وفد عسكري أوغندي قرب جوبا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    والي الخرطوم يشيد بمواقف شرفاء السودان بالخارج في شرح طبيعة الحرب وفضح ممارسات المليشيا المتمردة    مجاعة تهدد آلاف السودانيين في الفاشر    تجدّد إصابة إندريك "أحبط" إعارته لريال سوسيداد    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    لدى مخاطبته حفل تكريم رجل الاعمال شكينيبة بادي يشيد بجامعة النيل الازرق في دعم الاستقرار    شغل مؤسس    عثمان ميرغني يكتب: لا وقت للدموع..    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    محمد خير مستشاراً لرئيس الوزراء كامل إدريس    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    الشان لا ترحم الأخطاء    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة أقوي من الطغاة و أعمق من احلام المخذلين المثلث الشرير يعد أحد أهم الأسباب التي أخرت و لا تزال تؤخر الثورة السودانية
نشر في الراكوبة يوم 18 - 10 - 2013

لم يكن هنالك شخص بمقدوره التنبؤ حتي قبل خمسة أيام فقط من تاريخها باندلاع انتفاضة شعبنا الظافرة في مارس/أبريل 1985م بل أن شائع القول في كثير من مجالس الناس وقتها (بعد حالة اليأس التي أصابت الكثيرين جراء 16 عاما من القهر و القمع و الاعتقال و الملاحقة و التجويع و التشريد و انتهاك الحرمات و التفريط في السيادة الوطنية) هو أن نظام نميري قد استحكمت حلقاته في قِبل بلادنا الأربعة و أصبح قدرا مسلطا علي شعبنا لا فكاك منه و قوة ضاربة لا تقهر و لا يوجد في رحم الشعب السوداني بتنوعه و عظمته و جلالة قدره و تاريخه الضارب في القدم بديلا له.
و حتي بعد أن بدأت الاحتجاجات صغيرة ، محدودة ، و متفرقة في 26 مارس 1985م لم يكن بمقدور أحد أن يجزم بحتمية اتساعها و تحولها إلي انتفاضة شاملة تطيح بالنظام.
و علي نفس شاكلة تصريحات صحَّافي الطغمة الحاكمة اليوم و أبواقها الكاذبة و رموتاتها المبرمجة سلفا و معلباتها الجاهزة من أمثال ربيع عبد العاطي ، قطبي المهدي و غيرهم من المنتفعين كان المرحوم دكتور إبراهيم عبيد الله أحد قيادات الحركة الإسلامية (و قد كان وقتها وكيلا لوزارة المالية و رئيسا لعدد من اللجان الإقتصادية في عهد نميري و أصبح وزيرا للتجارة في بدايات حكم الإنقاذ) دون حياء أو خجل يملأ الصحف السودانية ضجيجا إبان اندلاع حركة الاحتجاجات و اتساعها شيئا فشيئا بأن السلطة المايوية قد صنعت كوادر قوية قادرة علي حمايتها و هو بذلك يزيل أي شك ساور بعض الناس وقتها (خاصة بعد اعتقال بعض قيادات الأخوان المسلمين قُبيل سقوط النظام بأيام معدودة و علي رأسهم حسن الترابي نفسه) بأن الأخوان المسلمين كانوا جزءا لا يتجزأ من دكتاتورية مايو و شركاء بالأصالة في كل جرائمها (ما ظهر منها و ما بطن) و لذلك لم يكن مستغربا أن يسمح نظام الإنقاذ بعودة السفاح نميري من منفاه و يستقبله استقبال الأبطال و الفاتحين في تحدي و استفزاز صريح لإرادة شعبنا و إجهاضا لكل شعارات انتفاضته الخالدة في مارس/أبريل 1985م و ها هم رموز النظام المايوي مدنيين كانوا أم عسكريين ضمن أبرز رموز طغمة الإنقاذ الفاسدة و يحتل العديد منهم مراكز مرموقة في هرم السلطة و في كافة قطاعات الدولة و كذلك في مراتب الجاه و الغنج و النعيم.
