باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    العربي يكسب الاتفاق في دورة الفقيد معاوية الجميعابي بالإنقاذ    قوات الدعم السريع تطلق سراح اثنين من أبناء شقيقة البشير اعتقلتهم من قرية صراصر    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    تقرير مسرب ل "تقدم" يوجه بتطوير العلاقات مع البرهان وكباشي    بعد الدولار والذهب والدواجن.. ضربة ل 8 من كبار الحيتان الجدد بمصر    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(مصادر العنف في الثقافة السودانية): كتاب الدكتور عبد الله على إبراهيم ..
نشر في الراكوبة يوم 18 - 07 - 2017


++++
شرفني أيما تشريف الأستاذ الدكتور عبد الله على إبراهيم بكتابة مقدمة لكتابه هذا: "مصادر العنف في الثقافة السودانية"، الذى بين أيديكم. ومصدر هذا التشريف كما رأيته، أن عبد الله أشهر من نار على علم كما قالت العرب قديماً ، شهرة اكتسبها عن جدارة سعت إليه تجرجر أذيالها ولم يسع هو إليها عبر جهد اتصل لعقود طويلة بلغت ستاً هذا العام السابع عشر من الألفية الثالثة للميلاد، نسأل الله أن يبارك في عمره وأن يمتعه بالصحة الدائمة.
ويحمد للأستاذ الدكتور عبد الله أنه لم يحصر جهده في أقبية التخصص الدقيق الضيقة في علوم التأريخ والفنون التقليدية (الفلكلور) وعلم الأناسي (آنثربولوجيا) كما يفعل كثيرون إيثاراً للسلامة وتفاديا للمجادلات العقيمة مع من يحصرون المعارف في جوف المصطلحات الجامدة ويضيقون واسع المعارف التي ما انفكت يمسك بعضها برقاب بعض منذ الأزل، ولكنه انداح انطلاقاً من هناك إلى عوالم المعارف كافة المتصلة بالحياة والمجتمع في السودان دون أن يصبح جهده خبط عشواء وحطابة ليل بلا قيد. ذلك جعله محط احترام الكثيرين من ذوي الاهتمامات المتباينة والرؤى المختلفة تسامياً فوق ضيق الأيدولوجيات والانتماءات السياسية وهي علل لازالت تحجب الرؤية وتعمى الأبصار عن وجدان الحقيقة والحق في هذا الربع من عالم الإنسانية. والعالم النحرير الذي يتقن البحث ويلتمس الموضوعية هو وحده الذي يحظى بالاحترام ويجد آذانا صاغية مهيأة للإسهام في الحوارات بغية الوصول إلى تفاهمات وأراض مشتركة تجمع الفرقاء على صعيد، وإن صغر مساحة، قمن أن يقوم عليه بناء الوطن الذي يحتضن الجميع. وتلكم هي الغاية التي يجب أن يصبو إلى بلوغها كل مثقف جاد ألا تحجب قناعاته واختياراته فيما يكتب وما يقول عن قارئيه وسامعيه رؤي الحق والصواب مستقلة شاخصة بذاتها لا يخطئها العقل السوى المتجرد.
والكتاب كان في الأصل مقالات وبحوث أكاديمية نشرت في الصحف السيارة أو في دوريات محكمة رأى المؤلف أن يجمعها بين دفتي كتاب واحد.
