بسم الله الرحمن الرحيم د. سعاد إبراهيم عيسى الذين أطلقوا على هذا الحوار الوطني صفة, حوار الفرصة الأخيرة, كان قصدهم وكنوع من الإنذار, ان يلفتوا نظر الأحزاب المعارضة وكل القطاعات الأخرى المقاطعة للحوار, بان هذه الفرصة لن تتكرر مرة أخرى, ومن لم يهتبلها الآن سيفقد طريقه إلى تحقيق أهدافه وأحلامه إلى الأبد. بينما الحقيقة والواقع يقول بان السلطة, ورغم أنها صاحبة هذا التحذير للآخرين, فان التحذير يشملها بل وقبل ان يشمل أولئك الآخرين, ذلك. لأنها ان فشلت في إدارته بالصورة التي تقود إلى إخراج الوطن والمواطنين من النفق المظلم الذى حشرتهم فيه, فهي ومن والاها وحدهم الذين سيدفعون الثمن غاليا لذلك الفشل. المثل يقول, (المطر من رشاشه), بمعنى أن بداياته تنبئ عن نهاياته. فالسلطة بدأت أولى خطواتها في طريق الحوار الوطني, بتعبئة المواطنين وتهيئهم لما سيفجره لهم الخطاب الأول للوثبة كما تحلو لهم وصف الحوار, من مفاجآت, وأظنكم تذكرون الضجة الإعلامية عن المفاجأة التي سيعلنها السيد الرئيس في ذلك الخطاب العام السابق. وإذا بالمفاجأة ان جاء الخطاب بلغة استعصى على الجميع فهمها, الأمر الذى جعلهم يطمئنون المواطنين بأنه سيتم تفسير خطاب الوثبة بخطاب آخر لاحقا ولم يحدث طبعا. ومرة أخرى وعند البدء في الإعلان عن بداية الحوار في العاشر من أكتوبر هذا العام, تم تبشير المواطنين بمفاجأة أخرى ستعلن في افتتاح جلسة الحوار, فإذا بالمواطنين يقبضون الريح للمرة الثانية, اللهم إلا ان كانت بعض القرارات المتصلة بتهيئة الأجواء للحوار, والتي جاءت بعد فوات أوانها هي المفاجأة. ليس ذلك فحسب فقد ظل الإعلام الحكومي يعلن عن المشاركة الكبيرة في افتتاحية الحوار والتي ستتوجها مشاركات العديد من رؤساء الدول الشقيقة والصديقة, فتمخضت المشاركة عن رئيس واحد وممثل جامعة الدول العربية. والحوار الشامل الذى لن يستثنى أحدا, عجز تماما عن أن يشمل أهم العناصر المطلوب مشاركتها, والذين بغيابهم لم ولن يصل الحوار إلى الغايات المطلوبة, ان لم يقد إلى ما هو أسوء مما عليه الحال الآن. فالحوار مطالب أولا بان يوقف عجلة الحروب الدائرة بإطراف البلاد, والتي بسبب دورانها وصلت البلاد إلى هذا الوضع المأساوي, اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا, والذي يزداد سوءا يوما بعد يوم. لكن الحكومة فشلت في جذب قيادات الحركات المسلحة ممن بيدهم الحل والعقد للمشاركة في الحوار, واكتفت بمشاركة من أفلحت في إقناعهم من كوادرهم, برغم كل تجاربها مع مثل هذا النوع من المشاركات التي لم تفلح اى منها في إخماد نيران الحرب ان لم تكن قد زادتها اشتعالا. والمدهش ان الإعلام الحكومي لا زال يعلن عن انضمام 20 من الحركات المسلحة للحوار.