و علي الرغم من عدم قدرة أحد التنبؤ بموعد اندلاع انتفاضة مارس/أبريل 1985م إلا أنها لم تكن وليدة للصدفة و لم تندلع وقتها من فراغ و لكنها كانت محصلة لصمود شعبنا و تراكمات نضاله المستمر لستة عشر عاما ضد دكتاتورية مايو منذ بداياتها في 25 مايو 1969م إلي سقوطها في 6 أبريل 1985م. و من أبرز تلك التراكمات 16 نوفمبر 1970م، أغسطس 1973م، 19 يوليو 1971م، 5 سبتمبر 1975م، 2 يوليو 1976م، انتفاضة يناير 1980م، انتفاضة دارفور، انتفاضة يناير 1982م التي سقط فيها الشهيد طه يوسف عبيد في مدني و نَظَم له فيها شاعر مدني المخضرم محمد محي الدين ملحمته الخالدة "عشرة لوحات للمدينة و هي تخرج من النهر بريشة طه يوسف عبيد".
ثورة 21 اكتوبر 1964م أيضا كانت تحولا نوعيا مدهشا للعالم أجمع عصيِّا علي استيعاب حكم الجنرالات و حلفائهم من شبه الإقطاع القبلي و اليمين الرجعي و تتويجا لتراكمات متواصلة لنضالات شعبنا منذ عشية انقلاب 16 نوفمبر 1958م و لم تكن (كما يختصرها دعاة الحركة الإسلامية و عرَّابيها) و ليدة ندوة الترابي بجامعة الخرطوم فهذا تزييفا للتاريخ و استهزاءا بقدرات شعبنا و نضالاته و ابتسارا لمفهوم الثورة.
فحديث قيادات الإنقاذ اليوم عن تراجع حدة المظاهرات التي انطلقت في 23 سبتمبر 2013م و عدم قدرتها علي إسقاط النظام حديث سطحي يكشف عزلة النظام و تغريده خارج السرب و عجزه عن فهم التحولات الاجتماعية الخطيرة التي تحدث في مسار الثورة السودانية بخطي ثابتة و هي تزلزل الأرض تحت أقدامه.
فما تم في 23 سبتمبر 2013م بغض النظر عن كونه قد يؤدي إلي اسقاط النظام أم لا فهو في نهاية الأمر انتفاضة حقيقية حفرت لنفسها خندقا عميقا في ذاكرة شعبنا و احتلت موقعا متقدما في تاريخ بلادنا و هي لا تختلف في جوهرها و مضمونها (برغم اختلاف الظروف و المرحلة و توازن القوي) عن انتفاضة يناير 1982م التي انطلقت من مدني و عمَّت العاصمة و العديد من المدن السودانية. و ليس بالضرورة للإنتفاضة (أي انتفاضة كانت) أن تؤدي حتما إلي إسقاط النظام في لحظة اندلاعها أو في أي لحظة من لحظات تطورها فالأمر تحكمه ظروف موضوعية و ذاتية معينة هي التي تحدد المدي الذي يمكن لأي انتفاضة الوصول إليه.
و لكن رغم ذلك فإن انتفاضة سبتمبر 2013م ستظل أحد أهم التراكمات الثورية التي مرت بها بلادنا خلال ال 25 عاما الماضية و التي تعتبر إضافة هامة لنضالات شعبنا ضد سلطة الإنقاذ منذ إنقلابها الغاشم علي إرادة شعبنا في يونيو 1989م استطاعت أن تحدث تحولات هامة و نهوضا كبيرا في تطور حركة الجماهير.