المقالة الأولى وهى أول أبواب هذا الكتاب جاءت بعنوان: (عبد الخالق محجوب ويولد الانقلاب من الثورة) تناول فيها مسيرة الحركة الشيوعية بقيادة الحزب الشيوعي السوداني قانعة في البدء بالإفادة من مساحات الحرية التي يتيحها النظام الليبرالي التعددي كالذي بدأ به الحراك السياسي السوداني قبيل الاستقلال وتوطئة له عام 1954 وأنه السبيل إلى تحقيق مقاصد الثورة الماركسية في إسناد القيادة للطبقات المستغَلة في تحالف العمال والزراع وأن تلك كانت قناعات السكرتير العام للحزب المرحوم الأستاذ عبد الخالق محجوب وأن العوار الذى لحق بالتجربة الديمقراطية في أعقاب ثورة أكتوبر عام 1964 بحل الحزب الشيوعي عام 1965 وطرد نوابه الذين فازوا بجل المقاعد المخصصة للخريجين قد هز تلكم القناعة هزة عنيفة أفضت إلى ما يشبه الانقلاب الصامت في كيان الحزب فقامت فيه فئة من المغامرين الراغبين في اختصار الطريق إلى الثورة عبر الانقلاب العسكري وهو ما وقع عامي 1969 بقيادة جعفر نميري ويوليو 1971 بقيادة الرائد هاشم العطا. ويلخص عبد الله الورقة على هذا النحو التالي:
الملخص
تناولت الورقة بالدراسة الحرج الأخلاقي والسياسي المأسوي للحزب الشيوعي السوداني الذي توقى من الانقلاب العسكري كما لم يفعل غيره، بل حرّمه ثلاثاً، ثم أنتهى مؤزرا في الممارسة بانقلابين في 1969 و1971. أخرجت الورقة هذا الوزر الشيوعي إلى رحاب التاريخ من نهج يومية التحري الذي خضع له تحليل الانقلابين لعقود بأسئلة من شاكلة من أمر بالانقلاب؟ إلخ. نظرت الورقة في تطور النهج المعادي للانقلاب في الحزب الشيوعي الذي اختطه الأستاذ عبد الخالق محجوب، السكرتير العام للحزب بين 1949-1971، وعده مسارعة فطيرة غير مأمونة العواقب على الثورة السودانية. وخلص في دورة للجنة المركزية للحزب قبل انقلاب مايو 1969 إلى تعيين القوى الاجتماعية المهرولة، البرجوازية الصغيرة والبرجوازية، بالتكتيك الانقلابي، "بديلاً عن العمل الجماهيري". وهو تكتيك يمثل في نهاية الأمر، في قوله، وسط قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية، مصالح طبقة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة"."
ولعل القراء يقدرون معي الرهق الذي عاناه عبد الله في كتابة هذه الورقة لما يكتنف ذلك من العاطفة حيث كان الرجل من مثقفي الحزب المقربين من الأستاذ عبد الخالق رحمه ويستشعر القارئ أنه كان شديد الإيمان كأستاذه بالليبرالية فقد شهدت له مواقف عدة بالدفاع المستميت عن الحريات ونعى على كثيرين حفاوتهم بانقلابات وقعت في المنطقة مؤخراً رغم نضالاتهم المزعومة لإعادة الديمقراطية والحريات. أمر آخر يدفعنا إلى تصديقه فيما روى عن أستاذه من تفضيله الصبر على الديمقراطية وإن طال السفر واستطال، حيث أنه لا يدافع عن وجهة نظر حزبية فقد استقال قبل عقود طويلة من الحزب الشيوعي علانية.
ذلك لا تنتف معه إشكالية تتمثل في صعوبة التوفيق بين الليبرالية التعددية وموقف الفكر والممارسة الشيوعية المؤمنة بالشمولية. وتلك إشكالية حلت عقدها الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية وانحازت لثقافة مجتمعاتها الديمقراطية واعتمدت صناديق الاقتراع طريقة مثلى وحيدة للوصول إلى سدة الحكم وتحقيق ثورة الجماهير ولم أجد في الورقة ربطاً بين الحزب الشيوعي السوداني ومدارس وأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية يبرر قناعات المرحوم عبد الخالق محجوب إلا إشارة محتشمة إلى كونه قد سبق تلك الأحزاب في قناعاته الليبرالية. وقد عنت لي تساؤلات عن علاقات الأستاذ عبد الخالق بالمثقفين الليبراليين في زمانه من أمثال محمد أحمد محجوب وغيره، بأن هل من تأثير لأولئك في قناعاته تلك؟ وهل كان ثمة مجال لفكاك حزب في العالم الثالث من الأممية الشيوعية بحيث يختط الحزب لنفسه طريقا يبساً يلائم أحوال السودان؟ دون أن يفضي به التماس ذلك الطريق إلى مصير كمصير دوبشك في تشيكوسلوفاكيا؟ سيما وقد أشار الأستاذ بوضوح إلى شدة وطأة السوفيت على الحزب عند عودة عبد الخالق من مؤتمر هناك جعله يلتف على قرارات للحزب في التحول إلى حزب اشتراكي.
