الخرطوم وأنقرة .. من ذاكرة التاريخ إلى الأمن والتنمية    مدرب المنتخب السوداني : مباراة غينيا ستكون صعبة    لميس الحديدي في منشورها الأول بعد الطلاق من عمرو أديب    شاهد بالفيديو.. مشجعة المنتخب السوداني الحسناء التي اشتهرت بالبكاء في المدرجات تعود لأرض الوطن وتوثق لجمال الطبيعة بسنكات    شاهد بالفيديو.. "تعب الداية وخسارة السماية" حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي ترد على معلق سخر من إطلالتها قائلاً: "لونك ضرب"    تحولا لحالة يرثى لها.. شاهد أحدث صور لملاعب القمة السودانية الهلال والمريخ "الجوهرة" و "القلعة الحمراء"    الجيش في السودان يصدر بيانًا حول استهداف"حامية"    الجيش السوداني يسترد "الدانكوج" واتهامات للدعم السريع بارتكاب جرائم عرقية    مطار الخرطوم يعود للعمل 5 يناير القادم    رقم تاريخي وآخر سلبي لياسين بونو في مباراة المغرب ومالي    شرطة ولاية القضارف تضع حدًا للنشاط الإجرامي لعصابة نهب بالمشروعات الزراعية    استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وراء تزايد تشتت انتباه المراهقين    بدء أعمال ورشة مساحة الإعلام في ظل الحكومة المدنية    ما بين (سبَاكة) فلوران و(خَرمجَة) ربجيكامب    ضربات سلاح الجو السعودي لتجمعات المليشيات الإماراتية بحضرموت أيقظت عدداً من رموز السياسة والمجتمع في العالم    قرارات لجنة الانضباط برئاسة مهدي البحر في أحداث مباراة الناصر الخرطوم والصفاء الابيض    غوتيريش يدعم مبادرة حكومة السودان للسلام ويدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    استقبال رسمي وشعبي لبعثة القوز بدنقلا    نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    قبور مرعبة وخطيرة!    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل نحن قوم كافرون..!؟ (حُظر عن النشر)
نشر في الراكوبة يوم 27 - 12 - 2010

إذا كنت يا عزيزي القاريء ممن يرتادون المساجد وشهد الناس لهم بالإيمان، أو من المسلمين الذين اكملوا أركان دينهم الخمسة أو حتى بعضاً منها. وحدث أثناء تلك المسيرة القاصدة أن ساقك حظك العاثر أو أقدمت بمحض ارادتك لمشاهدة الشريط الكارثة أو ما سُمي ب (فتاة الفيديو) ثم تحركت غرائزك الإنسانية تلقائياً، وابديت أي نوع من التعاطف مع تلك الفتاة المقهورة، سواء بالتلميح أو التصريح أو حتى بالصمت وإن كان أضعف الإيمان. فاعلم - يا هداك الله - إنك خرجت من المِلة المحمدية ودخلت مِلة الكفر، ويتوجب عليك تبعاً لذلك الاغتسال والتطهر وصلاة ركعتين، ومن ثمّ دخول الإسلام مجدداً إن رغبت في ذلك. هذا بحسب الفتوى التي طيّرها في الهواء الطلق المشير عمر حسن البشير رئيس الجمهورية في مدينة القضارف يوم الجمعة الماضية الموافق 17/12/2010 وذلك في معرض تعليقه على الحدث الذي شغل الناس كافة والسودانيين على وجه الخصوص، وما يزال ينداح دوائر.. ظلت تتسع كلما أشرقت شمس يوم جديد!