و من أبرز تلك التراكمات إضراب الأطباء في 26 نوفمبر 1989م بعد مرور أربعة أشهر فقط من انقلاب الإنقاذ الغاشم الذي قدم فيه أطبائنا الشرفاء الشهيد الدكتور علي فضل متأثرا بالإعتقال و التعذيب داخل بيوت الأشباح، حركة شهداء رمضان 1990م، انتفاضة ديسمبر 2009م، انتفاضة يونيو 2011م، النضال البطولي لمزارعي الجزيرة و المناقل، و غيرها من ملاحم الصمود و المقاومة في المعتقلات و بيوت الأشباح و الإضرابات المتفرقة التي لم تنقطع وسط حركة الطلبة و وسط الكيانات الإقليمية في دارفور، كردفان، النيل الأزرق، الشمالية، سنَّار، شرق السودان، دارفور، النيل الأبيض، شرق النيل و غيرها.
و إذا كانت انتفاضة مارس/أبريل 1985م قد جاءت بعد ثماني سنوات من الانفراجة السياسية النسبية التي أتاحتها المصالحة الوطنية عام 1977م فإن الانتفاضة أو الثورة أو التحول الثوري النوعي (أيا كان) الذي يكون بمقدوره الرمي بالنظام في مزابل التاريخ (و إن كان لا يمكن التنبؤ به بعد مضي أكثر من ثماني أعوام من الانفراجة السياسية النسبية التي خلَّفتها اتفاقية السلام الشامل عام 2005م) يبقي حدثا قادما لا محالة.
أحد أهم التحولات الهامة التي أحدثتها انتفاضة سبتمبر الخالدة و أبطالها بناتنا و شبابنا الشرفاء بصدورهم العارية و هتافاتهم الداوية هي النهوض النوعي في حركة الجماهير وسط مستويات هامة من مستويات تنظيم الجماهير علي رأسها الأطباء، المحامين، الصحفيين و الإعلاميين، الصيادلة، المعلمين، موظفي البنوك، المزارعين، المثقفين و المبدعين و غيرهم. و علي الرغم من أنه نهوضا لا يزال محدودا إلا أنه يكتسب أهميته و خطورته من كونه أولا: جاء محاطا بقوة ضاربة من القهر و الملاحقة و التهديد و الإختراق و ثانيا: من كونه أيضا يأتي بعد ربع قرن من الزمان شنَّت خلالها سلطة الإنقاذ حملة منظمة و ممنهجة لتدمير النقابات و تفريغها من محتواها المطلبي و دورها الريادي و بعدها الثوري و عمقها الإجتماعي و ارتباطها اليومي بحياة الجماهير بحلها و تشريد قياداتها و تفتيتها بابتداع ما يعرف بقانون نقابة المنشأة الذي يجمع بين العامل و الفراش و الموظف و الوزير أعضاء في نقابة واحدة برغم الفوارق الطبقية و الإختلاف الشاسع في القضايا المطلبية لذلك فقد كان من سخرية القدر أن يصبح دكتور إبراهيم غندور الرأسمالي الطفيلي و رجل الأعمال ميسور الحال صاحب المليارات و أحد أعمدة الطغمة الفاسدة في نقابة واحدة مع العمال و هم لا يملكون قوت يومهم بل و يصبح نقيبا لهم (رحم الله الشهيد الشفيع أحمد الشيخ الذي تولي مسئولية نائب رئيس الاتحاد العالمي لنقابات العمال عام 1957م كأصغر قائد نقابي يتولى هذه المسؤولية العالمية حينها و قد بدأ حياته عاملا في ورش السكة حديد بعطبرة و هو لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره.
و رحم الله الراحل إبراهيم زكريا النقابي المخضرم الذي تولي مسئولية السكرتير العام لنفس الإتحاد العالمي لأكثر من دورة فقد كان الإثنان و غيرهم مفخرة لشعبنا و رموزا خالدة للقادة النقابيين الذين أنجبتهم الحركة النقابية من داخل المصانع و الورش). و كلما استمر النهوض في حركة الجماهير كلما انعكس ذلك في تماسك القوي الحيَّة وسط النقابات و نهوضها و استعادتها لقوتها و قدرتها علي تنظيم نفسها من جديد و تبنيها لمطالب الجماهير و التحاقها بالصفوف الأمامية كعهدها دائما في مسيرة الثورة السودانية.