لقد أبلى عبد الله البلاء الحسن في جلاء هذه المعضلات التي لازمت عقابيلها سيرة الحزب الشيوعي السوداني ومسيرته وأثرت على مكانته بين الجماهير. والأمر ليس مجرد تأريخ يروى ولكن أنموذج الحزب الشيوعي السوداني المتعجل تكرر على يد الإسلاميين في انقلاب الإنقاذ عام 1989 والذي أسرعت بخطاه وتيره مخاوف الحركة بعد إبعادها من توليفة الحكم بضغوط من الجيش إلى جانب سعى الحركة الشعبية لتحرير السودان من فرض رؤية للحكم بفوهة المدافع. وردود الأفعال القائمة على الخوف توشك أن تعصف بأي محاولة لتوطين الديمقراطية بمضامينها في الشفافية وتحقيق العدل وجعل المواطنة معياراً لنيل الحقوق والقيام بالواجبات. إن استشراء الخطاب الجهوى والعرقي وامتشاق السلاح لتحقيق العدل والمساواة يوشك الآن أن يجعل من ترشيد الحكم غاية عصية التحقيق.
جاءت المقالة التالية بعنوان: (الديمقراطية الجديدة والبرلمانية الليبرالية) في اتساق موضوعي مع المقالة الأولى لتستعرض بأناة ودقة حوار الديمقراطية الموجهة الذى أصاب الديمقراطية الليبرالية في مقتل وهو حوار استعر داخل أروقة الحزب الشيوعي السوداني أقر عبد الله فيه وبموضوعية ومن غير عناء أنه حوار لعبت فيه رياح السياسة العاتية المتقلبة في مسيرة الحياة السياسية في السودان الدور الأكبر. ولقد استعرضت تلك المقالة انقسام الرؤى وتباينها في عضوية الحزب الشيوعي بين الداعين للصبر على وعثاء الليبرالية التي تتيح للعمال الحصول على حقوقهم في كنف السلم وتهيا أحوالهم لوصول سلس للثورة وبين من كفروا بتلك التجربة وراموا الوصول للثورة بأقصر الطرق عبر الانقلابات. يقول: يقع هذا المقال ضمن شاغل بحثي لي مستمر عن مصادر العنف في الفكر السوداني. وسأقتصر فيه على مناقشة دعوة "الديمقراطية الموجهة"، كخطر أحدق بالبرلمانية الليبرالية وجعل سياسي سوى تسع سنوات من عهد استقلال السودان الذي امتد لأربعة وثلاثين عاماً. ودلالة الزمن هذه على أهميتها إلا أن إحداق دعوة الديمقراطية الجديدة يتجلى أكثر في إعياء "الروح" السياسي الذي جعلنا لا نتعامل مع البرلمانية الليبرالية إلا كسندة سياسة مؤقتة، ينتظر الجميع عبورها لإنفاذ خططهم الخاصة بالديمقراطية المثلى التي غالباً ما انتهت إلى انفراد فريق مخصوص بالحكم.
وهذه الورقة تقوي ما أشرنا إليه من يقين بإيمان عبد الله بالحريات التي تمنحها التعددية الليبرالية وربما رجح ذلك من إيمان أستاذه عبد الخالق بها. ولكم تمنيت أن يتطرق عبد الله لمعالجة ضعف الليبرالية في بلادنا وكيفية أن تكون لها أنياب حادة تجعلها تدفع عن نفسها البلاء. إن تفشى العمل المسلح المستظهر بالجهوية والعرقيات يجعل المهمة أصعب مما كانت عليه قبلاً.
على ذات النسق وفى ذات الترتيب الموضوعي جاءت ورقة (الانقلاب: عين الحداثيين الحارة) ليخرج الحوار الذى سبق عن خصوصية دور الشيوعيين في إضعاف الديمقراطية الليبرالية عبر المفاضلة بين الديمقراطية الجديدة أو الموجهة وبين الديمقراطية الليبرالية التي تقوم على مبدأ (صوت لكل رجل) إلى معترك أشمل تناول فيه دور النخبة المثقفة التي تشمل الجميع يسارين وإسلاميين وليبراليين على الجملة استبطأوا مجيء دورهم إلى سدة الحكم تبرماً من سطوة التقليديين في الحزبين الكبيرين ولقد لخصت عبارته الموجزة بإتقان هذا الحوار في قوله: (غزارة في الأفكار وقلة في النفر) كأن غزارة الأفكار تبرر ازدراء النفر وتجاوزه عبر العنف والانقلاب. وقد بذل عبد الله في هذه الورقة جهداً يجعلني أقر بانه أفضل ما قرأت في شأن دور النخب في الإضرار بالحياة السياسية في السودان دون تبرأة من سواهم ودون إغفال الجيوبولتيكا السالبة والنشطة في هذا الجزء من العالم.
