مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تاريخ كتابة تاريخ السودان الحديث: ماذا كُتِبْ ومَنْ كَتَبه؟ وما لم يُكْتبْ؟ ..
نشر في الراكوبة يوم 24 - 02 - 2014


تقديم:
تتردد من حين لآخر ومنذ فجر الاستقلال الدعوة لإعادة كتابة تاريخ السودان الحديث والمعاصر بأقلام سودانية لتصحيح وتصويب ما كتبه المستعمرون الأوربيون والرحالة والمستشرقون والأكاديميون الاجانب.
روى عن الدكتاتور النازي أدولف هتلر أنه قال: " كلما سمعت كلمة "مثقف" تحسست مسدسي...!" وهذا كناية عن مقته واستهزائه بالمثقفين!
وإني لأرتاب وأتوجس خيفة كلما نادى منادي بإعادة كتابة التاريخ خشية تزوير حقائق الماضي وطمس معالمه من أجل تضخيم الذات الوطنية واصطناع البطولة والأبطال. ولكن إنْ أُريد بالنداء إعادة قراءة وتفسير التاريخ- وليس إعادة تأليفه وكتابته- فهي دعوة حق يراد بها استجلاء الحقيقة وإعادة تفسيرها في ضوء فرضيات جديدة ووثائق جديدة وسياقات جديدة وهذا من أركان وأصول المنهج العلمي. فالتاريخ سجل للماضي والمؤرخ يسجل ما حدث ويفسره فلا يصنعه ولا يضيف إليه ما لم يحدث!
اخترت لهذه الخواطر والآراء حول كتابة تاريخ السودان إطاراً عاماً يتصل بالتاريخ الافريقي وما لحق به من نواقص وشوائب وتشويه لا تبرأ منها الكتابة التاريخية في السودان سيما وأن تاريخ السودان جزء أصيل من تاريخ القارة بل فصل من فصوله من حيث علاقة المجتمعات الافريقية ببعضها البعض وعلاقة افريقيا بالعالم الخارجي. ولئنْ اتصلت بعض حقب تاريخ السودان اتصالاً حضارياً وثيقاً بمنابع الثقافة العربية الإسلامية فهو أثر انعقدت له أسباب الغلبة والسيادة في أنحاء اخرى من القارة وبدرجات متفاوتة..
لقد بدأ الاهتمام بإعادة قراءة التاريخ الافريقي منذ السنوات الأولى التي أعقبت انتصار الحركات الوطنية في افريقيا وتصفية الاحتلال والوجود الاجنبي في دولها قبل اكثر من خمسين عاماً.
والدعوة لإعادة قراءة التاريخ كانت ومازالت جزءاً من دعوة سياسية وثقافية أشمل تهدف إلى تحرير مجتمعات افريقيا الجديدة من رواسب الغزو الحضاري الاوربي وآثاره والتي طمست معالم التراث الوطني والثقافات الوطنية..
ووقع العبء الأكبر في إعادة القراءة على الجامعات الافريقية ومراكز البحث في العلوم الانسانية فضلاً عن الجهود الفردية للمؤرخين الوطنيين وغيرهم ولكني أشير هنا إلى حملة أكثر تنظيماً وأقرب إلى أسباب النجاح والتي تتمثل في مشروع كتابة تاريخ افريقيا الذي دعت له ومولته وأشرفت عليه منظمة اليونسكو العالمية بمساعدة نخبة ممتازة من أبرز المؤرخين المختصين بأفريقيا. ولتاريخ السودان فصول في هذا السفر ولمؤرخيه سهم مقدر في كتابتها. والموسوعة عنوانها تاريخ افريقيا العام GENERAL HISTORY OF AFRICA
3 أجيال من مؤرخي السودان وأفريقيا
الجيل الأول:
لقد تعرض التاريخ الأفريقي - قدره وشأنه شأن تاريخ الشعوب والمجتمعات التي أخضعت للسيطرة والحكم الاستعماري – إلى ألوان من التشويه بعضها تم نتيجة لتفسيرات خاطئة افتقرت إلى الأسانيد والوقائع وإنْ كان بعض هذا التشويه متصلاً بمنهج كتابة التاريخ أكثر من اتصاله بنوايا المؤرخ ومقاصده..