الهجمة الشرسة المنظمة التي قام بها النظام خلال الخمسة و عشرين عاما الماضية لضرب حركة الجماهير ممثلة في نقاباتها و اتحاداتها المهنية و الشبابية و منظماتها المدنية و استبدالها بكيانات مستأنسة موالية للنظام (عملت و لا تزال علي مساندة النظام و حمايته و تزييف وعي الناس و تفتيت قضاياهم المطلبية و تحولت إلي بؤر للخيانة و القمع و التشريد و الفساد و الانتفاع و الثراء الحرام) و إن أسهمت بدرجة كبيرة في إطالة عمر النظام و إعاقة نمو تطور حركة الجماهير و إحداث حالة من الإنقطاع التاريخي فيها و لكنها (أي هذه الحالة من الإنقطاع التاريخي) مع ذلك و وفقا لقوانين التطور الإجتماعي تعتبر جزءا تاريخيا لا يتجزأ من استمرارية عملية التطور نفسها.
فمع هذا الاستهداف المنظم لحركة الجماهير و تزامنه مع حالة الإنهيار التام في كافة القطاعات الإنتاجية و تردي الخدمات خاصة في القطاع التقليدي تخلخلت البنية الإجتماعية لهذا القطاع الهام و افرزت فيه حركة الجماهير أشكالا بديلة لتنظيم نفسها فظهرت في مسار الثورة السودانية قوي جديدة ممثلة في قوي المهمشين في دارفور و جنوبي كردفان و النيل الأزرق و التي عبَّرت عن نفسها بنضالها المسلح و الذي اسهم في إضعاف النظام و تعريته و لفت انتباه المحيط الإقليمي و العالمي للجرائم البشعة التي ارتكبها و لا يزال يرتكبها النظام. و في المقابل أيضا أفرزت حركة الجماهير كيانات إقليمية جديدة في شمال السودان و في شرق النيل و أحدثت تطورات هامة في الكيانات الإقليمية المتواجدة في شرق السودان منذ وقت مبكر و كان لها ارتباطها الوثيق بقضايا جماهير شعبنا و تطلعاته. هذا بجانب حركة الشباب التي استفادت من نمو و تطور وسائط تكنولوجيا الإتصالات في تنظيم نفسها و التعبير عن شعاراتها و تطلعاتها و كان لها الدور الطليعي في انتفاضة يناير 2009م و يونيو 2011م و سبتمبر 2013م مدعومين بتلاحم السودانيين في المنافي البعيدة و القريبة من خلال فضح النظام في مواقع الشبكة العنكبوتية الوطنية و علي رأسها الراكوبة ، سودانيزاونلاين، حريات، سودانايل، و غيرها من المواقع الوطنية، و العديد من الصفحات المنظمة في الفيس بوك و التي أصبحت منابر أصيلة للنضال ضد النظام و سمة من سمات الثورة السودانية. و علي الرغم من محاولات النظام المستمرة التقليل من أهميتها إلا أنها أصبحت واقعا ملموسا معاشا له دوره الخطير في فضح النظام و تعريته و في الاسهام في تعبئة حركة الجماهير و توحيدها و يجد النظام اليوم نفسه عاجزا تماما عن تلجيمها و قمعها اسوة بإغلاق الصحف و تكميم الأفواه في الداخل.