الورقة الاخرى بعنوان ابن خلدون في خطاب الهوية السودانية وهى ورقة غاصت في أعماق نظرية ابن خلدون القائلة بحيل قبيلة جهينة العربية في الوصول إلى الملك في السودان وتغيير تركيبته السكانية والثقافية عبر المكر والدهاء القائم على استغلال طريقة توريث الملك الإفريقية في عقب بنات أو أخوات ملوك النوبة في السودان. وأن تلكم الحيل المخاتلة قد انطلت على أولئك السذج فخرج الملك من خلص النوبة إلى هذا الهجين الخلاسي المخاتل. شكك عبد الله في صحة مزاعم ابن خلدون بشواهد عديدة لم تنته إلى حقيقة قطعية تؤكد أن التوارث في النوبة كان عن طريق الأم وربما صار الأمر إلى ذلك مرات استثنائية بظروفها. ولو اعتبرنا أن بلاد النوبة كانت جزءاً من العالم القديم بما دلت على ذلك آثار الرومان واليونان الكائنة حتى اليوم في بلادهم وأن ملوكها النوبة زعموا أنهم من حمير، كان لذلك التواصل آثاره على ثقافتهم في ان يكون التوريث عن عصب الأب كما كان الحال ولم يزل في معظم بقاع الأرض.
علاقة هذا الأمر بخطاب الهوية السودانية فيما أفهم أنكره عبد الله محقاً حيث لم يقم عليه دليل دامغ يستند إليه وإنما كان مقالة أطلقها ابن خلدون، ولأنه يستبطن شنشنة في حوارات الهوية تدمغ حملة الثقافة العربية في السودان ذراري أولئك بسجايا المكر والتدليس فضلاً عن نزع إفريقيتهم واعتبارهم جنساً طارئاً على إفريقيا ما له من قرار بما يحمل هذا الاستبطان من خطورة أدت في بعض صورها إلى مجزرة في حق عرب زنجبار في ستينيات القرن الماضي بعد أن نزعت إفريقانيتهم وكأن الإفريقانية هي فقط سواد البشرة والزنوجة غضاً للطرف عن سكان شمال القارة الذين هم سكانها الأصلاء على مر التأريخ. هذه الورقة شبيهة بمقالة للدكتور عبد الله بعنوان "عرب الحافة". هذا الجهد المؤكِد لإفريقانية جميع السودانيين (من دون فرز) يساعد في تقوية اللحمة وتأكيد الهوية المشتركة.
الورقة الأخيرة بعنوان جغرافيا الاستعمار المانوية ومحنة محمود محمد طه (1985)*
وهى ورقة هامة توضح بجلاء الإطار المعرفي لكتابات الأستاذ الدكتور عبد الله على إبراهيم تجده في نقده لنهج بخت الرضا في التعليم وفى فصل القضاء والتعليم إلى فسطاطين فيما يسميه عبد الله بالمانوية، خلقا مشكلات لا حصر لها امتدت آثارها لمناح عديدة في قضايا ما بعد الاستعمار. وأزعم أنه الوحيد الذى وفق في تشخيص الكثير من القضايا باستصحاب هذه المانوية ومن ذلك النظر لقضية الأستاذ محمود محمد طه. يقول عبد الله في التعريف فيما هو بصدده في كتابة الورقة: تفحص هذه الورقة محنة المفكر السوداني الاستاذ محمود محمد طه (1909-1985) الذي حوكم بالردة، واستتابوا تلاميذه، وأعدم في عهد الرئيس الاسبق جعفر محمد نميري (1969 -1985م).