واللون الآخر من التشويه قائم على تفسير التاريخ في ضوء نظريات وفرضيات عنصرية واجتماعية عن المجتمعات الافريقية وعن إنسان افريقيا نفسه: تكوينه النفسي ومزاجه، معتقداته وسلوكه التي اعتبرها الرعيل الأول من المؤرخين والرحالة الاوربيين في مطلع القرن العشرين – مجافية لطبائع الإنسان المتحضر ولصفاته وقيمه، ومجافية لأصول الحضارة وتقدم الحياة بل ولطبيعة البشر. ولئن وصفت افريقيا في كتابات هؤلاء – وفي مقدمتهم الرحالة وعلماء الاجتماع والانثربولوجيا الأوائل – بأنها القارة المظلمة فلم يكن هذا الوصف يعبر عن جهل الاوربيين بالقارة وشعوبها بقدر ما كان تعبيراً عن ظلام حضاري مزعوم انعدم بسببه أي دور أو إسهام يذكر لأفريقيا في صناعة الحضارة الانسانية والتاريخ الانساني. لقد كانت نظرة محكومة بنظرية جوهرها الاستعلاء الحضاري التي جعلت من قيم الرجل الأبيض الدينية (المسيحية) والاجتماعية والثقافية المعيار والمعيار الوحيد للحكم على الشعوب والمجتمعات غير الاوربية. ويجوز التعميم هنا من غير تردد أن هذه النظرة وهذه النظرية قد حكمت الرؤيا الأوربية لكل المجتمعات ذات الأصول العرقية غير الأوربية.. فتاريخ شعوب الآسيتين – الصغرى والكبرى وأمريكا الجنوبية (اللاتينية) واستراليا قبل ان تصبح جزءاً من "العالم الجديد". بعد هجرة الأوربيين إليها قد طُمست معالم اصالته.
ولا يتسع المجال هنا للمزيد من التفصيل فالمكتبة الأفريقية تذخر اليوم بعشرات المجلدات والكتب التي لا تعرف لأفريقيا حضارة او تاريخاً يستحق الوقوف عنده إلا بعد اتصال القارة عبر قنوات التجارة والتنصير والاستعمار والاحتلال بمنابع الحضارة الغربية.
هذه كانت نظرة ونظرية الرعيل الاول من علماء الاجتماع والرحالة والمؤرخين الأوربيين لأفريقيا ولتاريخها.
ولنذكر هنا أن معظم هؤلاء قدم لأفريقيا إما غازياً فاتحاً ضمن كتائب الغزو الأوربي وأما داعياً للمسيحية او رحالة سائحاً او مستوطناً مغتصباً للأرض أو حاكماً مبشراً بمسؤلية وبرسالة للرجل الابيض في افريقيا تنشر عدل وسلام الحضارة الأوربية بين ربوع قارة جبل أهلها على "اعراف الهمجية والتوحش والحياة البدائية".
