عبد الماجد عبد الحميد يكتب: معلومات خطيرة    باكستان تجري تجربة إطلاق صاروخ ثانية في ظل التوترات مع الهند    تشفيره سهل التحرش بالأطفال.. انتقادات بريطانية لفيسبوك    بعقد قصير.. رونالدو قد ينتقل إلى تشيلسي الإنجليزي    "فلاتر التجميل" في الهواتف.. أدوات قاتلة بين يديك    ((آسيا تتكلم سعودي))    ما هي محظورات الحج للنساء؟    الفَهم البيجِي بعد السّاعة 12    شاهد بالفيديو.. هدى عربي وحنان بلوبلو تشعلان حفل زواج إبنة "ترباس" بفواصل من الرقص المثير    المريخ يواصل عروضه القوية ويكسب انتر نواكشوط بثنائية    شاهد بالفيديو.. هدى عربي وحنان بلوبلو تشعلان حفل زواج إبنة "ترباس" بفواصل من الرقص المثير    شاهد بالفيديو.. قائد لواء البراء بن مالك يهدي الطالبة الحائزة على المركز الأول بامتحانات الشهادة السودانية هدية غالية جداً على نفسه إضافة لهاتف (آيفون 16 برو ماكس) ويعدها بسيارة موديل السنة    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يحيي حفل من داخل مياه (حوض السباحة) وساخرون: (بقينا فاطين سطر والجاتنا تختانا)    494882583_1027677122659540_517597244601675255_n    شاهد بالصورة والفيديو.. بالزي القومي السوداني ومن فوقه "تشيرت" النادي.. مواطن سوداني يرقص فرحاً بفوز الأهلي السعودي بأبطال آسيا من المدرجات ويخطف الأضواء من المشجعين    شاهد بالصورة والفيديو.. بالزي القومي السوداني ومن فوقه "تشيرت" النادي.. مواطن سوداني يرقص فرحاً بفوز الأهلي السعودي بأبطال آسيا من المدرجات ويخطف الأضواء من المشجعين    قائد منطقة البحر الأحمر العسكرية يقدم تنويرا للبعثات الدبلوماسية والقنصلية وممثلي المنظمات الدولية والاقليمية حول تطورات الأوضاع    تشيلسي يضرب ليفربول بثلاثية ويتمسك بأمل الأبطال    توجيه عاجل من وزير الطاقة السوداني بشأن الكهرباء    السعودية تستنكر استهداف المرافق الحيوية والبنية التحتية في "بورتسودان وكسلا"    وقف الرحلات بمطار بن غوريون في اسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ أطلق من اليمن    بورتسودان .. مسيرة واحدة أطلقت خمس دانات أم خمس مسيّرات تم اسقاطها بعد خسائر محدودة في المطار؟    الجيش يوضح بشأن حادثة بورتسودان    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم الدولة القومية وتحديات ممارسة حق تقرير المصير (الحلقة الثانية)
نشر في الراكوبة يوم 02 - 07 - 2017


مقدمة:
إستقرت العلوم السياسية والاجتماعية علي عدة نظريات أساسية لتفسير نشوء الدولة القومية، وتحديد معني الأمة، منها النظرية الماركسية: نشوء الأمم في عصر الرأسمالية، توحيد الأسواق، الخ. أو النظرية الصناعية التي تربط نشوء الأمم بالإنتقال من المجتمع الزراعي الي الصناعي. أو سوسيولوجيا الحداثة التي تري في الدولة القومية الشكل الحديث لتنظيم المجتمع.
عليه، سوف نستعرض في هذا البحث، بعض المفاهيم الجوهرية لنشوء الدولة القومية ، بدءً بتعريفات "القومية – الأمة"، ثم الجذور الثقافية للقومية في الحلقة الأولي، ومنابع الوعي القومي في الدولة الحديثة، و مستقبل النزعة القومية في الحلقة الثانية، وأخيراً قراءة للواقع السوداني مقروناً بتجربة إنفصال جنوب السودان التي أنتجت أفشل تجربة للحكم في القرن الحادي والعشرين، ومآلات حق تقرير المصير الذي رُفِعت شعاراته من جبال النوبة إبان الأزمة الحالية التي تمر بها الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال في الحلقة الثالثة.