واقع الأمر لم يكن ذلك هو التعليق الأول فقد سبقه اثنان من العصبة ذوي البأس، كان أولهما الدكتور نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية ومسؤول التنظيم في الحزب الحاكم، وذلك في حوار مع قناة الجزيرة يوم 9/12/2010 حين سألته إحدى المتداخلات عن ملابسات القضية؟ فأجابها وفق منهجه الحضاري المعروف في التعامل مع الأشياء وقال: (أخشى لو علمت بجُرمها أن تتمنى لو أنها قُتلت) ثم استطرد بخلاصة مفجعة (إن المرأة المحترمة لا يمكن أن يتم جلدها، وطالما تمّ جلد هذه المرأة فهذا لأنها امرأة غير محترمة) وبالطبع هذا حديث كفيل بتحويل السياط من جسم الفتاة إلى أجسام سامعيه من القراء الكرام! ثمّ أعقبه الدكتور عبد الرحمن الخضر والي ولاية الخرطوم العاصمة، فأكمل تحويل دائرة الشك إلى يقين. جاء ذلك في حوار آخر أجرته معه قناة النيل الأزرق الفضائية يوم 14/12/2010 وكان أكثر جاهزية من سابقه. إذ جاء مدججاً بمعلومات وافية بحسب زعمه، قال إنه طلبها خصيصاً لينوِّر بها السادة المشاهدين، ثم بدأ يتلو حيثيات الجريمة والعقاب كنبيّ بُعث في قوم فاسقين، وقال في فاتحة كتابه: (الشريط الذي تمّ بثه هو في الواقع إقامة لعقوبة حدية صادرة عن قاضٍ مختص) ثمّ زاد بشرحٍ فصلٍ (العقوبة الحدّية أُقيمت لتُطهر من يرتكب الجريمة، وقد رُوعي فيها أن يشهدها طائفة من المؤمنين ويسدل الستار عليها) ثمّ بدا غير عابيء لا بالقذف ولا القذائف، مؤكداً أن الفتاة بائعة هوى محترفة، وأن جميع المواد التي وُجهت لها (متعلقة بأعمال أخلاقية وفاضحة وإدارة الدعارة) وكأني بصوت ينبعث من وراء حجاب يقول لنا: فبأي براهين واليكم تكذبان؟!
تلك نتيجة استسهلها الوالي جزاه الله عنا خير الجزاء.. بالرغم من أن الشريعة الإسلامية نفسها استصعبتها حتى كادت أن تكون كالغول والعنقاء والخل الوفي. ومع ذلك نطق صوت من وراء الحدود مؤازراً ومعضداً ومصدقاً سيدنا الخضر من قبل أن يرتد إليه زعمه. إذ استعار الدكتور خالد المبارك عيني زرقاء اليمامة، وقال لهيئة الاذاعة البريطانية يوم 14/12/2010 إن (الفتاة أدينت مرات عديدة بتهمة ممارسة الدعارة) وحتى ينزل قوله برداً وسلاماً على متلقيه، ادّعى المبارك أن عقوبة الجلد نفسها موجودة في المدارس البريطانية. وبغض النظر عن الافتراء هب أنها موجودة يا سيدي، هل يعني ذلك أنها مقبولة؟ لكن للذين لا يحسنون فك طلاسم البشر، نقول إن المبارك ليس الملحق الإعلامي لنظام العصبة في بريطانيا فحسب، بل عاش فيها مواطناً صالحاً نهل من فيض جامعاتها، ثمّ عاش فيها معارضاً لذات النظام الذي يجتهد الآن في تحسين صورته. وبالتالي فهو يعلم علم اليقين أن دستور وقوانين الإمبراطورية البريطانية وضعت ذاك الفعل الحيواني في مصاف الجرائم ضد الإنسانية. ومع ذلك نحن نعلم أنه لا هذا ولا ذاك يمكن أن يقنع من ارتضى لنفسه لعب دور محامي الشيطان كلما استطاع لذلك سبيلا، فبمثلما أذهل المبارك الإسلامويين بتلك الطاعة العمياء، فقد أذهل العلمانيين أيضاً بسرعة التطبع. ولا غروّ إن أصبح مثلاً للذين اضاعوا عمراً في الكرى ورجعوا القهقرى كما ولدتهم أمهاتهم! ولا عجب إن كان المبارك قد أراق حبراً كثيراً في نقد تلك القوانين سيئة الصيت في زمن مضى، فقد أراق ما هو أعز من الحبر بتبرئة صانيعها في زمن أتى!
