رحلة المغربية مع الفن تبدأ بعد عشقها للأدب قصة وقصيدة ورواية، لتبدع في هذه الفنون القولية، الكثير من المجموعات القصصية، مثل 'الذي كان' و'نصف يوم يكفي' و'مجرد حكاية' و'حنين'. العرب فيصل عبدالحسن ذات الوشاح الشفاف، الذي تضعه على رأسها دائماً، زهرة زيراوي، هي أول ما تراه العين الباحثة عن الأصدقاء بعدما تحط بك الطائرة في مطار محمد الخامس، وقد قررت أخيراً أن تقيم في المغرب، قالت لي يوماً "كانت صديقتي التشكيلية العراقية، نزيهة رشيد، كلما سافرت إلى بلد حملت معها باقة ورد تصطحبها معها في رحلتها، وعندما تغادر الطائرة بعد الوصول، توهم نفسها بأن مستقبليها استقبلوها بتلك الباقة، وفي الحقيقة كانت في أغلب رحلاتها لا تجد أحداً يستقبلها". زهرة المغرب هكذا يناديها كل من عرفها في الوسط الثقافي والفني المغربي والعربي، تستقبلك شقتها الواسعة المُزينة بلوحاتها في بوسيجور (حي الزهور) بالدار البيضاء التي جعلتها صالوناً ثقافياً، منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً. حضرت إلى ندوات صالونها الأدبي جنسيات عربية وأوروبية، واستضاف صالونها أسماء من العالم العربي لها دورها التفعيلي في الحياة الثقافية العربية، وقد أشارت مجلة الهلال القاهرية، إلى نشاطات صالونها في رسالة المغرب في عدد أكتوبر العام 1997. صالونها لا يزال، بعد تلك السنوات الكثيرة، ملتقى لرجال الفكر والثقافة والفنون، وكم ألفتْ جدرانه وأبهاؤه أصواتهم وضحكاتهم، وما قالوه وما أعلنوا الوصول إليه من قناعات في الفكر والثقافة والفنون. اللغة واللون وصف الشاعر السعودي عبد الله الفيفي من جامعة الملك سعود بالرياض لوحات زهرة زيراوي بقوله: أحس أنني أمام تحف فنيّة بالغة الرهافة في الرمزية والواقعية معاً عندما أتأمل أعمال الفنانة زهرة زيراوي. ووصف الناقد الفني بنيونس عميروش زيراوي في أمسية نقدية بمناسبة تكريمها ككاتبة وفنانة وناقدة فنية "يبقى عشق زهرة زيراوي للكتابة حول الفن وعن الفن نابعاً ليس من كونها فنانة شاعرة وممسوسة بعبقر القرض فحسب، بل أيضا من كونها فنانة تشكيلية، لذلك فهي تكتب وتحاور من داخل المطبخ التطبيقي، من الملامسة الفعلية لمادة اللون وأطيافه وألق الشكل وظلاله، وفي ممارستها التشكيلية تقر بأنها ليست سوى حالتها، وإذا كان بول كلي قد قال: أنا واللون شيء واحد فإنها ترى أنه لا يوجد عندها تقاطع فهي واللغة واللون شيء واحد". فلسفة الوجود رحلة زهرة زيراوي مع الفن بدأت بعد عشقها للأدب قصة وقصيدة ورواية، فأبدعت في هذه الفنون القولية، الكثير من المجموعات القصصية، "الذي كان" العام 1994، "نصف يوم يكفي" العام 2001، "مجرد حكاية" العام 2002، "حنين" العام 2007. و"الفن التشكيلي مقامات أول" في العام 2005، وكانت لها مع الشعر أيضاً مغامرة جريئة فأصدرت ديوانها "ولأني" العام 2012. احتضنتها عشرات المناسبات الثقافية، وكرمتْ نتاجها الإبداعي القصصي والشعري والأدبي عامة، في المغرب ومصر، وعندما بادرها محاورها شفيق الزكاري في جريدة المساء المغربية العام الماضي، بالسؤال، الذي يلفت إليه كل من يتعرف على هذه الفنانة والكاتبة المغربية، "لماذا الاهتمام بالكتابة والفن في الوقت نفسه؟" إجابتها كمن فلسفت الوجود وحوَّلته إلى معادلة تنتهي من اليسار إلى اليمين، وتبدأ كذلك من اليسار إلى اليمين، كما في المعادلات الكيمائية. قالت "الكتابة أيضاً فن، فكثيراً ما يحيلني بيت شعري أو نص أدبي على الفرشاة عساها تعيده صباغياً، وكما أحالتني أعمال فريدا كالو إلى نصوص إبداعية في مجموعتي ‘نصف يوم يكفي' وقد شاء قدري أن يتجلى وجودي فيهما معاً، إنها علاقة إفصاح كوني لديّ، ويرى الشاعر آية ورهام أن ذلك ينبع من ينابيع شتى نفسية وفكرية وسوسيولوجية وعرفانية وميثية". سنوات الرصاص ولدت الفنانة والأديبة زهرة زيراوي بالدار البيضاء عام 1940 في أسرة تهتم بالعلوم والفنون، وتعلقت بأمها كثيراً، مما دلل على وحدة الروح بينهما، إذ ظهرت تفاصيل تلك العلاقة القوية بعد ذلك في الكثير من قصص الإبنة. أسرة زهرة زيراوي تعيش سنوات ضاجة بالأحداث في سوريا خلال مرحلة الاحتلال الفرنسي، وانتقلت إلى فلسطين ومصر والسعودية، وبعد ذلك رحلت إلى تركيا، ثم عادت إلى المغرب، وخلال