وكان للسودان نصيب وحظ عاثر من هؤلاء الرجال الذين حكموا وكتبوا وأرخوا لإفريقيا نذكر منهم المشاهير في كتابة تاريخ السودان الحديث على سبيل المثال : سلاطين باشا، الاب اوهاردلدر، اللورد كرومر، ورونالد ونجت، سبنسر ترمنقهام. ولكن لكل كتاب تاريخ قيمة ما ولكل مؤرخ مهما أخطأ او اشتط او جنح.. فضل ما وفضل هؤلاء يتمثل في أمرين أولهما:
أنهم تركوا لنا ثروة من الحقائق والمعلومات استقوا طائفة منها من مصادرها الأولية ومثل هذه المصادر كانت وما تزال عصب كتابة التاريخ وزاد المؤرخ في رحلة البحث عن حقائق الماضي وعن أصول الاشياء ودوافع الناس وأسباب التغيير والمتغيرات وظواهر القديم ومظاهر التجديد. فبرغم ما قال سلاطين عن المهدي والمهدية وكيفما كتب ونجت حولها فلا غنى لمؤرخي المهدية المحدثين عن الرجوع إلى ما قال هؤلاء لأن ما كتبوا- من ناحية أخرى – قد استنفر أذهان المحدثين من المؤرخين أبناء مدرسة المنهج العلمي وشحذ همم التقصي والبحث الموصول بأسباب التدقيق والتمحيص واستقاء المعلومات من كل مصدر متاح من المصادر الأولية والثانوية والمتنوعة وكل هذا من صلب المنهج العلمي.
وربما يقول قائل: ما لنا وهذا الرعيل الأول من الذين كتبوا عن تاريخ أفريقيا فهم ليسوا مؤرخين. إن لكتابة التاريخ أصول ومواصفات والمؤرخون سيماهم على رؤوس أقلامهم. وهذا عين ما رميت إليه ولكني أردت أيضاً القول بأنهم أُخِذوا من بعض مثقفينا بل ومن قبل طائفة من هواة قراءة التاريخ وكتابته مأخذ الجد فنقلوا عنهم واقتفوا دروب تفسيراتهم وتقبلوا آرائهم فطمست بعض معالم التاريخ الوطني وشاهت صوره وبدا تاريخنا الحديث وكأنما هو حلقة من حلقات تاريخ العثمانيين والمصريين والبريطانيين في السودان أكثر منه تاريخ السودانيين في السودان، متصلة فيه حلقات حضارات كوش، ومروي القديمة، وعلوة والمقرة والمسيحية بحلقات العروبة والإسلام والفونج والفور والمسبعات. فأشدّ ما أضرّ بكتابة التاريخ- كل التاريخ- الإمعان والمغالاة في تقسيمه إلى حقب وعهود انحطاط وازدهار وعصر ذهبي وآخر مظلم يوحي بأن حركة المجتمع تقف لتنحط ثم تندفع لتزدهر...فيما للتاريخ صيرورة وسريان لا يجف ولا ينقطع.
ومرد حماسة هذا النفر من رواد كتابة التاريخ الافريقي لرسالة أروبا الحضارية أنهم كتبوا بعد انتصارات حاسمة حققتها جيوش الاحتلال الأوربية في شمال القارة وجنوبها وفي مغاربها و مشارقها، وبعد معارك دامية في السواحل والثغور والأواسط استشهد فيها آلاف الأفريقيين، تلك المعارك التي ارتفعت بعدها أعلام الامبراطورية الأوربية- الفرنسية والبلجيكية والبرتقالية والبريطانية والاسبانية – في كافة أرجاء وأركان افريقيا من القاهرة إلى رأس الرجاء ومن مقديشو في الصومال إلى داكار في السنغال.
الجيل الثاني من المؤرخين:
ثم جاء من بعد الرعيل الاول من مؤرخي افريقيا جيل من الكتاب الأوربيين اكثر وعياً وأرهف حساً وأنضج وعياً وأكثر دربة وتعاطفاً مع تراث أفريقيا توفر على دراسة هذا التراث ووقف على جذور وأصول الحضارات الافريقية وتطور مجتمعات القارة. وامتازت هذه النخبة من المؤرخين وعلماء الاجتماع على السابقين بالمنهجية العلمية في كتابة التاريخ التي ترفض تفسير الأحداث والتطورات في ضوء نظريات عرقية أو فلسفية أو اجتماعية مسبقة تجعل من التاريخ أداة وأدلة وبراهين تؤكد سيادة ذلك الفكر وتلك المعتقدات والقيم الأوربية.. تبرر الغزو والاحتلال والهيمنة.
