«كارثي هذا الضجيج/ عندما يرتفع في ذاكرة الرجل الجائع/ وكارثية أيضا رأس هذا الرجل/ رأس هذا الرجل الجائع/ عندما ينظر وجهه، على الساعة السادسة صباحا في المرآة الكبيرة في المغازة»- من قصيدة «نوم الضحى» للشاعر الفرنسي جاك بريفير (1900-1977)، الذي كانت نصوصه منصة للتصويب الجمالي من ريشة التشكيلي السوداني عمر خليل، صاحب معرض «الطريق إلى جاك بريفير» الذي احتضنه المركز الثقافي الفرنسي في الخرطوم، (31) لوحة تراوحت مقاساتها بين (80×80) سم و(330x) سم، إكريلك على قماش والأحجام الصغيرة أحبار على ورق أوتمان. تحفل السيرة الفنية لخليل بمشاركات داخلية وخارجية عديدة ومتنوعة، معارض فردية وجماعية وهو خريج كلية الفنون الجميلة والتطبيقية- قسم التلوين، هذه المقابلة معه حول معرضه الأخير. خطرفات إنسان جائع: «لا غنى عن الشعر، وحبذا لو عرفت لأي شيء هو كذلك»، ابتدر مداخلته بهذه المقولة لجان كوكتو حين سألته عن الكيفية التي تشكّلت بها فكرة هذا المعرض في ذهنه ابتداء، ولماذا جاك بريفير تحديدا؟ قال: الصدفة وحدها هي التي قادتني للتعرف على جاك بريفير، كان ذلك في صيف 1990، كنت في زيارة لأحد أصدقائي في ضاحية «الحاج يوسف» في الخرطوم، رأيت ديوانه «أقوال» على المنضدة وحين بدأت قراءة النصوص استغرقتني لمدى بعيد، وصار بعدها من الشعراء الأثيرين بالنسبة لي، كنت أقرأ قصائده بالعربية وعلى يقين بأنها فقدت الكثير من نضارتها بعد الترجمة. كنت وما زلت مولعا بالتصوير في شعره، قصائده صور تتحرك أمامي، وظني أن ذلك من الأسباب التي جعلتها سهلة الوصول بلغات أخرى غير الفرنسية، بالإضافة إلى البساطة والصدق، لم أستطع الحصول على نسخة من الديوان في ذلك اليوم، لكن حصلت على نسخة مصورة عن طريق صديق آخر، بعد عدة أعوام، ظلت تلك النسخة ترافقني في غالب الأحيان، أول قصيدة شدّت انتباهي هي «نومة الضحى» وفي ترجمات أخرى «خطرفات إنسان جائع» أو «مفتاح الجريمة»، وتوالى إعجابي بقصائد أخرى مثل «اليأس يجلس على مصطبة» و»بربارا» و»رأيت كثيرين منهم»، و»أسامر العود». هكذا تعرفت على بريفير وهكذا أحببته وصادقته وفي الوقت الذي كانت فيه علاقتي تتوطّد بقصائده، كانت هناك رغبة عارمة تتولد داخلي لإبداع أعمال تشكيلية موازية لتلك النصوص، لكن لم أبدأ التنفيذ إلا سنة 2008 حيث بدأت عمل الرسومات الأولية والمخطوطات الابتدائية. في ورشة تشكيلية على ضفاف النيل الأزرق، مع مجموعة من التشكيليين أنجزت اللوحة الأولى «خطرفات إنسان جائع» وتوالت الأعمال بعد ذلك، ليست رسما إيضاحيا ولم أعمد إلى تفسير القصائد، هي قادرة على ذلك وحدها، كانت القصائد مدخلا ملهما للفعل التشكيلي الإيجابي ومحاولة للالتقاء بعوالم بريفير والتقاطع معها، كان هناك ثمة دافع قوي يجعلني لا أكف عن الرسم وأنا بين هذه العوالم. الفن من أجل الحياة: العلاقة بين التشكيل والشعر والموسيقى والأدب قديمة قدم الحياة نفسها وكل المدارس الفنية نهضت وهي تحمل في طياتها صيغا شعرية وموسيقية وأدبية، بالإضافة إلى التشكيل ودائما ما كانت تتقاطع في ذهني تلك الأشكال المختلفة للتعبير الفني، وأحاول ما استطعت إلى ذلك سبيلا أن أعبر عن آرائي وأفكاري، وبما أنني من المؤمنين بنظرية الفن من أجل الحياة فقد كنت دائما