بلينكن عن التدقيق في مزاعم انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان: سترون النتائج قريبا    عام على الحرب فى السودان.. لا غالب ولا مغلوب    يمضي بخطوات واثقة في البناء..كواسي أبياه يعمل بإجتهاد لبناء منتخبين على مستوى عال    اللواء 43مشاة باروما يكرم المتفوقين بشهادة الاساس بالمحلية    السيارات الكهربائية.. والتنافس القادم!    واشنطن توافق على سحب قواتها من النيجر    الخطوة التالية    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بنك للمغتربين السودانيين لا كما يحلم به النظام وزابنُهُ حاج ماجد سوار (2)
نشر في الراكوبة يوم 22 - 09 - 2014

للحقيقة والتاريخ، فإنَّ فكرة إنشاء بنك للسودانيين العاملين بالخارج، فكرة سابقة لمجئ سيئة الذكر الإنقاذ. ولعلَّها فى الأصل نابعة من ثنايا التغيير الديموقراطى والتفكير الإستراتيجى بشأن السودان وقضاياه الحيوية الذى تبلور إبان الفترة الإنتقالية باتجاه الديموقراطية الثالثة عام 1985م. إذاً فالديموقراطية والنظرة الإستراتيجية هما حاضنتا هذه الفكرة الخلاقة بالأساس، وهما شرطان بغيابهما تصبح كل العمليات الإنتاجية داخل السودان عديمة الفائدة لجموع شعب السودان الفقير، وتصبح مدخلاً صريحاً لسرقةِ هذه الجموع.
ولقد تمَّتْ الإشارة من قبل "لعلَّه فى موضع آخر" إلى أنَّ الإنقاذ حين استولت على السلطة، لم تكن لها خطة إستراتيجية لتنمية السودان، وكان همُّها الأوحد/اليتيم هو الحفاظ على المقدرات الإقتصادية والمالية لما يُسمى بالجبهة الإسلامية القومية، التى أوصى برنامج الإنقاذ الرباعى لسنة 1986م بتفكيك مشروعاتها الإسلاطفيلية.
والشاهد، حين استولت الأخوانوية على السلطة عكست آلية برنامج الإنقاذ الرباعى، وقامت بخصخصة أهدافه. فبدأت بتفكيك المقدرات الأقتصادية لغرمائها ()، وتفكيك رأسمالية الدولة على حدٍ سواء (خصخصة الإقتصاد السودانى) لصالح مناصيرها (كما سيجئ ذلك مفصلاً أدناه) ثمَّ قامت بإنقاذ نفسها على حساب الشعب السودانى وحصنتها ومكَّنتْ لها بابتداع برامج إنقاذ ثلاثية فى إطار ما يُسمى الإستراتيجية القومية الشاملة (1992-2002). وهذه البرامج فى حقيقتها عبارة عن مكرور () لأهداف برنامج الإنقاذ الرباعى المخصخصة مع خفض عام واحد للتمويه، فكانت تلك أُولى سرقات الإنقاذ الجارية للشعب السودانى.
ولأنَّ الإنقاذ كما ذُكِرَ بعاليه، جاءت خالية الوفاض من أى تفكير إستراتيجى يهم جموع الشعب السودانى كما هو مضمَّن فى برنامج الإنقاذ الرباعى، فقد أهملت الفكرة الإستراتيجية لإنشاء بنك المغتربين السودانيين الطموحة تلك، ولم تلجأ إليها إلاَّ فى إطار عقليتها اللِّصة (لا الإستراتيجية) بعد أنْ إحتاجت لسرقة الشعب السودانى من جديد بعد إنفصال الجنوب وذهاب معظم عائدات البترول للجنوبيين فى عام 2011م.
ولا غروَ إذاً، أنْ تهرع الإنقاذ مرة أُخرى إلى تحويلات المغتربين، فقد ذاقتْ عسيلتها من قبل، حين كانت تبحث عن تمويل خارجى لمشروع إستخراج البترول فى أوَّل أيامِها ولم تجده إلاَّ فى جيوب السودانيين العاملين بالخارج والمقيمين بالداخل، وذلك بسبب الحصار المفروض عليها من قبل دول العالم الحر.