لقد أولت هذه النخبة من المؤرخين اهتماماً متزايداً بتاريخ شعوب افريقيا قبل الغزو والفتوحات الأوربية عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين فذاع عبر كتاباتهم ومؤلفاتهم – سيط الممالك والدويلات الافريقية القديمة في وادي النيل والزامبيزي وحوض النيجر والكنغو وممالك بلاد السودان الممتدة غرباً من السنغال إلى الهضبة الاثيوبية فوقف المهتمون بتاريخ الشعوب والحضارات لأول مرة على تفاصيل نمو وتطور الحضارة الأفريقية: نظام الدولة والحكم والتجارة والحياة الاجتماعية والروحية واتصالات وعلاقات افريقيا بالعالم الخارجي.. وينبغي أن نذكر هنا أن مؤلفات الرحالة والمؤرخين والجغرافيين العرب الذين زاروا بعض أنحاء القارة وخاصة شمالها الغربي وسواحلها الشرقية كانت من أهم المصادر الأولية التي اعتمد عليها هذا الجيل من المؤرخين الأوربيين ونكتفي هنا بالإشارة إلى مؤلفات المسعودي والإدريسي وابن بطوطة وابن خلدون ومحمد بن عمر التونسي.
وكان لهذا الجيل أثر واضح على كتابة تاريخ السودان من ناحيتين:
أولهما الاهتمام بتاريخ السودان قبل القرن التاسع عشر، أي قبل النفوذ والسيطرة الاجنبية عليه ثم – من الناحية الاخرى – إبراز اتصال هذا التاريخ بمنابع الحضارة العربية والإسلامية وصلته ببعض الحضارات والمجتمعات الافريقية. ولنكتفي هنا بذكر نفر من أعلام هذه النخبة ومؤلفاتهم مثل كتابات آركيل عن تاريخ السودان القديم والآثاري أستاذ التاريخ القديم شيني عن حضارة النوبة ونبته ومروي، والدكتور براين هيكوك عن مروي القديمة وهارولد ماكمايكل عن القبائل العربية في السودان وكرافورد عن الفونج، وثيوبولد عن المهدية ونعوم شقير عن تاريخ وجغرافيا السودان.
واشتهرت بالنسبة لتاريخ السودان الحديث كتابات رتشارد هيل المتوازنة عن الحكم التركي المصري وكتابه عن الكتيبة السودانية في المكسيك وجورج ساندرسون عن الصراع الأوربي على منابع النيل وكتاب بيتر هولت عن الدولة المهدية ومقدمته في تاريخ السودان الحديث وكتابيْ ريتشارد قريي وروبرت كولنز عن تاريخ جنوب السودان – وغيرها من كتب تاريخ السودان الحديث التي يعلمها المتخصصون.
ويمكن القول أنه بالرغم من بعض المآخذ على معالجة هذه النخبة من المؤرخين الأوربيين لتاريخ السودان الحديث فيرجع لهم فضل التناول الموضوعي الذي يعطي دارس التاريخ والقارئ غير المتخصص صورة أدق وأصدق عن تطور المجتمع السوداني وتفاعله مع معطيات الاحتلال والحكم الاجنبي من تلك الصورة التي أبرزها كتابات الرعيل الاول الذي كان قدره – بل وقدر تاريخ السودان – صناعة التاريخ وكتابته في آن واحد حتى لا يكاد القارئ يفرق بين الحاكم والمؤرخ!!