وبعد متابعتنا في الحلقة الأولي للتعريفات الأساسية لمفهوم القومية والأمة، والجذور الثقافية للقومية، نتوقف في هذه الحلقة علي جانبين أساسيين وهما، منابع الوعي القومي في الدولة الحديثة ومستقبل النزعة القومية
منابع الوعي القومي في الدولة الحديثة:
إذا كان نمو الطباعة – السلعية – (رواية، صحيفة، كتاب، ...)، هو المفتاح الموصل الي توليد أفكار جديدة كُلياً عن التزامن، فإن الأولوية لنشوء جماعات "Communities" من النمط العلماني ترجع لنمو الرأسمالية.
ففي عام (1500م) قد طُبع (20) ألف كتاب، وقد سجل ذلك بزوغ "عصر إعادة الإنتاج الميكانيكي،" وتميّزت صناعة نشر الكتاب بإعتبارها واحدة من الأشكال المبكرة جداً للمشروع الرأسمالي، بكل ما أنطوت عليه الرأسمالية من سعي دائب وحثيث الي الأسواق. وإذا كان عدد المجلدات التي طُبعت حتي عام (1600) قرابة (20) مليون، فمن الطبيعي أن يري فرانسيس بيكون أن الطباعة غيرت (شكل العالم وحاله)، وباتت هذه الصناعة "أكثر من أي وقت مضي" صناعة عظيمة تحت إمرة "الرأسماليين الأثرياء"، وبالطبع فإن "باعة الكتب" كانوا معنيين أساساً بجني الربح وبيع المنتجات، وعليه، فقد سعوا أولاً وقبل كل شئ الي نشر تلك المؤلفات التي تهم أوسع جمهور ممكن من معاصريهم.
لكن هناك أسباب متعلقة بمنطق الرأسمالية وهي ضخامة الجماهير المتحدثة باللغات المحلية ذات اللغة الواحدة وقِلة الذين يجيدون اللغة اللاتينية، فكانت للغواية والإغراء للسوق الكامنة الضخمة المتمثلة بجماهير "أصحاب اللغة الواحدة" أثراً كبيراً في التحول للكتابة باللغات المحلية، كما أنه بحلول منتصف القرن السابع عشر حدث شح في النقود في أوروبا، مما كان له الأثر البالغ في طباعة نُسخ رخيصة باللغات المحلية. إن هذا الإندفاع الرأسمالي الذي يهدف للربح من خلال الطباعة باللغات المحلية، حُظي بثلاثة حوافز جديدة، أسهم إثنان منها علي نحو مباشر في نشوء الوعي القومي عبر نشر الوعي بالأمة الجديدة (التنوير)، بطريقة غير مباشرة، وهي:
الحافز الأول:
تغير طابع اللغة اللاتينية ذاتها، فبفضل جهود الإنسانيين "Humanists" في إحياء الأدب القديم الواسع، السابق للمسيحية، ونشره عبر أسواق الطباعة، تبلور تقدير جديد وسط الإنتلجنسيا الأوروبية كلها، يُثمِّن الإنجازات الأسلوبية المتطورة للقدماء، وباتت اللاتينية التي يطمحون الي الكتابة بها في السابق، بعيدة جداً عن اللغة الكنسية ولغة الحياة اليومية (إنتفاء سبب اللغة في ذاتها – كنص مقدس).
