أن تقرن بين العمل الأكاديمي والكتابة الإبداعية أمر بالغ الدقة، والصعوبة هي أن تمتاز في كليهما، ولكن الأصعب من كل هذا هو أن تبدأ مشوار كتابة الرواية وأنت في الخمسين وتخلق لنفسك نمطا وأسلوبا مميزين يجعلانك من أهم روائيي القرن العشرين، فهذا ما لم ينجح فيه غير الفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو، الذي مهما بلغ من شهرة إلا أنه ظل يعتبر نفسه كاتبا ناشئا وواعدا. وببالغ الحزن ودعت إيطاليا أواخر الأسبوع الماضي روائيّها الكبير أمبرتو إيكو، الذي استثار خبر وفاته أقلاما من العالم أجمع وهو المفكر والكاتب العالمي والمثقف الكوني. العرب لندن- توفي الفيلسوف والروائي الإيطالي، أمبرتو إيكو، مساء الجمعة، عن سن تناهز 84 عاما، وفق ما ذكرته وسائل إعلامية إيطالية متطابقة. ولد إيكو عام 1932 في مدينة تجارية صغيرة في الشمال الإيطالي، تدعى أليساندريا، وعاش فيها طفولته في ظل عائلة ميسورة الحال تتكون من والده ووالدته وثلاثة عشر ابنا آخرين، وكان مقررا له أن يلتحق بالجامعة لدراسة المحاماة لكنه عدل عن ذلك مفضلا التخصص في فلسفة وآداب القرون الوسطى. وما إن حصل على شهادة الدكتوراه عام 1954 حتى بدأ بتدريس الفلسفة في جامعة تورينو والعمل في الإذاعة الفرنسية وتلفزيون RAI والصحافة محررا للشؤون الثقافية، إلى جانب عمله في دار نشر "بومبيني" التي استمر فيها حتى العام 1975. حتى سن الخمسين لم يكن الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو معروفا في المشهد الثقافي سوى بمؤلفاته النظرية في فلسفة اللغة والتأويل والدلالة، بيد أنه كان فيلسوفا عارفا بأدب القرون الوسطى ومنظرا رفيع المستوى لبنية النص الأدبي ورموزه وعلاماته. ولم يجرؤ رائد السيميائيّات وفلسفة اللغة، على دخول ميدان التطبيق العملي لأفكاره النظرية إلا في العام 1980، عندما قدّم أولى رواياته "اسم الوردة"، مكتسحا المسرح الروائي بعمل متكامل فنيا وفكريا، وليعلن عن نفسه منذ ذلك الحين واحدا من أهم الروائيين المعاصرين في العالم. تتابع رواية "اسم الوردة" الراهب ويليم الذي يلتحق بالدير فيجد أمامه سلسلة من جرائم القتل الغامضة التي يذهب ضحيتها قساوسة ينتمون إلى الدير، ولأن ويليم يمتلك قدرة على التحليل المنطقي، فإنه لا يستسلم للاعتقاد السائد بأن الجرائم سببها الأرواح الشريرة، فيبدأ رحلته مع الأسرار التي تكشف له، وعلى نحو مثير، أن القاتل يعيش في أروقة الدير. ويروي أمبرتو إيكو حكايته المشوقة متكئا على مخزون هائل من المعرفة في الخطاب القروسطي، تجلت في الحوارات التي يجريها البطل مع زملائه القساوسة عن الأفكار والمذاهب التي كانت سائدة حينذاك. بعد هذه الرواية بثمانية أعوام، أي في العام 1988، قدّم أمبرتو إيكو روايته الثانية "بندول فوكو" ليغوص أكثر في التاريخ والثقافة عبر قصة لا تقل تشويقا أبطالها ثلاثة محررين يقررون البحث عن خارطة فكرية للعالم تسمح لهم بفهم أكبر لأحداث التاريخ ولوجود الإنسان نفسه، وتأخذهم رحلتهم هذه إلى أزمنة وأماكن مختلفة، من أوروبا القرون الوسطى، إلى الحروب الصليبية في الشرق، مرورا بأميركا اللاتينية حيث تتجذر ديانات قديمة مجهولة. في روايته الثالثة التي نشرها عام 1994 بعنوان "جزيرةاليوم السابق" يذهب إيكو إلى الوراء أربعمئة سنة تقريبا ليعرض حرب الإمبراطوريات الكبرى للحصول على خارطة خطوط الطول ودوائر العرض على سطح الكرة الأرضية والتي ستسمح لمن يمتلكها بمعرفة موقع أساطيله التجارية والحربية في المحيطات البعيدة وهو ما يعني فرض هيمنته على الجميع. إنها رواية عن الدماء التي سكبت من أجل اكتشاف صغير يدعى خطوط الطول والذي سيغير مجرى التاريخ. في ذلك العام سيقدم إيكو كتابا نقديا عن التأليف الروائي بعنوان "ست نزهات في غابة السرد"، ثم سينتظر قراؤه حتى مطلع الألفية الجديدة ليقدم لهم روايته الرابعة والمهمة "باودولينو" التي تجلى فيها خياله الخصب وقدرته على التحكم في عناصره الفنية، عبر حكاية تاريخية يتنقل خلالها البطل "باودولينو" الشبيه ب"دون كيخوت" بين أزمنة مختلفة، وأماكن متنوعة، واقعية وخيالية وأسطورية، عاش خلالها لحظات سقوط القسطنطينية، وحارب جماعة "الحشاشين"، والتقى بمثقفي باريس، وبفيلسوفة الإسكندرية المتنورة هيباتا، كما سافر إلى الفردوس المفقود بحثا عن حقيقة الأسطورة اليهودية. وفي روايته "مقبرة براغ" الصادرة سنة 2010، يكشف إيكو النقاب عن بعض الحقائق التاريخية التي يتم التكتم عنها أو إخفاؤها، وذلك من خلال اختلاق شخصية متخيلة تسرد تفاصيل مثيرة، بحيث يبلور المزج بين الحقيقة والخيال صورة للحقيقة الروائية التي تستمد قوتها من التاريخ والواقع، وتكتسب تفرّدها من انتسابها إلى الخيال الروائي. ويبرز في الرواية ذاتها أن هناك مركزية عالمية تسعى إلى إبقاء العالم مستنقعا لترويج الضغائن والأحقاد والانتقامات، ومسرحا لخلق البلبلة والقلاقل باطراد، حيث تسعى سلطة الخفافيش إلى تسييد العتمة والشرور. أصدر إيكو آخر رواية سنة 2015 بعنوان "العدد صفر" ينتقد فيها نظرية المؤامرة، من خلال التحقيق الصحافي الغريب الذي يقوم به الصحافي براغادوتشيو عن مقتل موسوليني، إذ يعتقد الروائي الإيطالي الراحل أن نظريات المؤامرة تنتشر بشكل غريب عبر مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.