الجيل الثالث من المؤرخين
كان لانتشار الوعي القومي واضطراد نمو الحركة الوطنية في افريقيا وما تبعها من استقلال شعوبها بعد الحرب العالمية الثانية، اثراً غير مباشر على ميلاد جيل ثالث من المؤرخين الافارقة الذين اتجهوا بكتابة التاريخ من حيث المنهج والموضوعات اتجاهاً جديداً. تمثل هذا الاتجاه في الاهتمام بالموضوعات التي أهملها أو اغفلها مؤرخو الرعيلين الأول والثاني وانصب اهتمام هذه الصفوة من ناحية المنهج على استنزاف المصادر الأولية المطروقة والبحث عن مصادر جديدة والاستعانة بمصادر لم تكن مألوفة في كتابة التاريخ مثل علوم الأجناس واللغات والاجتماع وشتى ضروب التراث والأدب الشعبي المستقى من ألسنة الرواة المعاصرين لأحداث التاريخ وحوادثه.
إن الإسهام الحقيقي لهذه المجموعة في إعادة قراءة التاريخ الافريقي يكمن في أنها منحت هذا التاريخ قيمة ذاتية حررته من عبوديته وتبعيته للتاريخ الأوربي فما عاد تاريخ افريقيا والسودان مجرد فصل أو باب في كتاب تاريخ اروبا. ولكن يجب أن نستعجل القول هنا بأن من بين الدواعي الهامة التي هيأت أسباب النجاح لهذه الصفوة من المؤرخين في تناول الموضوعات الجديدة وتنقيح وتجويد المنهج العلمي في كتابة التاريخ، الثورة التي حدثت – وهي ثورة بالفعل – في الكشف عن مصادر أولية جديدة أضافت حصيلة وافرة من الحقائق والمعلومات الهامة عن العديد من الموضوعات. وأشير هنا بصفة خاصة إلى علم الآثار وحصيلة ونتائج الحفريات الأثرية وإلى مئات بل آلاف الوثائق والمخطوطات التي أصبحت اليوم في متناول المؤرخين بفضل التطورات العظيمة التي طرأت على علم الوثائق، ونُظُم جمع الوثائق وحفظها وتيسير سبل وسرعة الاطلاع عليها في صفحات الانترنيت والمكتبة الالكترونية.
وهناك عشرات بل مئات الموضوعات في التاريخ القديم والوسيط والحديث لم يكن من الميسور تناولها في غياب هذه الحصيلة من المعرفة التاريخية الجديدة المتجددة قبل خمسين أو عشرين سنة مضت أو حتى قبل عقد أو بضع سنوات.
وأوجز الإشارة هنا ونحن نتنزل من كتابة تاريخ افريقيا إلى كتابة تاريخ السودان بأقلام سودانية إلى مجموعة الأساتذة الذين عملوا ويعملون في شُعب التاريخ والعلوم السياسية والدراسات الانسانية عامة بالجامعات السودانية ومراكز البحث وتحفظ لهم المكتبة السودانية والأفريقية والعربية إثرائها ليس فقط من ناحية الإضافة العددية ولكن من ناحية تنوع موضوعات البحث التي أعادت عنصر التوازن والشمول لكتابة تاريخ السودان فضلاً عن إبراز هذه المؤلفات لجوانب الأصالة في التراث الشعبي. وبهذا يتبلور دور الكتابة التاريخية في تأصيل الثقافة الوطنية ورفع الاغتراب عنها.. ونشير على سبيل المثال أكثر من الحصر الدقيق إلى أمهات كتب التاريخ السوداني وركائز المعرفة التاريخية بدءاً بأقلام الاعلام من المؤرخين السودانيين بدءاً بشيخهم البروفسور مكي شبيكة ودراسته الموسوعية عن تاريخ شعوب وادي النيل والأخرى بعنوان السودان عبر قرون والثالثة بعنوان السودان والثورة المهدية والبروفسور يوسف فضل حسن عن دخول العرب والاستعراب في السودان وتحقيقه كتابي طبقات ود ضيف الله وكاتب الشونة، ثم تاريخ السودان لضرار صالح ضرار ومؤلفات محمد سعيد القدال عن الثورة المهدية وتاريخ السودان الحديث وما كتب سلفه الصالح وأستاذه محمد إبراهيم أبو سليم عن منشورات المهدية وعن الحركة الفكرية في المهدية، وكتاب عبد الله علي إبراهيم عن الصراع بين المهدي والعلماء، وكتاب حسن أحمد إبراهيم عن غزو واحتلال السودان وإدارته على عهد محمد علي باشا وأبنائه، ودراسة أحمد أبراهيم ابوشوك عن مذكرات يوسف ميخائيل كاتب الخليفة عبد الله وصفيه. وكتاب ميمونه ميرغني حمزة عن فتح الخرطوم ومقتل غردون باشا وموسوعة الدكتور عون الشريف قاسم عن الأنساب والقبائل السودانية.
