أقصد ب«النص الثقافي» النص الجامع الذي يمثل الذاكرة الثقافية لشعب أو أمة، ويظل يشكل أساس تراثها الذي تعول عليه في تكوين الأجيال. إنه يشكل «الخلفية النصية» التي تتأسس عليها كل النصوص المستقبلية. وليس النص الجامع، بذلك، سوى مجموع النصوص التي تعتبر «الأصول» التي ينهل منها المنتمون إلى ثقافة ما، ويستمدون منها القيم الفنية والمعرفية التي تمثل الهوية الثقافية المشتركة في شموليتها. كان العرب في المرحلة الشفاهية يتفاعلون مع النصوص السابقة عليهم وفق السليقة، وينتجون نصوصهم وفق ما يقدمه لهم النص الثقافي الذي يعتبرونه النموذج، لكن اتساع رقعة الفضاء العربي، مع تشكيل الدولة الإسلامية، واتساع دائرة الكتابة، ودخول أمم من غير الأرومة، جعل تصنيف مؤلفات تجمع «النص الثقافي» العربي، ضرورة ملحة لضبط هذا النص، وتحديده ليكون الخلفية النصية التي يجب الانطلاق منها في عملية الإنتاج والتلقي والتواصل. كتب ابن خلدون في أواسط القرن الثامن: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي: « أدب الكاتب» لابن قتيبة، وكتاب «الكامل» للمبرد، وكتاب «البيان والتبيين» للجاحظ، وكتاب «النوادر» لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها». وأضاف كتاب «الأغاني» للأصبهاني باعتباره ديوانا خامسا. ظلت هذه الدواوين الخمسة تشكل النص الثقافي العربي طيلة عدة قرون، إذ هي أساس التكوين. وكانت بذلك النص الذي يطلع عليه، ويتشبع به كل من يريد احتلال موقع في الثقافة العربية، إبداعا وتفكيرا، وبما أن هذه الدواوين تضم نصوصا قام أصحابها بجمعها من مظان مختلفة، واعتمدوها باعتبارها تمثل الذخيرة التي ينهض عليها النص العربي الثقافي الجامع، فإننا نجدها تتكون من نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي، والشعر القديم، والأخبار التي كانت متداولة، ومأثور الكلام، أي أنها تتشكل من العديد من النصوص السابقة التي تمثل الخلفية النصية العامة. تقدم لنا نظرية «التفاعل النصي» (التناص)، أهمية النص الثقافي الجامع، في أي ثقافة، على اعتبار أن إنتاج أي نص لا يتحقق إلا في علاقته بنصوص سابقة. ولذلك نجد كل إنتاج ثقافي حديث يتأسس على خلفية تراث نصي سابق ومشترك. وتحرص كل أمة على اتخاذ نص ثقافي أصلا من أصول تلك الثقافة. ومن آثار تحديد هذا «النص الثقافي» حصول الاشتراك في تمثل تلك الخلفية النصية لدى أفراد الأمة أو الشعب، والإنتاج في نطاقها. ما نسميه «النص الثقافي الجامع» في الثقافة العربية يمكن مضاهاته بما يسمونه في الغرب ب«الكلاسيكيات»، سواء كانت من النص اليوناني أو الروماني القديم، أو النص الذي تشكل في القرن التاسع عشر في العصر الحديث. فكما أن الشاعر العربي القديم لا يمكنه أن يصبح شاعرا إلا بعد حفظه لمتون الشعر الجيد السابق عليه، نجد الروائي الغربي الحديث، مثلا، لا يمكنه أن يغدو روائيا إلا بعد اطلاعه على «كلاسيكيات» السرد الغربي القديم (الملاحم)، وروايات القرن التاسع عشر. ولا يتأتى ذلك فقط لمن يريد أن يسهم في إثراء الثقافة الوطنية، ولكنه ضرورة بالنسبة لأي فرد، لأنه يوحد الانتماء الثقافي، ويجعل المنتمين إلى ثقافة معينة يشتركون في تمثل النص الثقافي الجامع، لأنه أساس التواصل بينهم. ولهذا السبب نجد النص الثقافي أصلا من أصول التربية والتعليم. تتعدد روافد النص الثقافي، مع الزمن، وتتنوع نصوصه، بأن تضاف إليه نصوص جديدة، لا تلغي القديمة. وكلما اغتنى النص الثقافي بإنجازات ثقافية تتجاوز الحدود الثقافية التقليدية، اتسع مجاله، وتفرعت جوانبه، وتجددت نصوصه. يبدو لنا ذلك في بروز، في اللغة العربية، مؤلفات تعنى بما يسمى «جامع مهمات المتون» التي تحاول جمع «المتون» الأصول في مختلف الحقول المعرفية لتشكل خلفية لطالب العلم أو لأي فرد. وهو ما نجد له نظيرا في ما يسمى في الثقافة الغربية ب»الثقافة العامة» التي لا تتوجه إلى فرد معين، بل إلى كل المواطنين. أذكر عندما كنا أحداثا، أننا نشترك في قراءة العديد من النصوص. وكنا عندما نتناقش نجد أنفسنا مطلعين على متون موحدة. كانت نصوص المنفلوطي وجبران وطه حسين والعقاد وسلامة موسى، وروايات عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، تشكل خلفية نصية لأجيال. ومع الزمن، وتطور الرواية كان الاشتراك في الاطلاع على نصوص مترجمة وعربية. وبذلك كان يتحقق التواصل بيننا، ونفكر في العديد من القضايا بالهواجس نفسها. أحيانا أسأل الطلبة، في المغرب، أو في بعض الأقطار العربية، عن بعض النصوص الأصول ، فلا أجد لهم معرفة بها، وهي جزء أساس من النص الثقافي العربي؟ وحتى الروايات التي يعرفونها هي التي كانت مقررة. فمن أين لهؤلاء أن تكون لهم ثقافة عامة ومشتركة وحس ثقافي موحد؟ ما هو النص الثقافي العربي حاليا؟ بماذا يكون العربي عربيا على المستوى الثقافي؟ أسئلة نطرحها على رجال التعليم والإعلام، بدون نص ثقافي جامع لا نكوِّن سوى أجيال الضياع: أبناء القنوات وألعاب الفيديو والثقافة العابرة. كاتب مغربي سعيد يقطين القدس العربي