إذاً، عملية إنشاء بنك للمغتربين من وِجهة نظر الإنقاذ، مازالت خارج فضاء التفكير التنموى الإستراتيجى، والذى يتطلب كما أسلفنا توفر التخطيط المنهجى، ومؤسسات الديموقراطية والحريات المختلفة وحقوق الإنسان واستقلال القضاء واستقلال بقية السلطات. وبالتالى يظل التنادى بهذه الفكرة الآن، تنادياً نابعاً من ذات العقلية اللِّصَّة، وسوف نسوق الشواهد التى تُثبِتْ أنَّ كل ما تقوم به الإنقاذ هو محض سرقات جارية، وليس له صلة بالتنمية. فمثلاً:
1- فى إطار تفكيك رأسمالية الدولة واللِّحاق بالغريمين الكبيرين (الشريحة التجارية/الختمية والشريحة الزراعية/الأنصار)، قامت الإنقاذ/(شريحة رأس المال المالى) بثانِ سرقاتها الجارية، وهى خصخصة المؤسسات الحكومية المدِرَّة للربح (المواصلات السلكية واللاسلكية، البنك التجارى، إلخ) كخطوة أولى للتمكين على حساب جموع الشعب السودانى. أما المؤسسات ذات الربحية الأقل، فقد قامت الإنقاذ بتأهيلها بقروض محلية وأجنبية حتى تكون جاذبة للمشترين، ومن ثَمَّ باعتها لمنسوبيها، وتلك هى الخطوة الثانية للتمكين.
أمَّا الخطوة الثالثة للتمكين فقد تمثَّلتْ فى بيع مؤسسات الدولة هذى بسعر القيمة الدفترية لا بسعرها الحقيقى فى السوق اليوم، وقد تحصَّل مشتروها على قروض حسنة/مُيسَّرة من بنوك الدولة وغيرها لاشترائها، ثُمَّ بِيعت لهم بالبيع الآجل/بالتقسيط المُريح، والبعض من هذه المشروعات تمَّ إهداؤه (كالمؤسسات التى آلت لمنظمة الشهيد، وبعض الأقاليم).
هذه الإجراءات مازالتْ مستمرة إلى يومِ النَّاسِ هذا فى كل عمليات الخصخصة، وبذلك فهى تشكِّل واحدة من أكبر السرقات الجارية التى إتخذها النظام الحاكم مصدرَ دعمٍ لمنسوبيه. وهناك بعض المؤسسات المخصخصة/الجارى خصخصتها (كهيئة الموانى البحرية، وهيئة الطيران المدنى)، إذا اكتملت حلقات إبعادها من قبضة الدولة كليةً، فسترتبك عمليات التمويل الحيوى فى السودان بأكملها، وسوف يؤثر ذلك تأثيراً مباشراً وبالغاً فى قطاعات واسعة من الشعب السودانى.
هذه الخصخصة المُفْرِطة، والغير – مدروسة، واللا – إستراتيجية، وفى ظل سرقات أُخرى، أقعدتْ بالإقتصاد السودانى بالقدر الذى لو أردنا أن نعود به إلى مستوى عام 1989م (أى ربع قرن للوراء) فقطعاً سنحتاج إلى أكثر من 50 سنة على حد قول عالم الإقتصاد الجليل على عبد القادر على (ندوة كاردِف إغسطس 2014).
2- من العوامل المهمة التى يمكن أن تُضاف إلى ضحالة التفكير الإستراتيجى للإنقاذ وبروز العقلية اللِّصَّة، هو سلوكها الإقتصادى الأخرق فى إطار السياسات المالية والنقدية، الذى تمَّ بموجبه كشف الحسابات المصرفية لسائر عملاء البنوك من أهل السودان قاطبة (لا سيما الشرائح الرأسمالية الغريمة) والتحكم فى ودائعهم من العملات الأجنبية لصالح أعضاء تنظيم ما يٌسمى بالأخوان المسلمين، والذى حدث عقب تغيير العملة الأول سنة 1992م.