وبذلك بدأت مسيرة إحياء الأدب والمنتوجات الثقافية المعرفية، فنبضت الحياة بالإحياء الثقافي بإعادة قراءة ونقد وتجاوز، ما أنتجه اليونان من فلسفة (سقراط، افلاطون، وأرسطو) الذين تم دفنهم بالتأسيس لفلسفة القرون الوسطي من خلال القديسين (أوغسطين و توما الاكويني) ،أوغسطين: الذي أصدر كتاب مدينة الله وقدم فيه تفسيراً للتاريخ البشري بأنه صراع بين المسيحيين الذين يعيشون في مدينة الله والوثنيين والمرتدين الذين يعيشون في مدينة الدنيا. و توما الاكويني، الذي جمع فلسفة أرسطو وعلم بطليموس ووفَّقَ بينهما وبين التوراة والعقيدة المسيحية لصالح لاهوت مسيحي سياسي ساد فترة القرون الوسطي.
وبعدها تم نقد فترة الثبات المعرفي التي سادت فترة القرون الوسطي (التي تؤسس لتمجيد الماضي والإنكفاء عليه وتجرم من يقبل علي نقده) بنقد العقلية التي أسست لها وتجاوزها بفتح باب الإمكانية لظهور فلاسفة جدد من خلال، أهم الركائز التي قامت عليها الحداثة في أوربا ، وهي:
1- مشروعية الإبتكار والإبداع وإتخاذ المستقبل هو الهدف والتوجه إليه هو الدافع.
2- العلمانية: بمعني إعتماد نسبية المعايير علي مستوي المعرفة والممارسة الإجتماعية والتخلص من الأساطير القديمة وفصل الدين عن الدولة.
الحافز الثاني:
تأثير حركة الإصلاح الديني، الذي يدين بالكثير من نجاحه الي الطباعة الرأسمالية ذاتها، فقبل عصر الطباعة كانت روما تكسب كل المعارك ضد الهرطقة في أوروبا الغربية بسهولة كبيرة من جراء إمتلاك الكنيسة لخطوط إتصال داخلية أفضل وأكفأ ممن يتحدُّون سلطانها. ولكن بعد أن دقَّ "مارتن لوثر" المسمار وعلق أطروحاته عام (1517) علي بوابة الكنيسة المنشقة في "فيتنبرغ" أصبح ذلك مستحيلاً.
الحافز الثالث:
هو الإنتشار التدريجي لبعض اللغات المحلية كوسائل للإدارة المركزية (أو المركزية الإدارية).
ولو أخذنا الأمور في عُمقها، لقلنا، إن من المرجح أن "نخبوية اللغة اللاتينية، والإصلاح البروتستانتي، والتطور العشوائي للغات المحلية في الإدارة"، هي أمور هامة في الإطار الحالي في مساهماتها بإقصاء اللغة اللاتينية عن العرش، وتفتيت فكرة الجماعة المُتخيّلة في العالم المسيحي. مما فتح باب التنافس أمام اللغات المحلية المختلفة في أن تجد إمتياز كونها لغة ممكنة للطباعة، وتجد في الدوافع الرأسمالية الربحية مساحة إنتشارها علي أوسع نطاق مثل "الفرنسية" في باريس، و "الإنجليزية – المبكرة" في لندن، وعلي هذا الأساس يمكن تماماً تصور إنبثاق الجماعات القومية المُتخيّلة، حديثة العهد، عن طريق شرط اللغة.
إن هذه اللغات – الطباعية، أرست الأساس للوعي القومي في ثلاثة طرق مميزة، هي:
أ/ خلقت حقولاً موحدة للتبادل والإتصالات "أدني من اللاتينية وأعلي من اللغات المحلية المحكية." فالناطقون باللهجات الهائلة المتنوعة للفرنسيات "Frenches"، أو للإنكليزيات "Englishes"، أو للأسبانيات "Spanishes"، الذين قد يجدون صعوبة أو يتعذر عليهم تماماً فهم أحدهم الآخر عند الحديث، باتو قادرين علي التفاهم عبر الطباعة والورق، وأصبحوا بالتدريج في مجري هذه العملية، مدركين لوجود مئات الآلاف، بل حتي الملايين، من الناس في نفس الحقل اللغوي الخاص، ومُدركين أيضاً أن هؤلاء المئات من الآلاف أو الملايين "هُم وحدهم من ينتمي الي هذا الحقل." إن هؤلاء القُرّاء – الأقران، المرتبطين معاً من خلال الطباعة، باتوا يؤلفون في وجودهم الدنيوي (العلماني)، الخاص، هذا اللاّمرئي الذي يُري. جنين الجماعة المُتخيّلة قومياً، وهذا ما حدا الفيلسوفة "حنة أرندنت" الي إطلاق صفة الثورة علي هذا الحراك الذي أدي الي ميلاد مملكة علمانية جديدة متجاوزةً التفويض الآلهي في القرون الوسطي.