ما أوجّه معارضي إلى أفكار ورؤى محددة مبتعدا عن الغوص في الرمز والتجريد والإبهام في التشكيل، وكنت دائما أميل إلى المدرسة التعبيرية في الرسم مع الاحتفاظ برؤيتي وتجربتي الذاتية في الرسم، التي لا تلتزم بأي «تمدرُس» إنما تلتقي مع هذه وتتقاطع مع تلك، لذا كانت تجربة التشكيل من وحي الشعر والموسيقى دائما ما تراود مخيلتي منذ وقت بعيد، وأذكر أننا خضنا تجربة «ورشة تشكيلية» سنة 1996 عقب رحيل الفنان مصطفى سيد أحمد، الحوار الذي سبق الورشة دار حول كيفية تناول الأغنيات تشكيليا ورأى البعض رسم لوحات إيضاحية لأشعار الأغنيات بينما رأى البعض الآخر- وأنا منهم- رسم لوحات بدافع الشعر والموسيقى الخاصة بالأغنيات وبدافع حب التجربة ذاتها بشكل عام. وفي سنة 2011 انتجت معرضا في مدينة الأبيض بعد أن غصت في تفاصيل التجربة الشعرية لشاعر العامية السوداني مصطفى عبدالماجد، كانت أعمالا ب(الأبيض والأسود)، أخيرا كما قال الفنان التعبيري نولد، وهو يلخص العلاقة المتشابكة بين الشعر والتشكيل والموسيقى والأدب: «أليست الأحلام كالأصوات والأصوات كالألوان والألوان كالموسيقى؟! إنني أعشق موسيقى الألوان». صفاء اللون وسطوعه: إثر زيارته للمعرض كتب التشكيلي عادل حامد: «الطريق إلى جاك بريفير، قطعا، يمر عبر أشخاص ونفوس عميقة فاض بها الحب والألم والحلم وامتلكت الحكمة في صمتها الطويل، إنها نفوس تملك الكثير لتقوله لك، فقط حين تسكن إليها في عزلتها الأبدية؛ يهتم عمر خليل بالبناء المعماري للعمل الفني وهو لا يدع عقله يفلت أبداً ولا يسمح لتجربته المتراكمة أن تضيع في انفعال ضربات فرشاته النازفة، لكن يتخذ لنفسه أسلوبا يعتمد بشكل أساسي على صفاء اللون وسطوعه ودقة وجمالية التصميم مع تقسيم المساحات بمهنية هندسية عالية وصرامة معقولة تجعلك أمام فنان لا يترك مجالاً للصدفة، فقط يترك لإحساسه العالي أن ينداح مشكلا عوالم رائعة تغري بالمتعة والتأمل العميق»، ويقول عمر خليل عن استجابة الحضور والنقاد وما أثاره المعرض: استفدت من النوافذ والإضاءات حول تجربتي التشكيلية بشكل عام وعلى الأعمال الجديدة المعروضة بشكل خاص، وتحركت حوارات كثيرة من خلال الزوار بشكل يومي، وكانت هناك مساهمات نقدية شفاهية من تشكيليين حول الحرفية الفنية وأخرى حول فكرة المعرض والتداخل الفني فيه. وأخيرا يقول خليل عن تجربته الأخيرة ومشاريعه الأخرى في السياق: وجد المعرض احتفاء كبيرا من القائمين على أمر المركز الثقافي الفرنسي في الخرطوم الذين نظموا احتفالية بعيد الشعر (ربيع الشعراء) وتم اختيار بريفير شاعرا لهذا العام وتمت طباعة كتيب تضمن مختارات من نصوصه باللغتين الفرنسية والعربية واللوحات الموازية لها؛ بالطبع هناك آفاق كثيرة تفتحت، لدي أفكار وأسعى لتنفيذ بعض اللوحات عبر وسائط تشكيلية جديدة (ثلاثية الأبعاد) مع إضافة مؤثرات صوتية وضوئية وأفكر أيضا في إضافة ألحان لبعض القصائد وإلحاقها باللوحة؛ على صعيد آخر لدي محاولة لتأطير دراسة «البورتريه» في منهج حرفي واضح، وأعد بحثا في هذا السياق بعنوان «البورتريه بين الحرفة والدراسة اللونية» ربما أتقدم به للحصول على درجة الماجستير في التلوين من كلية الفنون، وسيتبع الدراسة معرض فني جديد، في نهاية الأمر. القدس العربي