فمنذ ذلك التاريخ، ظلَّت الإنقاذ تستخدم السياستين المالية والنقدية ومصيدة الشيكات المكشوفة، لِإخراج أقدام رأسمالية وطنية راسخة من حلبة السوق، فى إطار حالة من التضييق القهرى لا التنافسى المذكورة بعاليه ()، وقد إضطرتهم الإنقاذ لبيع ممتلكاتهم بأسعار زهيدة، وكان أنصارها هم المشترين الوحيدين لها. فمن كان يصدق أنَّ أولاد الشيخ مصطفى الأمين فى الخرطوم، وأولاد الهلالى فى المناقل (وعلى ذلك قِسْ) يخرجون من حلبة السوق، إلاَّ بسبب هذا النهب المنظم لممتلكات النَّاس وأكل أموالهم بالباطل.
ولم تكتفِ الإنقاذ بأكل أموال الأغنياء بالطريقة المذكورة أعلاه، بل إمتدت يدها لسرقة بسطاء أهل السودان، حين قامت باستقطاع أكثر من 50% من الأموال المخصَّصة لتمويل خدمات التعليم والصحة. وتمويل هذين القطاعين فى الدول التى تضطلع بمسئولياتها تجاه شعوبها مدرج ضمن قائمة ما يُعرف ب "التمويل الحرج"، والذى يجب أن توفره الدولة مهما كان من أمر؛ ولعلَّه قد كان كذلك قبل مجئ الإنقاذ.
أيضاً، فإنَّ سرقات الإنقاذ الجارية لم تقتصر على الأغنياء والفقراء المقيمين معها فى السودان وحسب، بل إمتدت يدُها الشريرة لتطال حتى الذين تركوا لها البلد وهاجروا. فراحت تنصب الشراك لاصطياد تحويلات السودانيين العاملين بالخارج (والمتمثلة فى الضرائب الباهظة على المغتربين والأتاوات والإستحقاقات الوطنية (كضريبة الجريح، الشهيد وغيرها) والفترات القصيرة لتجديدات الجوازات، إلخ)، حتى صارت تحويلات المغتربين السودانيين ثانى أكبر مصدر للعملات الصعبة بعد عائدات البترول.
هذه السياسات المالية قد تمَّتْ فى إطارٍ من الوعود المكذوبة، والمشروعات المعطوبة التى أدت إلى استنزاف المغترب: كمشروع سندس الزراعى، المدن السكنية الوهمية، والكذب المستمر المُمَنهج على المغتربين، وأنَّهم لو حوَّلوا عملات صعبة يمكن أن يحصلوا عليها كعملات صعبة داخل السودان. ولكن ما أن يحطَّ المغترب رجله داخل بلده، حتى يتم منعه من إستخدام تحويلاته بالعملة الصعبة، ويُكره على قبول سعر رسمى لتحويلاته أقلَّ بكثير مِمَّا هو موجود فى السوق الموازية.
هذه الإجراءات الإقتصادية الخرقاء جعلت كثيراً من الرأسماليين السودانيين خارج تنظيمات الأخوانوية المرجوسة (على قلة رساميلهم مقابل رساميل الأخوانويين) يعمدون هم أيضاً إلى إنشاء خِزانات منزلية لعدم ثقتهم بالنظام ونظامه المصرفى، أو تهريب أموالهم خارج البلد. وجعلت المغتربين يحجمون عن التحويلات إلى السودان (بلغت تحويلات السودانيين لمصر فى عقد التسعينات من القرن المنصرم أكثر من 40 مليار دولار)، وإنْ إضطروا إلى ذلك حولوها عن طريق القنوات غير الرسمية.