هذا الواقع التاريخي لمسيرة الثورة السودانية و تطورها (للأسف الشديد) يأتي متعارضا مع مصالح بعض القيادات الطائفية لبعض القوي اليمينية السياسية المؤثرة التي لا تستأنس لهذه التحولات الخطيرة المتسارعة في تركيبة بنية المجتمع السوداني و يقلقها بروز قوي الهامش و حركة الشباب كقوي إجتماعية متقدمة تخطو بثبات لتحتل مراكز متقدمة في توازنات القوي السياسية و سيكون لها دور بارز و مؤثر فيما بعد في رسم مستقبل السودان و أصبحت تهدد المصالح الطبقية لهذه القوي اليمينية ممثلة في بعض القيادات الطائفية لهذه الأحزاب اليمينية (نستثني تلك القيادات الطائفية الوطنية التي اصطفت مبكرا في مقدمة صفوف قوي الهامش و تبنت تطلعات جماهير الكادحين و المهمشين من جماهير الشعب) التي تحاول جاهدة إيجاد صيغة أو سيناريو تستطيع من خلاله المحافظة علي مصالحها الطبقية و إعادة السودان للمثلث القديم (نهوض في حركة الجماهير يؤدي لثورة شعبية شاملة تطرح شعارات متقدمة تفرز نظام ديمقراطي يكون لأحزاب اليمين (التي لا تختلف كثيرا مع الطغمة الفاسدة حول ما يعرف بالمشروع الحضاري أو مشروع السودان العروبي المسلم) الحظ الأوفر في السلطة تتجاهل مصالح الشعب تقوم بإجهاض شعارات الثورة أو الإنتفاضة و من ثم تنكص عن الديمقراطية عندما يشتد بها الخناق تحت ضغط الجماهير فتقوم بالتآمر علي الديمقراطية إما بتسليم السلطة للعساكر أو تغض الطرف عن انقلاب عسكري يتم التخطيط له تحت مرمي و مسمع منها و لا تحرك ساكنا و لا تتمكن بالتالي الديمقراطية من إكمال حتي دورتها الأولي).
هذا المثلث الشرير يعد أحد أهم الأسباب التي أخرت و لا تزال تؤخر الثورة السودانية و تجعل قطاعات كبيرة من جماهير شعبنا تتخذ مواقفا سلبية بدافع اليأس و الخوف من العودة لنفس الدوامة. فقوي اليمين كما قال الشهيد عبد الخالق محجوب هي أول من يرفع رايات الديمقراطية و هي أول من ينكص عنها). و لذلك فإن المواقف المترددة للإمام الصادق المهدي و مولانا محمد عثمان الميرغني (مع احترامنا لهما) ليست مواقفا مستغربة أو جديدة علي شعبنا فقد خبرها و عاشها منذ بواكير الحركة الوطنية و حتي يومنا هذا و "سقوط الأقنعة - سنوات الخيبة و الأمل " للكاتب المخضرم فتحي الضوء يعرض بصدق و وضوح نماذجا من هذه المواقف و هم (أي الإمام الصادق و مولانا الميرغني) أكثر القيادات قناعة (بحكم سنَّهم و عمرهم السياسي الطويل) بأن زمن الحكومات الطائفية و سيادة السلطة الأهلية و القبلية يسير في العد التنازلي و أن نفوذ هذه القيادات الطائفية في القطاع التقليدي الذي ظل دائما (دوائر مسوكرة لها) قد تخلخل و اهتز تحت عروشهم (شاءوا أم أبوا) فجزء كبير من قيادات الجبهة الثورية و مقاتليها في دارفور و جنوبي النيل الأزرق و جنوب كردفان هم في الحقيقة أنصار أبناء أنصار أو ختمية أبناء ختمية دفعت بهم مسيرة الثورة السودانية و تطورها لتجاوز هذه القيادات و اتخاذ مواقع أكثر تقدما. و مهما بلغت محاولاتهم و دبلوماسيتهم فهم لا يستطيعون التآمر علي التاريخ أو فرملة مسيرته.
