستمرار، ويلتزم عضويتها بالتضحية من أجل حسم المعركة لمصلحة الشعب السوداني بأجمعه دونما أنانية أو إنتهازية.
النضال مستمر والنصر أكيد
نقيب/ إبراهيم خاطر مهدي
- قائد شعبة التدريب برئاسة هيئة الأركان – توجيه.
- ونائب عميد معهد التدريب السياسي والقيادي بالحركة الشعبية.
- 2/ مايو 2017م.
الهوامش والمراجع:
الهوامش:
*في منتصف القرن السابع عشر ألهبت الحرب الأهلية إنجلترأ "1642 – 1649" وكذلك إنشاء الكومنولث البيورتاني لأوليفر كرومويل، كل ذلك لم يسمي (ثورة) وفقاً للمفهوم القديم، لكن بعد عودة النظام الملكي السابق في 1688م تم تسمية الحدث بالثورة، وهذا للمقارنة بين المفهومين للثورة في العصور القديمة والحديثة.
**تعبير (مملكة علمانية) للفيلسوفة حنة أرندت، لكن في هذا المقال يمكن وضع مكانه دولة علمانية لتسهيل المقاربة النظرية وتجاوز الإلتباسات التي قد تنتج بسبب المصطلحات المستخدمة.
***الأوليغارشية: كان روبرت ميتشل قد لاحظ، في عام 1911م، في كتابه الشهير: الأحزاب السياسية، أن هناك مشكلة تجابه جميع التنظيمات، بغض النظر عن ديمقراطيتها أو شموليتها، ألا وهي ظاهرة النخبة المسيطرة (الأوليغارشية/ الأوليغاركية). حيث تقوم هذه النخبة بتقوية وتقديم مصالحها على مصالح الجماهير، وذلك مصحوباً بسلبية الجماهير. وقد سمى ميتشل هذه الظاهرة العامة (التي توجد في جميع التنظيمات السياسية) بالقانون الحديدي للأوليغارشية/ الأوليغاركية Iron Law of Oligarchy.
ووفقاً ل ميتشل، فأن هناك عوامل تؤدي إلى نشوء هذه الظاهرة. ويمكن شرحها كالآتي: إن الحياة الحديثة تجمع أناس كثيرين ذوي مشارب شتى، ولكيما يحقق الناس مطالبهم المشتركة بأكبر قدر من الفاعلية تنشأ ضرورة التنظيم، والتنظيم يتطلب شيئين مهمين: تفويض السلطة (Delegation of power)، والبيروقراطية وبالتالي التراتبية Hierarchy. وحسب ميتشل، فكلما كبرت التنظيمات وتعقدت العمليات تطلب الأمر تركيز السلطة في أيدي قليلة من أجل المزيد من الفاعلية. ولكن الذين تتركز السلطة في أيديهم يسعون بكل ما يملكون لتكريس سلطتهم وللحفاظ على هذه السلطة وتعضيدها في المستقبل، الأمر الذي يؤدي إلى سيطرة هذه النخبة والعمل لخدمة مصالحها باسم الجماهير وهو جوهر الأوليغارشية.
ولكن المعضلة، حسب ميتشل، أن هذه الظاهرة لها وجه آخر، ألا وهو سلبية الجماهير؛ فميتشل يرى أن الجماهير، عادة، تميل إلى الانقياد، وتساهم بذلك في مساعدة النخبة في تكريس سيطرتها. ميتشل لا يرى حلا لهذه الظاهرة، ولكن كتاب آخرين يرون إمكانية معالجة هذه الظاهرة بتوعية الجماهير ووضع سقوف زمنية للمناصب وتداولها وتسهيل إجراءات عزل المسئولين.
ويرى روبرت ميتشل إنه في الغالب تقود احترافية السياسة إلى نشوء طاقم سياسي متخصص يتذرع بخبرته الخاصة ليبرر مكانته كنخبة والتحكم الذي يمارسه على إدارة الأحزاب السياسية. وقد أظهر ميتشل في كتابه كيف أن قادة حزب مثل الحزب الاجتماعي الديمقراطي الألماني، حين كان في أوج قوته التنظيمية، شكلوا هم أيضاً أوليغارشية داخلية مغلقة وحريصة على حماية استمرارية سلطتها، بالرغم من الإيديولوجية الاشتراكية رسمياً والمفتوحة على العمليات الديمقراطية، والتي يتبناها هذا التنظيم العامل الكبير.
المراجع:
1- حنة أرندت، في الثورة، ترجمة عطا عبد الوهاب، الطبعة الأولي، بيروت أيلول/سبتمبر 2008م.
2- جون فوران، مفهوم الثورة، عزراً لعدم توفر بقية تفاصيل المرجع.
3- فالح عبد الجبار، إعداد؛ القومية: مرض العصر أم خلاصه، دار الساقي، الطبعة الأولي، 1995م.
4- منهج معهد التدريب السياسي والقيادي بالحركة الشعبية، كتاب الأساس، الطبعة الاولي 2009م. وكتاب المقاربات النظرية.
5- د. محمد سعيد القدال؛ الإسلام والسياسة في السودان، 1651 – 1985، دار الجيل بيروت، الطبعة الأولي 1992م.
6- أبكر آدم إسماعيل، مشروع السودان الجديد الي أين؟ ورقة دراسية مقدمة لورشة تقييم تجربة أداء الحركة الشعبية بجبال النوبة/جنوب كردفان، في الحكم بعد توقيع إتفاقية السلام الشامل، كاودا 2007م.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.