3- الجدير بالذكر، أنَّ أكل الإنقاذ للأموال بالباطل قد وصل فى أحد شطحاته أن تعدَّى أموال النَّاس إلى أكل أموال مؤسسات التمويل الدولية فى إطار الشعار الأيديولوجى "أمريكا روسيا قد دنا عذابُها"، وذلك حين رفضت الحكومة سداد أقساط من ديونها على العالم الخارجى مطلع تسعينات القرن الفائت، الأمر الذى إضطر صندوق النقد الدولى إلى إصدار جملة من القرارات التى تقضى بأنَّ السودان دولة غير متعاونة، وأعقبها فى عام 1993م بتعليق حق السودان فى التصويت، وتجميد حقوقُهُ الأخرى. وفى عام 1994، تمَّ تقديم شكوى ضد السودان بغرض طرده من مظلَّة الصندوق، ومن ثمَّ تمَّ إيقاف التعامل معه نهائياً (د. أمين صالح يس، علاقات السودان مع صندوق النقد الدولى 1958-2008، المصرفى العدد 55، مارس 2010).
وعلى أى حال هذا الأمر لم يَدُمْ طويلاً، فالإنقاذ قد استفاقتْ باكراً من أوهامها الأيديولوجية، وأدركتْ حجم الضرر الذى وقع عليها وعلى الإقتصاد السودانى جراء هذه الصلف السياسى. ففى عام 1997م تمَّ الإتفاق بين السودان وصندوق النقد الدولى على شطب قرار الطرد مقابل أن يقوم السودان بدفعيات شهرية لتثبيت حجم الدين عند مستواه فى عام 1997م، ومن ثمَّ يقوم موظفو الصندوق ببرنامج سنوى بغرض الرقابة على أداء الإقتصاد السودانى يستمر حتى عام 2009، ويكون بالتمام تحت رحمة تقييم الصندوق له (المرجع أعلاه).
ولما كان الإقتصاد كلُّهُ مبنى على التوقعات وكُلفة الفرصة البديلة، فإنَّ تراجع الإنقاذ عن إمتناعها لدفع إلتزاماتها تجاه الدائنين العالميين، لم يخدم السودان كثيراً مع تدهور سمعته بين دول العالم. وقد عانى الأقتصاد السودانى فى عقد التسعينات الفائتة من قلة التمويل والإستثمار الأجنبيين، ومن أتى إلى السودان (كالصين، الهند، إيران، ماليزيا، وغيرها) كانت تعوزه الخبرة التقنية العالية، الأمر الذى أدى إلى تعقيد عمليات الأنتاج وارتفاع تكاليفها، وارتفاع كُلفة التأمين عليها. وهذا قاد بالمحصلة إلى زيادة معدلات الجوع والمرض والجهل، خاصةً مع عدم إنتفاع جموع الشعب السودانى من عائدات البترول والمعادن النفيسة التى لم يُعاد إستثمارها فى البلد، ولم تعوَّض منها القطاعات الإجتماعية التى موَّلتها ابتداءاً، كما سيجئ تفصيلُهُ أدناه.
4- لعلَّ أخطر وأكبر السرقات الجارية لحكومة الإنقاذ والتى يتحمل أوزارها شعب السودان الآن، والتى لم تشهدْ الإنسانية مثيلاً لها فى تاريخها القديم والحديث، هى سرقة عائدات البترول السودانى (التى كما ذكرنا بعاليه مولها الشعب السوادنى المقيم والمغترب من حرِّ ماله، واستقطاعاً من أموال تمويل خدماته الإجتماعية) التى بلغت مع عائدات المعادن النفيسة أكثر من 100 مليار دولار.
هذه المبالغ على ضخامتها لم تساهم فى جلب شرعية الإنقاذ المفقودة، وإعادة الثقة فى النظلم، ونظامه المصرفى من جديد رغم الإلتزام الصارم ببرنامج الصندوق المذكور أعلاه. وذلك لعمرى يرجع بالأساس إلى أنَّ هذه الأموال تمَّ تقسيمها حصراً على عضوية ما يُسمى بالأخوان المسلمين بالسودان وغيره، وبالتالى كانت تدار خارج الدورة الإقتصادية لحكومة السودان (ومازالت)، وجزء كبير منها قد تمَّ تهريبه خارج السودان عن طريق بعض البنوك العالمية المشبوهة كبنك طوكيو ميتسوبيشى يو. إف. جيه، الذى أظهرتْ إجراءاتُهُ المالية الإلكترونية معاملات بقيمة 100 مليار دولار، تخص السودان، إيران وماينمار (الراكوبة الإلكترونية).