ب/ إن الطباعة الرأسمالية أسبغت علي اللغة ثباتاً جديداً ساعد، علي المدي البعيد، في بناء صورة الماضي السحيق التي تحتل مركز الثقل في الفكرة الذاتية عن الأمم، وذلك عن طريق إعادة بناء الحقائق التاريخية التي تم إقصاءها بواسطة الكنيسة ووصفها بالأوثان و الإرتداد في التأسيس الفلسفي لفيلسوف القرون الوسطي القديس (أوغسطين).
ج/ الطباعة الرأسمالية خلقت لغات – ل"السُلطة" من نوع يختلف عن اللغات المحلية الإدارية القديمة. فبعض اللهجات كانت "أقرب" الي اللغة – الطباعية، وقد هيمنت علي الشكل النهائي لها، وأصبحت اللهجات الأخري من العائلة (بنات العم المُتضررات) فاقدة لأدوارها رغم أنها كانت قابلة للإستيعاب من جانب لغة – الطباعة المنبثقة، وسبب فقدان الدور يرجع الي أنها لم تنجح (أو نجحت بشكل جزئي) في الإصرار علي أن يكون لها شكلها الطباعي الخاص. إن عامية "ألمانيا / الشمال الغربي" صارت هي الألمانية المتداولة رغم أنها كانت لهجة ثانوية، وسبب ذلك أنها كانت مرنّة التحول الي ألمانية – طباعية، خلافاً للغة التشيكية المحكية في بوهيميا، حيث لم تتكيف للطباعة. إن (الألمانية العُليا) و (إنكليزية الملك)، وفيما بعد (التايلاندية المركزية)، قد رُفِعت جميعاً الي مصاف جديد من السمو "السياسي – الثقافي"، ومن هنا ظهرت نُزر الصراعات في أواخر القرن العشرين في أوروبا من جانب بعض القوميات (الفرعية) لتغيير مكانتها المتدنية والثانوية بإختراق ميدان الطباعة – والراديو، وإنعكس الأمر برمته علي مُستقبل النزعة القومية في القرن العشرين في شكل صراع ثقافي/ إثني.
بإمكاننا الآن تلخيص الإستنتاجات المستخلصة من هذا العرض المتعلق بمنابع الوعي القومي في العصور الحديثة، بالقول بأن تلاقي (الرأسمالية وتكنولوجيا الطباعة، مع التنوع الحتمي للغة الإنسانية) خلق الإمكانية لنشوء شكل جديد من الجماعة المُتخيّلة (خارج التصور المسيحي للأمة)، التي هيّأت المسرح، في مورفولوجيتها الأساسية، للأمة الحديثة، في إطار الدولة القومية (Nation State)، التي يأرخ لها البعض بتواريخ مختلفة، ف توماس كون يفضل عام 1642م، أما آكتن فيؤرخ لها بالعام 1772م عام تقسيم بولندا، وكثرة تختار عام 1789م عام الثورة الفرنسية.
حيث هناك إختلاف في تسلسل بناء الدولة القومية، فالانكليز والفرنسيون ساروا في التسلسل أدناه لبناء الدولة القومية:
دولة أمة نزعة قومية نظريات
أما الألمان والطليان والأمريكان فساروا عكس التسلسل أعلاه:
النظرية عن القومية أولاً ومن ثم تحرك النزعة القومية التي تبدو بمثابة مخطط إرادي يسبق تحقيق الأمة في الدولة، ولعل هذا التفارق هو وراء شيوع فكرة (إختراع) الأمة وتخيل الأمة عند أندرسون.