بناءً على فتوى التكفير التي طارت عصافيرها في الفضاء الواسع، نستطيع أن نقول إنه من غير صاحب الفتوى والثلاثة المذكورين الذين ساندوه، أن أكثر من عشرين مليوناً من البشر (بحسب التقديرات) وهم الذين شاهدوا شريط الفتاة في الفضائيات والمواقع الإسفيرية، أصبح المسلمون منهم بكل مللهم ونحلهم خارج إطار الديانة الإسلامية، أما غير المسلمين من يهود ونصارى وبوذيين وهندوسيين وكونفوشسيين ولادينين، سواء عليهم تعاطفوا مع الفتاة أو لم يتعاطفوا، فإن هذه الفتوى لن تزيدهم إلا خبالاً. لكن الذي حيرني وبعثرني وأطار النوم من عيني، حال بعض إخوتنا في الإنسانية من الإسلامويين الذين كانوا يدافعون عن مشروع العصبة، وإذا بالفتوى تضعهم ضربة لازب في فسطاط الكفر، وذلك بعد أن أسفروا عن مشاعر التعاطف مع الفتاة واستهجنوا فعل القرون الوسطى. من هؤلاء الكاتب النحرير الدكتور محمد وقيع الله أقال الله عثراته. فبعد أن أخذته العزة بالإثم قبل فترة، وعدّ للملأ أكثر من خمسين سبباً قال إنها كفيلة بأن تطأ العصبة فوق رؤوسنا وتجلس القرفصاء على صدورنا. فإذا بالفتاة المغلوب على أمرها تفتح بصيرته وينكص على عقبيه فيتبرأ مما فعلت عصبته، بل لم يستبشع الفعل كما فعل الكثيرون، ولكنه مضى إلى أبعد من ذلك وأنزل على عصبته سوط عذاب وطالب في مقاله المنشور بموقع سودانيل 14/12/2010 (بضرورة أن تتكاتف الأمة السودانية، وأن تهب وتقف وقفة رجل واحد، لإجبار دولة الإنقاذ على احترام حقوق الإنسان، وإرهابها عن أن تعود إلى اقتراف هذه الممارسات الشائنات، وإرغامها على إنزال اشد العقاب بمن ساموا هذه الفتاة أشد العذاب) وهل في ذلك قسم لذي حجر يا مولاي؟!
لأن ذلك من غرائب سلوك العصبة ذوي البأس، أقول ساورني شك عظيم في صدقية موقف الوقيع الله. إذ حدثني قلبي إن وراء الأكمة ما وراءها. فهل يا ترى قضى صاحبنا وطره من عصبته ولم يعد في حاجة لها؟ أم أنها أوصدت الأبواب في وجهه دون أن ينال منها ما طمح له وتطلع إليه طويلاً؟ لكن دعونا نحسن الظن ونقول إنه داهمه ندم الكسعي بعدما تبين له الرشد من الغي، وإن كان ذلك كذلك فسنحمد الله الذي هداه سواء السبيل، وسندعو الله مخلصين أن تستمر توبته ولا يرتد عنها مرة أخرى. ولكن يظل السؤال قائماً ماذا سيفعل الرجل بعد أن أخرجه مقاله من المِلة المُحمدية بنص الفتوى العُمرية وحشره مع الكفار والزنادقة؟ هل يا ترى سيغتسل ويتطهر ويعود إلى حظيرة العصبة مرتداً؟ أم أنه سيغتسل ويتطهر ويلوذ بكهف الفئة الكافرة تائباً؟ يمثل وقيع الله بمقاله المشار إليه حالة نادرة، فثمة قوم آخرون سدروا في موالاة العصبة ذوي البأس جراء منفعة يصيبونها في دنياهم، ولكن فجأة تكشفت لهم الحُجب وانقشعت أمامهم غيوم الإفك والضلال، فرأوْا الباطل باطلاً فاجتنبوه ورأوا الحق حقاً فاتبعوه!