هذه المرحلة تغيرت اتجاهات الشابة زيراوي، وكان لمجموعة من الأساتذة دور كبير في ذلك خاصة رشدي فكار، وعائشة عبدالرحمن، وعابد الجابري. تلك السنوات الضاجة بالأحداث، التي سميت بسنوات الرصاص، لما اكتنفها من محاولات انقلاب على الملكية بالمغرب من قبل ضباط شباب تأثروا بما حدث في مصر وليبيا والعراق من انقلابات وثورات، وبما كانت المنطقة معرضة له من تأثيرات فكرية للصراع بين معسكر الدول الاشتراكية والمعسكر الغربي خلال فترة الحرب الباردة، ما عرّضها لموجة من الصراعات الفكرية والحزبية، ولم تخل تلك المرحلة من صراعات دموية مع السلط الحاكمة. قالت عن تلك الفترة "عملنا على تنظيم جلسات أدبية بقاعة المراجعة، وكان منا من يقرأ قصيدة، ومنا من يقرأ قصة ومنا من اشتغل على نص نقدي، وفي تعدد المشارب هذا كان البعض من الطلبة يرسمون، وكنا نتحلق حول أعمالهم الفنية، في أوقات معينة ونعجب بها غاية العجب". نرى أصداء ما عاشته في أعمالها القصصية واضحاً، كما نرى أمها المثقفة بثقافة الحياة في الكثير من مشاهد روايتها "الفردوس البعيد"، هذه الأم، التي عاشت فترة الاحتلال الفرنسي ورأت كيف يعامل المحتل أبناء قوميتها العرب، سواء في المغرب أو سوريا، مما جعلها تحث ابنتها الطفلة زهرة على كره هذا المستعمر وكره الظلم، ومحبة العرب أينما كانوا في حلب أو دمشق أو فلسطين أو مصر، وكانت تقول لها في كل مناسبة "كلهم أهلنا، نعم العرب كلهم أهلنا". في الفصل الأول من روايتها "الفردوس البعيد" رسمت لنا طفولتها وهي في سن الخامسة، وتروي لنا عن شوقها لأمها، قائلة في نثر مركز في غاية الجمال "تتوالى الذكريات، وتستسلم لمتابعتها، تأتي بها دادا حليمة أحياناً إلى بيت درب السلطان. كانت الوجوه هنا في هذا البيت غير وجوه بيت دادا حليمة، تلك الوجوه الرمادية والمستطيلة، الأثاث هنا باذخ غير ذلك الأثاث الرث، هنا لا يوجد صفير الغول، الذي يبدأ مع المساء. هنا مذياع ‘ماركة ريلا'، موسيقى وألحان، لم يكن الفتيل الزيتي الذي يعكس على الجدار المتآكل هيئة الغول، هنا المصباح الكهربائي، فما الذي يجعلها تستوحش هذا المكان؟". كانت تلك الأم حين تجد ورقة مرمية على الأرض وفيها كتابة عربية تلتقطها سريعاً، كأنما تلتقط حرزاً مقدساً، وتقول للصغيرة زهرة "هذه الكتابة العربية، هي لغة القرآن، فلذلك كل حرف عربي هو مقدس، وينبغي احترامه ورفعه عن الأرض"، هذا ما تعلمته من أمها، فلذلك حفظت حكمة العرب وورثت فنون الأمازيغ. البهاء الجمالي كتبت الناقدة سعاد مسكين في التقديم لرواية "الفردوس البعيد": وإذا ما عدنا إلى إبداعات زهرة زيراوي سنحظى بالنشوة الهرمونية، التي يخلقها تجانس حيوات تمّ انتقاؤها من واقع هامشي، وتعالت أصواتها بقوة إلى مستوى الجمال الروحي والصدق الإنساني، كما نصطدم في كتاباتها بسجلات إبداعية، وثقافية تربط الكلمة السردية بشعرية اللحظة، وتمزج طقس الكتابة التخييلية بمشاهد الواقع عبر رسم لوحات فنية تتداخل فيها الألوان والخطوط والظلال. هكذا نجدنا أمام كاتبة متعددة المرجعيات: قاصة وشاعرة وتشكيلية ثم روائية، لا تضع الحدود في إبداعها بين كل الصيغ، بل تحضر مكتملة لتخلق البهاء الجمالي، وتبحث عن الإنساني الذي يوشك على الزوال. أكثر من 83 أمسية فنية وأدبية وفكرية أدارتها زهرة زيراوي في صالونها من خلال جمعيتها الفنية الثقافية "ملتقى الفن" وحضرها كبار الكتاب والأدباء والفنانين المغاربة والعرب، ابتداء من الفيلسوف الكبير محمد عزيز لحبابي، الشاعر حسن نجمي، سعيد الكفراوي، الشاعر حمد إسماعيل، الشاعر وديع الأسفي، ليلى العثمان، وغيرهم. اتجهت للكتابة في الصحافة، وحصلت على عضوية اتحاد كتاب المغرب، وصارت رئيسة جمعية ملتقى الفن ببلجيكا وعضواً مؤسساً لنقابة الأدباء والباحثين وشاركت في العديد من المهرجانات الأدبية العربية والأوروبية، بروكسل- باريس-لاهاي-فيينا-ألمانيا وفي كل من القاهرة وعنابة بالجزائر. حازت على الوسام الملكي، الاستحقاق الوطني من الدرجة الممتازة، وعلى شهادة الدكتوراه الفخرية عن الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب، فزهرة زيراوي تبقى واحدة من فنانات وكاتبات المغرب اللائي نذكرهن كلما وصفنا جمال المغرب وعبقرية مبدعيه.