وأرخت للسودان الحديث المعاصر كوكبة من المؤرخين السودانيين ونظرائهم من أساتذة العلوم السياسية نذكر منهم موسى المبارك الحسن وكتابه بعنوان تاريخ دارفور السياسي وصنوه كتاب تاريخ كردفان السياسي لعوض عبد الهادي، وعمر عبد الرازق النقر الذي كتب عن رحلة الحج والحجيج من غرب افريقيا عبر السودان إلى الأراضي المقدسة، والمؤلفات العديدة عن الحركة الوطنية السودانية للأساتذة مدثر عبد الرحيم ومحمد عمر بشير ومحمد نوري الامين عن جذور الحركة الشيوعية في السودان. وفدوى عبد الرحمن علي طه وفيصل عبد الرحمن علي طه عن الحركة الاستقلالية وجعفر محمد علي بخيت وكتابه الحركة الوطنية والإدارة البريطانية في السودان والدكتورة محاسن حاج الصافي وفرانسيس دينق وتاج السر العراقي وأحمد إبراهيم دياب وحسن عابدين عن فجر الحركة الوطنية السودانية، وحسن مكي وعلي صالح كرار الوثائقي وكتاب وثائق مؤتمر الخريجين ومحاضرة للدكتور معتصم أحمد الحاج. أما تاريخ السودان القديم فقد تناوله بالرصد والتمحيص الآثاريون السودانيون ومنهم الرواد نجم الدين محمد شريف وأحمد علي الحاكم وعلي محمد عثمان، وعبد القادر محمود رائد دراسة تاريخ السودان القديم اللغة المروية القديمة ويوسف مختار الامين وخضر عبد الكريم وعلي التجاني الماحي وحسن حسين وآخرون كثر من الباحثين وناشئة المؤرخين غفلت عنهم الذاكرة ممن تناولوا الكتابة عن العصور التاريخية قديمها ووسيطها والحديث والمعاصر منها وهذا فضلاً عن مئات المقالات والدراسات في الدوريات المتخصصة وعشرات رسائل الماجستير والدكتوراه التي لم تنشر بعد حول شتى موضوعات تاريخ السودان.
