تفاصيل الحِيطان العتيقةَ في "روكسِي" تُذكرني بعهود المماليك، وعِباءات الفاطميين وبقَلنْسَوات التُّرُكُ. السُّقاةُ والشجرُ المكحول بعوادِم السيارات. نداءات الطبيعة كلّما لاح الكرنفال. توسُّلات الضُعفاء، ومسحوبات الطّبالي على الطُّرُقات. النقوش الباهِتة وبضاعة العطّارين.. كلّ ذلك يُحيلُني إلى الماضي، إلى طقاطِيق عبدُه الحامولي. يقولونَ أن هذه هي مِصرُ الجديدة، مع أنّها قديمةٌ جدا! كنتُ اصطادُ الغنَوج، وأتغشّى مقامات الأولياء الصّالِحين، وأقرأ الآيات بأحكامها التجويدية، وأتأمّلُ نقوشَ الفوارِس على شواهد القبور. في القاهرة القديمة، حفِظت مواجِداً لإبن الفارض، وشرِبت شّيشةً ذاتَ حَجْرٍ وسِيور، وكرِهت النُسخة التى يطرحها المرشِد العام للجّماعة. كم أعشقُ هذه المدينة؟ أعشقها كأنثى كامِنة في الخيال. أُنثى وهيطة، مثل مجلدات الإشتراكية العربية، التي آمنتُ بها في أيّام الصِّبا. القاهرة تبدو مُتحجِّبةُ بما يذاع في جامع الفتح عن عذابات يوم القيامة. النِّداءُ ينبعثُ مِن كل مآذنها، فيغسِلُ ما رَانَ على قلبِي، بما صَنَعت يَداي. حجابُ القمحِيّات لا يكْبَحُ جِماحهُنَّ إذا ما هطلَ المطر، والسّحْلبُ ليس بريئاً في قهوة جيجي.. في سينما فاتِن حمامة بالمَنْيّل، شاهدتُ فيلم حسن ومُرقُص. صلّيتُ جُمعةً واحِدة مع الجماعة السلفية في مسجدهم بميدان التحرير. لن أزور هذا المكان مرة أخرى. لقد كدّرَني إجهاشهم بالبكاء. توبيخاتهم تخنُقني. إنّهم يجعلون مني الحائط القصير. الشرور في عقيدتهم تأتيها الرّعية! كيف تستحضرُ يامولاي، روح ذا النون المصري، فينبثق لك "الشّاطرُ" من صناديق الاقتراع؟ وجوه السّمراوِيت في شارع 26 يوليو، تجولُ وتجول. من ميدان العتبة إلى شارع قصر النيل إلى باحة التحرير، كنتُ أسوحُ في أثوابِهِنّ، وأعودُ أدْراجي. شوارع وسط البلد لا تخلو مِن القِطط والغرباء، وبين يومٍ وآخر تخرُج جِنازة أحد المشاهير من جامِع عُمر مكرم، وليلٌ وراء ليل وأنا أتصفّح "الأهالي" لَعلَّ إشتراكية الكفاف تُشرِقُ من هُناك. هذا رمسيس يطلُ فوق رؤوس العابِرينَ، وأنا أبحثُ عن مِصر التي في خاطِري. عند مدخل شارع 26 يوليو، لمحتُ سودانياً واقفاً هُناك، مثل الكلمة الشاذة. ضياعَه يحكي النهاية المحتومة لعصر الإنفتاح. هل هو "زول"، هل هو إنسان، أم موالٍ للنظام؟ أغمض المسَاء أجفانه، وعلى ظهري حقيبةٌ لففتُ داخلها صورةَ مِحراثٍ قديم. عَصارِي الغربة تلقيحةٌ من الذكريات. سودانيو العتبة يتصيّدون حديثي العهد بالمدينة. أبحثُ عن ياقوت العرش، فلا أجِدُ غيرَ "السّحْ الدّحْ أمْبُو"..! كانت أغينة الموسم في قاهرة ذلك العهد هيَّ: "أعمِلْ لكْ أيه سهّرتِني". عندما تفجرّت المظاهرات في الخرطوم، سألتني مَدام جِندي: أيه دَا، أيه دَا؟ "دي مَاهَا شَبّورة وتَقِيفْ"! مِشْ فاهمة! هذا ليس نِظاماً عسكرياً مثل بقية الأنظِمة، حتى نعمل على اسقاطه عن طريق العمل الجماهيري الدؤوب! برضو مِشْ فاهمة! ولا أنا.. اخر لحظة