مستقبل النزعة القومية:
إن قمنا ببعض التأمل حول النزعة القومية في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، نجد من النظرة الأولي حصول تقدم مظفر ل"مبدأ الإنتماء القومي" عمَّ العالم بأسره. إذ أن دول الكرة الأرضية كافة هي اليوم "أمم" رسمياً، كما تنزع حركات التحرر جميعها لكي تكون حركات تحرر "ذات إنتماء قومي،".
لكن اللغات الأخري التي لم تتكيف للطباعة في بواكير العصر الرأسمالي أصبحت فاقدة لأدوارها ومن هنا ظهرت الصراعات في أواخر القرن العشرين وتطورت الي صراعات ثقافية/ إثنية، "ذات طابع قومي" أدي الي تصديع أقدم الدول / الأمة في أوروبا – مثل أسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة ولحدٍ ما سويسرا ذاتها – وفي الأنظمة الإشتراكية في الشرق والدول الجديدة المتحررة من الإستعمار المباشر في العالم الثالث وحتي إتحادات العالم الجديد.
فما يزال التصدع يجري في كندا، ويزداد الضغط في الولايات المتحدة الأمريكية لجعل اللغة الإنجليزية، اللغة الرسمية الوحيدة للشؤون العامة رداً علي الهجرة الجماعية من أميركا الأسبانية التي شكل مهاجروها أول موجة من المهاجرين الذين لم يفتتنوا بجاذبية الإنصهار اللغوي.
إن الحركات القومية التي ميزت أواخر القرن العشرين كانت بالأساس مسببة للإنقسام. حيث نجد الإصرار علي "الإثنية" وعلي الإختلافات اللغوية، وربط إحداهما أو كليهما بالدين أحياناً. وبمفهوم آخر فإن أغلب الحركات القومية في القرن العشرين، كانت ترفض النماذج الحديثة للتنظيم السياسي، سواءً علي الصعيد القومي أو فوق القومي، وغالباً ما تبدو كرد فعل للضعف والخوف، ومحاولات لإقامة متاريس لإبعاد قوي العالم الحديث.
إن تراجع الأهمية التاريخية للنزعة القومية في القرن العشرين، يحجبه اليوم لا الإنتشار المشهود للإضطرابات الإثنية/ اللغوية وحسب، وإنما أيضاً الوهم اللغوي الناشئ عن حقيقة أن الدول كافة أصبحت رسمياً اليوم "أمما،" رغم أن العديد منها لا يجمعها جامع مع ما يُفهم عادةً بإصطلاح "الدولة – الأمة." ولذلك فإن جميع الحركات الساعية للحصول علي الإستقلال تعتقد أنها تنشئ أمماً، حتي وإن كان من الجلي أنها لا تفعل ذلك. وسوف ترتدي كل الحركات الناشطة من أجل مصالح إقليمية أو محلية أو حتي طائفية، ضد المركزية وبيروقراطية الدولة لباس القومية الرائج إن كان ذلك بإستطاعتها.
وبذلك تبدو "الأمم" و"النزعة القومية،" أكثر تأثيراً وحضوراً من حقيقة واقعهما. وبإختصار فإن دعوة أغلب هذه "الأمم" و "الحركات القومية" كانت بالضد من النزعة القومية التي تسعي للربط بين أولئك الذين لهم نفس الإثنية واللغة والثقافة والماضي التاريخي وغير ذلك. فهذه الدعوة كانت في الواقع الفعلي أممية – وتتجلى أممية قادة وكوادر حركات التحرر القومية في العالم الثالث بصورة واضحة حيثما قامت مثل هذه الحركات بدور قيادي في تحرير أقطارها، وأقل وضوحاً في الأقطار التي جرت إزالة الإستعمار فيها من فوق. وفي فترة ما بعد الإستقلال، يصبح إنهيار ما كان يفعل، أو يبدو أنه يفعل، كحركة موحدة للشعب، أكثر إثارة، وأحياناً تتصدع وحدة الحركة قبل الإستقلال، كما حدث في الهند.