كذلك فإن المدعى العام الأمريكى قد كشف معاملات مشبوهة قام بها بنك (بى إن. بى باريبيا) الفرنسى فيما يتعلق بدول محظورة عالمياً هى السودان، إيران، وكوبا؛ وقد بلغت هى الأخرى 100 مليار دولار، تلقى على إثرها ذلك البنك غرامة مالية بلغت 9 مليار (ذات المصدر أعلاه).
فها هى إذاً أموال البترول؛ جُلُّها فى الخارج، تستخدم لرفاه ما يسمى بالأخوان المسلمين السودانيين، وتسخَّر لحضانة الإرهاب، وتمويل العمليات الإرهابية، وتمكين أفراد تنظيم ما يُسمى بالأخوان المسلمين العالمى. أمَّا المبالغ التى درج النظام الحاكم على إظهارها فى الميزانية العامة، والعرض الإقتصادى، وميزانية النقد الأجنبى، فهى غير حقيقية، وأصغر موظف فى الإدارات المعنية بإعداد هذه المصفوفات يعلم حقيقة هذا الأمر.
هذه السرقة الخطيرة المستمرة إلى الآن (بالإضافة لسرقات سابقة ولاحقة) أدت إلى زعزعة الثقة فى الإقتصاد السودانى والنظام الحاكم، ونفَّرتْ أوَّل ما نفَّرتْ الصناديق العربية (التى إعتمدت عليها الإنقاذ لتمويل كباريها وسدودها) التى تحمل فى جعبتها أموال طائلة عقب أحداث 11/9/2001، على إثر حركة تحوُّل الرساميل العربية خارج أمريكا باتجاه الغرب والشرق بالأساس، وبعض الدول النامية (كالسودان).
ولعلَّ الإنقاذ قد كانت محظوظة؛ إذْ أنَّ طفرات أسعار البترول والذهب والغاز فى فترات برنامج رقابة الصندوق قد خفَّفتْ من وطئة إجراءات الصندوق، وبالتالى رضاء الصندوق عن الأداء الإقتصادى للإنقاذ فى ظل سنى البرنامج الرقابى. والجدير بالذكر أنَّ تلك الطفرات فى الأسعار، قد ساهمت هى الأخرى فى حل جل ديون البترول على الشركات العاملة فى السودان.
أقول ما أقول، وأنَّ هذا الواقع هو الآخر لم يَعِدْ ثقة المستثمر السودانى (المقيم والمغترب) والأجنبى فى أداء الإقتصاد السودانى والجهاز المصرفى، وذلك لوجود لغز فى ذهن المستثمرين الوافدين من الخارج (خاصة العرب، والسودانيين العاملين بالخارج) يكمن فى الإستمرار فى تمويل التنمية فى السودان بالإستدانة من العالم الخارجى (جلها من الصناديق العربية، وبعضها من تحويلات السودانيين العاملين بالخارج)، بالرغم من تدفق عائدات البترول وطفرات أسعارها. وهذا اللغز تمَّ تفسيره بعاليه حيث ذكرنا أنَّ عائدات البترول كانت تحت تصرف الأخوانويين، وتُدار خارج الدورة الإقتصادية للبلد تمهيداً لتهريبها خارج السودان، وهذا ما حدث بالضبط.