و بالتالي علي شبابنا و قوانا الحيَّة وسط حركة الجماهير عدم الإنتباه لمواقف الإمام الصادق المهدي فهي لن تستطيع فرملة الثورة أو التآمر عليها أو تحويلها في إتجاه مغاير لمصالح الجماهير. فجماهير الأنصار و حزب الأمة دون الإمام و بعض المندسين من سدنة النظام المايوي و عملاء المؤتمر الوطني التي تؤآزره و تفرش له الأرض حريرا و تري فيه منقذا لمحنتهم و فشلهم و مصيرهم المشئوم) هم جزء من جماهير الثورة السودانية و مصالحهم مرتبطة ارتباط وثيق بمصالح الجماهير و دفعوا نفس الثمن الذي دفعته و لا تزال تدفعه جماهير شعبنا يوما بعد يوم و كيان الأنصار حزب الأمة يذخر بقيادات وطنية مشهود لها و كوادر شبابية واعدة. و سيأتي اليوم الذي تتخطي فيه هذه الجماهير الكاسحة مواقف الإمام المترددة و يكون لها كلمتها الفصل و تلحق بركب الثورة و تعيد بناء حزبها علي أسس ديمقراطية سليمة و يعود حزب الأمة للصف الوطني من جديد مواكبا لنبض الشارع. و علي شبابنا أيضا عدم الالتفات للمواقف المترددة لمولانا محمد عثمان الميرغني فجماهير الحركة الإتحادية كما قال أحد قادتها التاريخيين قديما (هم أصحاب صناديق الإقتراع و إن أتت بغيرهم) و هم من كانت مقولة فولتير أحد أبرز رموز الثورة الفرنسية و ملهميها (قد اختلف معك في الرأي و لكنني علي استعداد كي أدفع بحياتي ثمنا حتي تقول رأيك) أحد شعاراتهم الخالدة. فجماهير الحركة الإتحادية كانوا و لا يزالون أشد ارتباطا بحركة الجماهير و سرعان ما تتجاوز مواقفهم مع تزايد النهوض الجماهيري مواقف قيادتهم الطائفية و يلحقون بتيار الثورة المتصاعد.
تكتسب الثورة السودانية سماتها الخاصة من واقع التنوع الثقافي و العرقي الذي يذخر به شعبنا و من تاريخه العريق الضارب في القدم و إرثه الثوري الممتد منذ حضارة كوش و نضال محاربيها السود الأقوياء و من تلاحم شعبنا في الثورة المهدية و في الأناشيد و الأهازيج التي نظمها أحفاد دينق في جنوب السودان مناصرة للإمام محمد أحمد المهدي و ثورة عبد القادر ود حبوبة و ثورة 1924م بقيادة علي عبد اللطيف و عبد الفضيل الماظ و رفاقهم و بملاحم النضال الوطني ضد الإستعمار و في ثورة اكتوبر 1964م و انتفاضة مارس/أبريل 1985م. و كذلك تكتسب الثورة السودانية سماتها الخاصة من حضارة شعبنا الضاربة في القدم و التي جعلت السودانيين من أكثر شعوب العالم قدرة علي التداخل و التعايش السلمي مع كافة شعوب العالم. فتعايش السودانيين في المنافي القريبة و البعيدة و اكتسابهم لاحترام و تقدير كافة شعوب العالم التي هاجروا لها لا يأتي من فراغ و إنما من حقيقة أن السودانيين شعب متحضر متنوع في ثقافاته و منفتح علي بعضه البعض و علي كافة شعوب العالم.