ولكن الأكثر شيوعاً هو أن ينشأ التوتر بين الأطراف المكونة لحركة الإنفصال بعد فترة وجيزة من نيله (كما حصل في الجزائر بين العرب والبربر)، ومهما يكن من أمر، ففي الوقت الذي يكون طبيعياً أن تجذب جل الإنتباه حالات تجزأت فيها دول متعددة الإثنيات ومتعددة الجماعات، أو أنها قريبة من الإنقسام – مثل تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947، وإنفصال الباكستان، ومطالب التاميل للإنفصال عن سري لانكا – ينبغي ألا ننسي أبداً أن هذه هي حالات خاصة في عالم "القاعدة فيه" هي وجود دول متعددة الإثنيات ومتعددة الجماعات.
ومهما يكن من أمر، فعندما لا تقرن الأنظمة السياسية نفسها مع أي من القوميات المكونة لها، علي الصعيد النظري علي الأقل، وعندما تعتبر مصالح كل من هذه القوميات "ثانوية" بالنسبة لهدف مشترك أعلي، تكون هذه الأنظمة غير قومية.
وبالتالي، عندما نلقي نظرة الي الماضي، نجد أن إنجازاً عظيماً حققته الأنظمة الشيوعية في البلدان متعددة القوميات، عن طريق الترتيبات الدستورية التي اهتمت بها الدول الإشتراكية بجدية منذ عام 1917 وهو صيغ الفدرالية القومية والإستقلال الذاتي، وبذلك قلصت الأثار الكارثية للنزعات القومية الموجودة داخلها.
حيث كانت المعالجات لقضايا القوميات التي تشعر بالظلم في إطار الدولة القومية (الدولة الحديثة) أخذت طابعين هما:
1- الترتيبات الدستورية الجديدة التي تضمن حقوق القوميات المتضررة عن طريق صيغ الفدرالية المختلفة في الحكم، وهذا النموذج توضححة التجربة الاسبانية بنجاح وإقتدار.
ففي أسبانيا أُجريت إنتخابات علي مستوي الإتحاد بأكمله، وذلك قبل أن تتاح الفرصة للنخب الإقليمية، حيث تم تعبئة المعارضة الاقليمية للوحدة. ونتيجةً لذلك، حصل النواب المنتخبون علي حيز يناقشون فيه دستوراً جديداً يقدّس مبدأ الوحدة القومية والإستقلال الاقليمي. وقد سهلت هذه المقاربة بروز أسبانيا ديمقراطية جديدة فيها ظهرت هويات متعددة متممة.
2- الإنفصال، وهو الإستقلال ومواجهة تحديات بناء الدولة القومية في الجغرافيا المنفصلة مع إحتمال النجاح في إدارتها (كما في نموذج إنفصال النرويج عن السويد) رغم بعض التحفظات في إدارة الدولتين بعد الإنفصال. أو الفشل ومن ثم الدخول في نفس الصراع من جديد في كل دولة من الدولتين، وهذا النموذج يتجلي بوضوح في تجربة شبه القارة الهندية، وأيضاً التجربة حديثة العهد للدولة السودانية وهذه تمثل الفشل في مواجهة ووضع مشاريع الحلول لنفس أسباب الصراع في الدولة الواحدة، بعد الإنفصال، ونتيجة ذلك هو تجدُد الصراع بشكل أكثر ضراوة في الدولتين كلٍ علي حدة، بشكل يكاد أن يقود الي الإنهيار الشامل فيهما.
ونواصل ....
إبراهيم خاطر مهدي
30 يونيو 2017م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.