نحن كما الشريعة علينا بالظاهر، لكن يبدو والله أعلم بالسرائر أن عودة الوعي هذه ستصيب واحداً من غير العصبة ذوي البأس وإن سخّر نفسه لخدمتها باخلاص جبّ تقاعسه في فعل الخير. صاحبنا الآخر اتّخذ موقفاً مماثلاً لموقف وقيع الله، إذ كتب الدكتور محمد إبراهيم الشوش (الرأي العام 21/12/2010) مقالاً تضمن صبغة اعتذارية بعد مقدمة طويلة قال فيها إنه شعر بالإحباط جراء ما شاهده من منظر مؤلم عبّر فيه عن خيبة أمله في من توسم فيهم العكس! ثمّ استبطن السخرية من الفاعل أو كفيله – بمصطلحات لغة العمل عند أهل الخليج الذي يعمل فيه – وقال: (لكن آخرين أحبوا هذا الفعل سرعان ما خيبوا أملي. فقد توالت الاتهامات على الذين انتقدوا هذا الفعل المسيء للإسلام ولسمعة هذا البلد الطيب، واتهموهم بالرغبة في إشاعة الفاحشة وعداء التوجه الإسلامي ولو كان أثر هذا الفعل الوحيد فتح ثغرة لأعداء الإسلام لكان كافياً لدمغه وادانته) بدا الشوش مشوشاً كمن ضربت الحيرة أقطار نفسه، فتساءل وأجاب معاً: (وما الحل؟ لا أدري! ولكني أعرف شيئاً واحداً أن علينا إما معالجة هذه القوانين التي يمكن أن يساءُ فهمها وتطبيقها، أو إذا تعذر ذلك إلغاء كل المؤسسات الإعلامية وتوفير أموال طائلة يذهب جلها هباءً على أية حال. ذلك لإن ممارسة كهذه تفقد السودان كل اصدقائه. وتملك من القوة الإعلامية ما ينسف أي عمل إعلامي إيجابي يمكن أن يتفتق عنه عقل بشر) يبدو لي – والله أعلم – أن الشوش كتب مقاله هذا قبل (فتوى القضارف) وتبعاً لذلك لا داعي للخوض فيما سبق السيف العزل فيه. ومهما يكن من أمر، فوجهة نظره تبدو على نقيض ما توصل له زميله في الضراء الدكتور خالد المبارك أو جوبلز الإنقاذي، بالرغم من أن الاثنين يعملان عند كفيل واحد، وإن كانا معاً يتحريان الكذب حتى كُتبوا عند وسائل الإعلام كذابين!
لأن النوازل لا تأتي فرادى، لم تتوقف (واقعة القضارف) في فتاوى الدين، وإنما شملت فتاوى الدنيا أيضاً. كان البشير النذير قد بشّر مواطنيه بحسم القضية التي ظلوا فيها يصطرعون منذ اعتماد الحدود الإدارية الراهنة للسودان، فقد أناب نفسه عن الأربعين مليون سوداني وحدد لهم مصيرهم بحديث لا يقبل الشك ولا التأويل، إذا قال في خطاب الوعد والوعيد (إذا اختار الجنوب الانفصال سيعدل دستور السودان، وعندها لن يكون هناك مجال للحديث "المدغمس" زي السودان بلد متعدد الديانات والأعراق واللغات، وسيكون الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع والعربية هي اللغة الرسمية) ولولا الأسئلة التي فتحت أبواب جهنم، لقلنا الحمد لله فقد قُضي الأمر الذي فيه تستفيان. فطالما الأمر كذلك فبماذا إذن حكمت العصبة هذا البلد المنكوب منذ أن تسورت حائط السلطة بليل قبل عقدين من الزمن؟ بل بموجب أي قانون جُلدت تلك الفتاة إذا كانت الشريعة لم تُطبق بعد؟ واقع الأمر لو أن العصبة ذوي البأس ادّعت أنها حكمت بشرع الله في العقدين المنصرمين، واعترفت الآن - وفق ما جاء في كلام حادي الركب - إنها لم تطبق الشريعة، فذلك يعني أنها مارست الكذب والخداع وتلك مصيبة، أما إذا قالت إنها كانت تحكم بقوانين الشريعة ماضياً وحاضراً (وفق ما ذكره الوالي عبد الرحمن الخضر في الحديث المشار إليه والذي قال فيه: نعمل بالقانون الجنائي لعام 1991 وما يزال سارياً والمستمد من الشريعة الإسلامية) تكون المصيبة أعظم. ذلك لأنها بموجب هذه القوانين قتلت أرواحاً وسحلت نفوساً وعذبت بشراً وسجنت أناساً وقطعت أرزاق أبرياء، فهل هذا هو الإسلام الذي كرّم الله به عباده؟