الاتجاهات المستقبلية لكتابة التاريخ:
كان التاريخ ومازال أداة من ادوات صناعة الوعي القومي وتنمية مشاعر الانتماء الوطني في جميع الامم التي سعت وتسعى إلى الاخذ بأسباب الانصهار والتوحد. وليس في هذا ما يتعارض – كما يظن البعض – مع المنهج العلمي في كتابة التاريخ والذي يبني على تقصي حقائق الماضي بأحداثه وتطوراته واتجاهاته وإيراد التفسيرات لأسباب ونتائج ما حدث. وعلى هذا يمكن – ولا أقول يلزم – قياس اتجاهات الحاضر وربما إمعان النظر في المستقبل ولا أراني بحاجة إلى استطراد هذا المعنى في كتابة التاريخ بل أخلص إلى تأكيد ضرورة البحث في جميع الموضوعات المتصلة بتاريخ السودان من هذه الناحية وفي مقدمتها السير الذاتية لأعلام التاريخ السوداني من السودانيين: قادة الفكر والسياسة والاقتصاد ورواد حركات المقاومة السياسية للاستعمار والاحتلال ودعاة التغيير والإصلاح الاجتماعي والمبدعين في ميادين الشعر والأدب والفنون والتكنولوجيا التقليدية و....الخ
ومن ناحية أخرى فقد آن اوان الاهتمام بتاريخ الحياة الثقافية والاجتماعية في السودان: روادها ومؤسساتها وقيمها والمؤثرات الوافدة عليها لأن في كل ذلك استظهار لحياة الفرد "العادي" – رجل الشارع – ودوره في حركة المجتمع نحو التطور والتقدم وهذا الدور للإنسان "العادي" قد طغى عليه وطمسه في كتابة التاريخ دور الزعماء والحكام والقادة واستأثر التاريخ السياسي – تاريخ مؤسسات الحكم والإدارة والديبلوماسية والحروب والمعارك – بالقدر الأكبر من اهتمام المؤرخين مقابل ما يشبه الإغفال التام للحياة الاجتماعية والثقافية في تفصيلاتها وتعقيداتها. وقد كان كتاب الدكتور عبد المجيد عابدين عن تاريخ الثقافة العربية في السودان خير إسهام ومقدمه في هذا الموضوع الحيوي – الذي يمهد الطريق أمام نمط من الدراسات التاريخية المتكاملة المتداخلة التي تجند لها معلومات ومناهج الدراسات الإنسانية الأخرى والتي أشرنا إليها.
وللكتابة التاريخية في السودان أن تتجه صوب ميدان ثالث لحقه إغفال نسبي وهو تاريخ أقاليم السودان وأمصاره النائية ومدنه القديمة التي كانت مراكز للتجارة وملتقى طرق ومراكز للعلم والاستنارة مثل حلفا وبربر ودنقلا وسواكن وكوستي وأم درمان والأبيض والفاشر والجنينة ونيالا وكسلا والقضارف وسنجة ومدني ورفاعة...الخ.
خاتمة حول المصادر
لقد اضطلعت مؤسساتنا العلمية الوطنية المعنية بشئون ومشكلات البحث العلمي وخاصة في مجال التاريخ بدور رائد في تجميع المصادر وحفظها وإدارتها ومنها دار الوثائق المركزية وجامعة الخرطوم ومصلحة الآثار ونخص بالذكر هنا شعبة أبحاث السودان التي أنشئت بالجامعة في مطلع عقد الستينيات ثم معهد الدراسات الافريقية والآسيوية من بعد لاهتمامها بمصدر من مصادر التاريخ تتعاظم أهميته يوماً بعد يوم وهو الروايات الشفاهية التي تنقل وتسجل من ألسنة حفظة التاريخ والتراث الشعبي ومن ألسنة المشاركين في صنع الأحداث والمعاصرين لها..
إن أهمية هذا المصدر تكمن في أنه يسد نقصاً وثغرات في المعرفة التاريخية لا سبيل إلى سدها من الوثائق المدونة أو في غياب هذه الوثائق.
ولقد صار لهذا النوع من مصادر كتابة التاريخ – الروايات الشفاهية – منهج علمي تحقق عبره الوقائع ويستوثق من صحتها من خلال التحليل والمقارنة وقرائن الأحوال والسير الذاتية للرواة وهو منهج في واقع الأمر مستمد من منهج البحث التاريخي ولكنه يختلف عنه لاختلاف طبيعة المصدر وخصائصه المميزة.
ولا غنى للباحثين في تاريخ المجتمعات السودانية التي لم تعرف الكتابة إلا في العصر الحديث عن الاعتماد على رواة الآداب الشعبية والتاريخ الشفاهي للوصول إلى بعض حقائق التاريخ.
==
د.حسن عابدين
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.