وفى ذات الوقت الذى تعلن فيه الحكومة عن تمكنها من القضاء على تلك الحركات جملة وتفصيلا. المعلوم ان هذه الحركات قد بدأت بحركتين فقط, هما حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان, أفلحت الحكومة من تفتيتها حتى وصلت إلى العشرات الأمر الذى أعجزها اى الحكومة, عن ان تصل إليها جميعها اليوم. وإذا أضفنا إلي بعثرة تلك الحركات جهد الحكومة في انشقاقات كل الأحزاب الرئيسة التي بدأت بخمسة أو ستة أحزاب, عبثت بها أيدي السلطة فتوالدت وتكاثرت حتى بلغت مائة حزبا وتزيد كما يقولون, وهى أيضا من بين ما يفتخر به إعلام الحوار كدليل على قوة الإقبال على المشاركة في حوار الكم قبل الكيف الذى تحبذه الحكومة. فعند بداية الإعلان عن فكرة الحوار الوطني سارعت كل الأحزاب المعارضة للكشف عن إيمانها بأهميته كوسيلة سلمية لمعالجة كل مشاكل الحكم, ولكنها طالبت بما هو مطلوب فعلا لتهيئة الأجواء التي يقود إلى تحقيق كل أهدافه, كإلغاء القوانين المقيدة للحريات, وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وغيرها مما تعلمون. فكانت استجابة السلطة بان يتم طرح تلك المطلوبات داخل قاعة الحوار الأمر الذى اجبر تلك الأحزاب لرفض المشاركة فيه. وان أعلنت السلطة لاحقا بعض القرارات في جانب إطلاق الحريات ولكنها قادت إلى تضييقها أكثر. فإضافة إلى الاعتقالات لبعض القيادات السياسية, فان التضييق على حرية التعبير قد بلغ مبلغا ان أصبحت مصادرة الصحف تتم وبالجملة. وجميع مثل هذه التصرفات تؤكد ان الحكومة لا ترغب في تغيير نهجها القديم في عدم الإيفاء بما تعد. الآن وعند بداية خطوات الحوار الوطني, يتم الإعلان عن الاستجابة للكثير من المطلوبات التي طرحتها الأحزاب المعارضة لتهيئة أجوائه, فرفضتها الحكومة في الوقت الذى يتوجب الاستجابة لها, ورأت ان تستجيب لها ولكن في الوقت الذى يروق لها بصرف النظر عما يروق للآخرين. وبما ان القرارات التي أعلنت سابقا استجابة لبعض مطلوبات تهيئة أجواء الحوار لم يجد طريقها للتنفيذ كما ذكر, فقطعا سينتظر الجميع ليروا إلى اى مدى سيتم تنفيذ هذه القرارات الجديدة قبل ان يقدموا على المشاركة لاحقا..ولعل فيما تعلن عنه بعض الأحزاب المعارضة من تضييق على حريتها في مخاطبة جماهيرها, ما يؤكد ان الحكومة لا زالت ترى أنها هي صاحبة فكرة الحوار, وهى التي تحدد كيف يسير والى أين يصير. فعندما دعت منظمة الوحدة الإفريقية للاجتماع التحضيري للحوار بمقرها بأديس أبابا, لم يكن ترمى لأكثر من لم شمل كل المعنيين بأمر هذا الحوار وعلى رأسهم الحركات المسلحة والأحزاب المعارضة جمعهم والحكومة, لتقريب وجهات النظر ولخلق قدرا من الثقة بين الجميع حتى تهينهم للعودة لإجراء الحوار بالسودان وهم على قلب رجل واحد, وهى فرصة عظيمة قبلها الجميع إلا السلطة التي رفضتها بحجة ان يظل الحوار سوداني – سوداني, وداخل السودان, وكأنما الاجتماع التحضيري بأديس سيجعله سوداني – أثيوبي. وبموجب ذلك الرفض غير المبرر,غابت كل الحركات المسلحة الأصل, بجانب كل الأحزاب المعارضة الأصل, عن الحوار السوداني - السوداني, فما الذى بقى للحوار من مشاركين يمكن ان يقودوا للوصول إلى أهم ما يجب ان يتوج به نتائجه, السلام العادل والشامل؟ وأخشى ان تكرر السلطة ذات غلطتها الأولى عندما وقعت اتفاقية لسلام دارفور بأبوجا, ومع الفصيل المنشق أو الذى تم فصله عن حركته الأم, حركة تحرير السودان, وتركت الحركة الأصل مع الحركة الأخرى لمواصلة حربهم التي لم تتوقف حتى اليوم. والحكومة أول من يعلم بان كل الاتفاقيات التي أبرمتها مع بعض المنشقين عن حركاتهم, لم تثمر أي منها سلاما, إذ يستحيل التوصل إلى سلام شامل, ما دامت هنالك بندقية واحدة رافضة لذلك السلام. والغريب ان الحكومة التي رفضت دعوة منظمة الوحدة الأفريقية للمؤتمر التحضيري بأديس وأعلنت عن تمسكها بالحوار السوداني – السوداني, ومن ثم فقدت بذلك الرفض إمكانية الوصول إلى إقناع الحركات المسلحة وغيرها من رافضي الحوار للمشاركة فيه, تعلن الأمانة العامة للحوار بان القائم بالأعمال الأمريكي وعند لقائه بها بمقرها بقاعة الصداقة, قد وعدها بالاتصال ببعض الحركات الرافضة للحوار لإلحاقها به,. كما ويعلن الأمين السياسي للمؤتمر الوطني عن عزمهم الالتقاء بكافة الأحزاب والقوى السياسية المعارضة من أجل وضع حلول شاملة ومرضية للجميع. ومرة أخرى ووفق المثل القائل (يذوها ليها مملحة تأباها وتفتشها ناشفة) فقد كان من الممكن للحكومة ان تجنب نفسها كل هذا الجهد للوصول إلى الرافضين للحوار, فقط لو قبلت بالمشاركة في المؤتمر التحضيري بأديس, ولكنها ركلته؟ وفى مقدمة الأسباب التي قادت إلى ان يحمل بعض المواطنين السلاح في وجه الحكومة, هو الإحساس بالظلم والتهميش, خاصة وهم يشاهدون غيرهم يستمتعون بكل ما تم حرمانهم منه. فغياب الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة, مكن لحزب المؤتمر الوطني ان ينفرد وحده بكل السلطة والثروة, ومن بعد أصبح هو المانع والمانح لأي مقدار منهما للآخرين.. ولذلك رأى البعض انه من حقهم ان يحصلوا على حقهم بقوة السلاح ما دام ذلك ليس ممكنا بالطرق الديمقراطية وعبر التداول السلمي للسلطة. إذا, فان الحوار الدائر اليوم, مطالب بان يقود إلى تقويم هذا الوضع المعوج والخاطئ والشائن, بالوصول إلى التغيير من حكومة الحزب الواحد, والاتجاه إلى التعددية الحزبية الحقة, فهل سيفعل بينما لا زالت قيادات ذات الحزب الواحد والحاكم ترى في أن مجرد الحديث عن تكوين اى حكومة, انتقالية كانت أو بأى مسمى آخر كوسيلة لتحقيق ذلك التغيير, وقد تقود إلى إبعاد حزبها عن مقود السلطة, فدونها حرث القتاد, أو لحس الكوع؟ وبالمختصر المطلوب ان يفهم الجميع بان الحزب الحاكم وحكومته, يجب ان تظلا كثوابت تدور حولها كل المتغيرات المرتقبة على ألا تنتقص من سلطتها وثروتها مثقال ذرة. ومؤتمر الحوار الوطني تعلن قيادته بأنه قد تمكن من إشراك مائة من الأحزاب السياسية, إضافة إلى عشرين من الحركات المسلحة, وحيث تعتبر هذه الحشود مفخرة ودليل عافية للحوار. فقد بلغت جملة المشاركين في الحوار 1200 مشاركا الأمر الذى اضطر قيادته إلى ان تحصر زمن الحوار المتاح لكل مشارك في ثلاث دقائق فقط, وبصرف النظر عن أهمية وقيمة ما يطرح من رأى. بل يتساوى في قسمة الوقت (الكلام المليان والفارغ) كما وليست بكثرة المشاركين في الحوار سينجح الحوار, بل بكثرة ما يطرح من الآراء الصائبة والجريئة والتي ستقود إلى نهايات قادرة فعلا على انتشال البلاد من كل الأوحال التي تخوضها الآن. خلاصة القول, خذوا رشد حكمكم من تونس, ودونكم رباعية الحوار الوطني التونسي الذى اضطلعت به فقط أربعة كيانات من منظمات المجتمع المدني وأحزابها, تمكنت عبره من إنهاء كل الاقتتال والتناحر الذى كان سائدا, ومن بعد أبحرت بوطنها إلى بر السلام والأمان الأمر الذى أهلها لنيل جائزة نوبل للسلام التي هي أهلا لها. فهل تسمعون؟.