من جهة ثانية، لقد كشفت (نازلة القضارف) عن أن ثمة قوم توهموا عكس ما درجت عليه البشرية التي ترى في التعدد الإثني والعرقي والديني والتنوع الثقافي مصدر ثراء للشعوب، وأنه بقادر على إكسابهم قوة ومنعة ووحدة كما هو حال الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا وغيرهم من الدول. لكن المفارقة وفقاً حديث (طويل العمر) أن يُصبح التنوع في الحالة السودانية عبئاً ينبغي التخلص منه. وتبعاً لذلك يكون انفصال الجنوب مناسبة للإحتفاء والفرح، عوضاً عن البكاء ولطم الخدود وشق الجيوب. وبالتالي وفق نظرية النقاء العرقي التي أقرها سعادة المشير للدولة القادمة بعد الانفصال، يكون الباب مفتوحاً لشعوب وقبائل أخرى لمغادرة البيت السوداني والتخلص من هيمنة الإثنية واللغة والديانة الواحدة! تبعاً لكل هذا فإن من خطل الحديث، أن يقال إن الذين تعاطفوا مع الفتاة المجلودة هم (الذين يصطفون خلف فتاة نُفذ في حقها شرع الله يزدادون كل يوم خبلاً على إبالة) أو ب (المعارضين من أجل الخلاعة والتفسخ) مثلما قال دكتور نافع علي نافع (آخر لحظة 19/12/2010) أو أنهم (المعارضة الإسفيرية التي تستخدم سلاح الإنترنت وأنها خائبة ولا رجاء فيها) بمثلما جاء في صحيفة الرائد لسان حال الحزب الحاكم 19/12/2010 بمثل هذه الدرر، لا نشك مطلقاً في أن سيادته شاء أن يضرنا فنفعنا من حيث لا يحتسب!
لا يُعتقد أن الذين تعاطفوا مع قضية فتاة الفيديو ابتداءً، فعلوا ذلك من زاوية إسلامية أو عدم إسلامية القوانين، بقدر ما فعلوا ذلك من منطلق حقوق الإنسان ومعاييرها الدولية، علماً أن فيهم من يرى أنها ليست بعيدة عن المعايير الإسلامية باسقاط شريعة ما عادت حدودها صالحة لهذا الزمان. ولأن التجربة دلت على أن العصبة ذوي البأس جعلت من هذه القوانين مطية لتحقيق مآرب خاصة لا علاقة لها لا بالدين ولا الدنيا، أصبح من العسير أن يتقبلها الناس على يد جلاوزتها حتى لو جاءت مبرأة من كل عيب. والواقع نحن لهذا السبب واسباب أخر نرفضها وإن جاءت في طبق من ذهب. نقولها بقناعة كاملة إن قوانين قال الشعب فيها كلمته يوم أن أسقط صانعها مرفوضة تماماً. ومعلوم تماماً أن ما تم تطبيقه منذ العام 1983 هي قوانين سبتمبر التي استنزلها الرئيس المخلوع جعفر نميري وصاغتها السيدة بدرية سليمان والنيل أبو قرون وعوض الجيد محمد أحمد، وقد افتقر ثلاثتهم للكفاءة والتأهيل والمعايير الأخلاقية التي تجعلهم ينجزون عملاً كهذا. وعليه فقد بات بما يدع مجالاً للشك أن القانون الجنائي للعام 1991 هو قوانين سبتمبر عينها في طبعتها الإنقاذية، وبالتالي نحن نرفضهما معاً ليس لأننا نرفض شرع الله، ولكن لأننا نخاف على شرع الله من ثعالب الدين والعقائد، ونرفضهما لانعدام دولة المثال في التاريخ الإسلامي، ونرفضهما لأنهما لا يتواءمان مع مكونات القطر السوداني، ونرفضهما لعدم توفر مجتمع الكفاية والعدل، ونرفضهما للانتقائية التي جعلت من الإسلام قوانين حدية وغيبت كامل المنهج، ونرفضهما لأن من طبقها سرق فيهم القوي فتركوه وسرق فيهم الضعيف فأقاموا عليه الحد، نرفضهما لأننا لم نر من هو في مثالية الرسول الكريم ولا في عدل عمر بن الخطاب ولا زهد أبي ذر الغفاري! ثمة سؤال يجيب على هذا التشابك، فليقل لنا المتنطعون ما الذي كسبه الإسلام من هذا الشريط؟ وبمقدورنا أن نؤلف كتاباً في الخسارة التي جناها الإسلام من هذا الشريط؟
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!
حظر الاستاذ عادل الباز رئيس تحرير صحيفة (الأحداث) نشر هذا المقال اليوم الأحد 26/12/2010
فتحي الضَّو
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.