و تكتسب الثورة السودانية سماتها الخاصة أيضا من كونها أكثر تقدما في عمقها و سياقها التاريخي من ما يعرف بثورات الربيع العربي التي استطاعت فيها الشعوب العربية في تونس و مصر و ليبيا من إسقاط الأنظمة الديكتاتورية العسكرية التي صعدت إلي السلطة بشعارات الاشتراكية و القومية كامتداد تاريخي لحركة القوميين العرب التي تمثل الوجه الراديكالي لما تم الاصطلاح عليه تاريخيا بحركة النهضة العربية (التي بدأت بدورها في بدايات الربع الأول من القرن الماضي و كانت حركة البعث الإسلامي تمثل الوجه اليميني لها بقيادة ما يعرف بالحركة الإسلامية و زراعها الآيديولوجي ممثلا في حركة الأخوان المسلمين) و حكمت هذه البلدان لأكثر من أربعين عاما و أدت إلي صعود حركة الأخوان المسلمين في تلك البلدان إلي السلطة. في الوقت الذي استطاعت فيه الثورة السودانية في مسيرتها الطويلة اسقاط نفس الديكتاتورية العسكرية التي صعدت للحكم في السودان تحت شعارات الاشتراكية و القومية العربية قبل أكثر من ثماني و عشرين عاما و جربَّت حكم الأخوان المسلمين لخمسة و عشرين عاما. و لذلك سيكون للثورة السودانية القادمة انعكاساتها الخطيرة علي محيطها العربي و الإقليمي و سيدهش شعبنا قريبا العالم أجمع و يثبت له أنه لا يزال معلما للشعوب في فنون النضال و الثورة.
تكتسب الثورة السودانية سماتها الخاصة أيضا من حقيقة أن بلادنا زاخرة بمواردها الطبيعية و ثرواتها غير المحدودة مما يفتح آفاق المستقبل أمامها للاستغلال الأمثل لهذه الموارد ضمن اقتصاد وطني ديمقراطي متوازي له بعده و عمقه الإجتماعي يقوم علي علاقات إنتاج عادلة تعبِّر عن تطلعات و آمال شعبنا و تستوعب طاقاته و قدراته و تفتح الطريق علي مصراعيه لنمو قواه المنتجة.
فعلي جماهير شعبنا و هي تخطو بثبات نحو آفاق الثورة الوطنية الديمقراطية أن تتحلي بالصبر و الأمل و التفاؤل بالغد الأفضل فهذا من شيم القادة و الثوار و المناضلين و علينا ألا نجمد عقولنا في تجاربنا و مراراتنا السابقة و نحن نخوض غمار ثورة جديدة تقتص من كل الذين أجرموا في حق شعبنا خلال الخمسة و عشرين عاما الماضية و من سبقهم من أثرياء و مجرمي مايو الذين منحتهم الإنقاذ صكوكا للغفران و لا مكان فيها لشعار عفي الله عما سلف و لا عاصم وقتها من غضب الشعب السوداني للطغمة الفاسدة و أذيالها و حلفائها و من يساندها في الخِفاء أو أيٌ من أبناء جنسها (حتي لو انسلخوا عنها تحت هدير صوت الشارع و تحت أيُ شعار كان. فلن يلدغ المرء من جحر مرتين كما تقول الحكمة فالردة (كما يقول الشاعر مظفر النواب) تخلع ثوب الأفعى صيفا و شتاء تتجدد. فلا مكان للحركة الاسلامية في مستقبل السودان إلا لمن يؤمن بالديمقراطية و النمو المتوازي و التعدد و التنوع الثقافي و حرية التعبير و حرية الاعتقاد و ابعاد الدين عن السياسة و احترام القوانين و مواثيق حقوق الإنسان. و لن يسمح شعبنا هذه المرة بتكرار دوامة مثلث الشر (ثورة ، سلطة اليمين الطائفي ، انقلاب عسكري) و سيكون البديل هو الديمقراطية و هو الشعب بكافة أحزابه الوطنية و قواه السياسية المؤمنة بالثورة و شعاراتها و هو الكيانات الجديدة التي أفرزتها مسيرة الثورة السودانية ممثلة في حركة الشباب و النساء و المهمشين من أبناء شعبنا و كياناتهم السياسية المعبرة عنهم و الكيانات الإقليمية و في النقابات و كافة العاملين في مواقع الإنتاج التقليدي و الحديث.
عاش نضال شعبنا المعلم
عاشت مسيرة الثورة السودانية
و المجد و الخلود لشهدائنا الأبرار
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.