5- كذلك من أعظم السرقات الجارية للإنقاذ هى عملية إدارة أموال الزكاة خارج الدورة الإقتصادية لحكومة السودان (وفى بعض الأحيان تُؤخذ من الفقراء كصغار الموظفين، وتُرد على الإغنياء كعراب الإنقاذ الذى كان يأخذ 5 مليون جنيه سودانى شهرياً من ديوان الزكاة قبل الإنفصال)، وتدار بالكامل وفق الهوى الأخوانوى، ذلك الذى يتصرف فى ترتيب أولويات الزكاة التى نزلت بها الآية الكريمة (إنَّما الصدقاتُ للفقراء والمساكين...) تصرُّفاً سياسياً يخولهم بإعطاء أولوية لفئات الخارجين فى سبيل الله (من مليشياتهم)، والعاملين عليها حصراً من أفراد تنظيمهم، والغارمين منهم، وابن السبيل (كالجنجويد، والجهاديين القادمين من ليبيا، ومصر، والصومال، وتمبوكتو، تورابورا، شاد، نايجيريا/بوكوحرام، إيران، العراق، سوريا، لبنان/حزب الله، باكستان، أفغانستان، إلخ) على حساب فقراء ومساكين السودان.
هذا يحدث، وهناك دراسة وسيمة لعالم الإقتصاد السودانى الجليل، بروفسير الطاهر محمد نور، تقضى بأنَّ أموال الزكاة فى السودان، كفيلة بإزاحة الفقر كليةً عن كافة فقراء السودان، إذا ما رُوعىَ فيها الترتيب الوارد فى الآية الكريمة.
والسؤال الأهم: كيف يثق النَّاسُ (المقيم، المغترب، الأجنبى) فى نظام إمتدت يده الشريرة إلى أموالِ اللهِ عزَّ وجلّ؟ تُرى هل حاج ماجد سوار، وكوكبته فى جهاز السودانيين العاملين بالخارج، يرتكزون على أى قدر من الجدية إزاء هذا الطرح الذى ينادون به (إنشاء بنك للمغتربين بالداخل)؟
6- من أخطر السرقات الجارية التى قسمت ظهر الإقتصاد السودانى، هو الإعفاء من الضرائب والجمارك وكل أنواع الرسوم والأتاوات وحتى الزكاة، لكل الشركات المتناسلة من منظمة الدعوة الإسلامية، والإغاثة الأفريقية وصويحباتهما (وهذه الإعفاءات قد شملت كلَّ أعضاء ما يُسمى بتنظيم الأخوان المسلمين الذين استنفرتهم السلطة ليعودوا ويعملوا داخل السودان، وهؤلاء قد عادوا بمخصصاتهم الخليجية من مواهى وبدلات وتأمين صحى وغيرها).
هذه الإعفاءات هى واحدة من أهم العوامل التى مكَّنتْ للأخوانوية المرجوسة فى السودان منذ عهد الرئيس نميرى، والتى إضطرت وزير المالية الأسبق د. عبد الوهاب عثمان (والذى كان لموظفيه بوزارة المالية الإتحادية الفضل فى إنتشال الإقتصاد السودانى من الوحل الذى أدخله فيه المتحلل من سياسات تحريره عبد الرحيم حمدى) إلى تقديم إستقالته تحت قبة البرلمان لعدم عدالة هذه الإعفاءات، وأنَّ إستمرارها يعتبر نوع من السرقة الجارية الغير مغتفرة على الإطلاق.
7- كذلك فإنَّ الضرائب الغير قانونية تعتبر من أخطر السرقات الجارية للإنقاذ. وتعتبر ضريبة غير قانونية: كل ضريبة لا تُحصَّل بأُرنيك (15) من الأفراد والهيئات، ولا تُوَرَّد بإورنيك (67) فى حالة كونها إيرادات نقدية، أو أُرنيك (50) فى حالة كونها شيكاً.
وبناءاً على هذه القاعدة المالية لوزارة المالية والإقتصاد الوطنى الإتحادية، فيمكنك أن تُحصى أكثر من 13 ضريبة يتم تحصيلها من الأفراد والهيئات (فى العاصمة والأقاليم) إكراهاً لا قانوناً. وعلى سبيل النذر لا الحصر، فضرائب رسوم العبور على الطرق القومية، وتجنيب الإيرادات من قبل الوحدات الحكومية وفق دفاتر خاصة بها وحسابات خاصة بها، تعتبر ضرائب غير قانونية وسرقات جارية بكل ما تحمل الكلمة من معنى. كما توجد أكثر من (500) لائحة جباية من دون أن يُقرَّها البرلمان، أو تُقِرَّها المجالِس التشريعية بالولايات (د. محمد أحمد سالم، مسجل التنظيمات السياسية، فى تعقيب على محاضرة د. بركات موسى الحواتى: الضوابط الفنية والقانونية للقرار الإدارى). ولا عجب إذاً أن تصل حجم السرقات فى سنة من السنوات هى 2012م 13.7 مليار دولار (المراجع العام 2012).