سترد الورقة بلاء طه وتلاميذه إلى جغرافيا فضاءات استنها الاستعمار فأورثت المستعمرة عنفاً تربص بها أشقاها في استقلالها. فشق الاستعمار المُستَعمرة إلى فضاءين: حديث وتقليدي. واصطلح فرانز فانون، الطبيب النفساني الفرنسي المارتينكي الأصل، على وصف هذه الجغرافيا ب "المانوية" نسبة إلى ماني، صاحب الديانة الفارسية التي تعتقد في انقسام أزلي للعالم بين نقائض مثل الخير والشر، يدور بينهما صراع درامي أزلي. فما حل الاستعمار ببلد، في قوله، حتى قسمه إلى فضاءين: الحيز الأوربي الذي له الأمر ومستودع القيم المستقبلية، وحيز "الأهالي" المغلوب على أمره ومستودع القيم الآفلة. وقد وصف فانون هذا العالم "المزدوج" المتباغض بهرميته الاعتباطية بقوله إن الفضاءين، الحديث والتقليدي، متعارضان من غير سعي من جانبيهما لبلوغ أي شكل أعلى من الوحدة .
يرد عبد الله عبر الوثائق والإفادات العديدة التي عكف على اقتنائها ودراستها أس المشكلة إلى صراع الحداثة والتقليدية الذى كرسه المستعمر في التعليم بين المدارس الحديثة والمعاهد الدينية وتفضيل الأولى على الثانية في الأجور والترقي والقبول عند الناس وبين القضاء الشرعي المنقوص السلطات وبين القضاء الحديث المستمد من القوانين البريطانية والهندية والتفرقة بين العالمين في كل شئ. ولما كانت الورقة بين يديكم أورد هنا خلاصةما توصل إليه عبد الله وأرى فيه جهدا مثابرا للوصول إلى لب المشكلات بعيدا عن تسييس القضايا :
أصدر الأزهري قانون المحاكم الشرعية لسنة 1967 الذي رفع وصاية القسم المدني على الشرعي وساوى بين القضاة المدنيين والشرعيين في شروط الخدمة. أما نميري فأعلنها إسلامية كاملة الدسم قانونها هو شرع محاكم القضاة.
الكتابات السابقة: كيف أخطأت تشخيص محنة طه
قصرت الكتابات السابقة عن الإحاطة النافذة بمحنة طه حين عالجتها بمعزل عن التنظيم الثقافي المانوي الاستعماري الذي اكتنفها. وساق هذا بالضرورة إلى قصور في تحليل المحنة بثلاثة سبل:
أولهما: بالتركيز على دور الإخوان المسلمين، جماعة حسن الترابي، في قتل طه. وهو تركيز لا يعدل جرم الإخوان الحقيقي في مقتله. وهذا الجنوح في التركيز على الجماعة مما أملته خصومة أقرانهم التاريخية في الصفوة الحداثية لها في مسارح الجامعات.
ثانيهما: باستصغار الصفوة الحديثة للقضاة استصغاراً تشربوه من القسمة المانوية للحداثة والتقليد. فظنوهم غشماء سياسة حتى وهم يقتلون متربصين خصماً سياسياً ومهنياً. فمتى تسيسوا كان ذلك من أثر الإخوان المسلمين عليهم.
ثالثهما: لم ير فقهاء القانون المحدثون في أداء قضاة محاكمات ردة طه سوى عوار حقوقي اتسم بالتفلت في الاختصاص والانقلاب على مرعيات العدل الحديثة. وهذا ما لا يقع إلا من قانونيين كالقضاة في الدرك الأسفل.
خلافاً للسائد في تعيين المُلام في قتل طه تجادل هذا الورقة أنه كان لقضاة القسم الشرعي في القضائية ضغينة مؤكدة عليه رغبوا في الانتقام لها بأكثر مما كانت للحركة الإسلامية. ولبيان ثأر المشيخية على طه تفحص هذه الورقة الصراع المستميت بينهما منذ صدور حكم الردة الأول بحقه حتى مصرعه في 1985.
هذا كتاب جدير بالقراءة بغرض السعي الدؤوب المتجرد للإفادة من منهج رصين في البحث الأكاديمي راقت لك استنتاجاته ونتائجه أم لم ترق لك.
+++++
الدكتور الخضر هارون
يوليو 2017


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.