8- الصرف خارج الميزانية هو واحد من أوجه السرقات الجارية التى إتسمت بها الإنقاذ. ويُقصد بالصرف خارج الميزانية تبرعات المسئولين الكبار فى الدولة. وفى السابق أى قبل الإنقاذ لم يتجاوز حجم الصرف خارج الميزانية نسبة ال 1% بأى حال من الأحوال؛ ولكنه تجاوز ال 17% فى عهد الإنقاذ. وفى السابق كان هذا النوع من الصرف من إختصاص رئيس الجمهورية فقط، ولكن فى ظل الإنقاذ كل من هبَّ ودبَّ (حتى رئيس إتحاد طلاَّب ما) يمكنه أن يتبرع بما لا يملك من أموال الشعب السودانى لغزّة على حساب فقراء عَزَّة ومساكينها.
وقد إشتهر أحد المسئولين الكبار فى الدولة بتردده على أحد الصناديق الكثيرة التى فرختها الإنقاذ خارج سلطان وزارة المالية بقصد نهب أموالها، وطلبه المتكرِّر من الأمين العام لذلك الصندوق بتجهيز مبلغ من المال (فالرجل مولع بفئة ال 5 مليار جنيه) بحجة أنَّه ذاهبٌ إلى إحدى المناطق وقد ينتظر النَّاسُ تبرعه. وكان يفعل ذلك فى كلِّ مرة دون أن يحضر لِأمين ذلك الصندوق أورنيك (15). فحين تكرَّر الأمر، صار أمين ذلك الصندوق حين يُؤمر بإحضار المبلغ يقول: الحاضرة (3.5 مليار) يا ملانا، فيقول ذلك المسئول الكبير: "لا بأس".
فالشاهد أنَّ الأمين العام لذلك الصندوق قد أحضر ال (5 مليار جنيه)، لكنَّه أخذ لنفسه (1.5 مليار جنيه)، وأدرج المبلغ بأكمله فى إسم ذلك المسئول الكبير، ويُردِفُ قائلاً: "خربانة من كُبارة". كرَّرها أكثر من مرة، فتمَّ نقله إلى وزارة إخرى، ثمَّ إلى إحدى السفارات التى فرض فيها ضريبة على من يود مقابلته ما أنزل الله بها من سلطان حتى فى عهد السلطان عبد الحميد (قاطعة من راسو). أمَّا المسئول الكبير فقد أتى بنسيبه (زوج أُخته) أميناً عاماً لذلك الصندوق، وصار "زيتُهُم فى بيتِهِم".
9- هذا الواقع من الصرف خارج الميزانية، يُسلم هذه المداخلة إلى أخطر حلقاتها التى تُعيق إنشاء بنك للمغتربين فى الداخل (على قرار زعم الحكومة الذى يروج له حاج ماجد سوار) ألا وهى الفساد واستمراره واستمراؤه حتى أصبح جزءاً من ثقافة المشروع الحضارى بعد تزيين علماء السلطان له (بأنَّ "البدريين" فسادهم مغفور، والضرورات تبيح المحظورات، فقه السترة، وفقه التحلُّل، وعفا اللهُ عمَّا سلف، إلى آخر الفتاوى الشاذة لعلماء السلطان).
هذا الفساد لم تسلم منه حتى المؤسسات القائمة على أركان الإسلام الخمسة مثل ديوان الزكاة (كما جاء بعاليه) وهيئة الحج والعمرة (الحج السياحى، وأخذ أموال الحجاج مقابل خدمات معينة، والعجز عن الإيفاء بها أثناء أداء المناسك). بل حتى جمعيات القرآن الكريم إمتدت يدها لسرقة المال العام (جمعية القرآن الكريم بوزارة المالية الإتحادية مثالاً).
ومن مظاهر إستمرار هذا الفساد هو حقيقة إستمرار ذات الضرائب المفروضة على المغترب قبل إستخراج البترول إلى يومِ النَّاسِ هذا، بالرغم من العائدات الطائلة (100 مليار دولار) للبترول المكدسة فى حسابات الأخوانويين بالخارج. ومازال استقطاع أكثر من 50% من الأموال المخصصة للتعليم مستمراً إلى يومنا هذا ايضاً، حتى أنَّ الحكومة استمرأت إستكانة الشعب مع هذه الأوضاع القاسية، فشرعت فى خصخصة ما تبقى من هذين القطاعين، حتى قيل للنَّاسِ الذين سيعانون من الجهل والمرض والجوع بسبب سياسات الحكومة هذى: "تغَذَّوْا على بروتين الضفادع"، وهى ذات السياسات التى عَلَّمَتْ النَّاس الذين يعانون من التخمة والمرض والجهل التعرف على "الهوت دوغ".
كذلك من مظاهر إستمرار الفساد أنَّ عائدات ما تبقى للحكومة من بترول ومعادن نفيسة مازال خارج الدورة الإقتصادية لحكومة السودان، أى لا تسيطر عليه وزارة المالية بشكلٍ مباشر، وبالتالى يُدار خارج الميزانية العامة للدولة. والأرقام التى تظهر عن البترول والذهب أرقام تظل أرقام مفبركة حتى إشعار آخر.
فالآن المستثمرون الداخليون (أسماء معروفة منهم هى الآن خارج حلبة السوق باستخدام السياسات النقدية والمالية، ومصيدة الشيكات الطائرة) والخارجيون، لا يستطيعون إنشاء أى مشروع من المشروعات الخلاقة، مالم يكن أحد المتنفذين الأخوانويين (وهناك أسماء معلومة فى هذا الشأن) شريكاً فيه على نحوٍ ما. وما أن يقوم المشروع وينجح حتى يحدث للشريك (الداخلى/الخارجى) نوع من التضييق المُمَنهج، فيضطر للخروج وليته بأقل الخسائر كما يحدث للمستثمر صالح كامل فى قناة النيل الأزرق الآن.
المحصلة:
ففى ظلِّ واقعٍ كهذا، الفساد فيه يصبح عاملاً يُضافُ إلى عوامل الإنتاج (كما يقول العالمان الجليلان إبراهيم الكرسنى والواثق كمير، 1985م) والموجه لها؛ بل ويتحول إلى ظاهرة ثقافية بتواطؤ علماء السلطان معه والسكوت عنه فى أحسن الأحوال؛ فى مثل هكذا واقع، تنهار القيم الكلية للمجتمع وتنمحى الثقة (وقد رأينا هذا الخريف إمتناع عدد من الدول عن إغاثة أهلِنا بحجة أنَّ الأشخاص المعنيِّين بالإغاثة لن يستفيدوا منها بسبب فساد المتنفذين من أهل السلطة)، وتموت كل الأفكار التنموية الخلاقة التى من شأنها تطوير البلد.
وبالتالى يصبح التنادى على السودانيين العاملين بالخارج (والمستثمر الأجنبى) لإنشاء بنك المغتربين السودانيين داخل السودان، مدخلاً لسرقة أخرى، يجب مقاومتها بكل القوة والحسم. وعلينا أن نقيم هذا البنك فى أحد البلدان الحرة التى تحترم الإنسان والقوانين المنظمة لعلاقاته مع محيطه بكلِّ شفافية، إلى أن ينعم السودان بالديموقراطية من جديد.
حسين أحمد حسين،
باحث إقتصادى مقيم بالمملكة المتحدة،
ومتخصص فى إقتصاديات التنمية الدولية.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.