أصبح من الصعب الآن تصنيف أشكال الرواية الحديثة وأنواعها، فعلامة التجنيس أصبحت أكثر ميوعة من السابق، والتقنيات الروائية أضحت تستمد مفاهيمها من التجارب العلمية والتاريخية والأدبية، لتصبح الرواية كائنا هجينا تتداخل فيه النصوص ومرجعياتها، إذ لم تعد الإحالات إلى نصوص منفردة بل إلى بنية بأكملها يمكن للرواية أن تعكس خصائصها، ومن أبرز الأسباب لانفتاح الفن الروائي هو تقنيات العصر وطبيعة القارئ الآن وتحول التكنولوجيا إلى عنصر جوهري في حياتنا. العرب عمار المأمون تبني الكاتبة السودانية آن الصافي في روايتها الجديدة الموسومة ب"كما روح" ما يشبه النواة الذريّة لقصة حبّ تتغير وتأخذ أشكالا مختلفة على مر العصور، أشبه بخليّة جنينيّة قابلة لأن تأخذ أي شكل. وتقول الكاتبة السودانية آن الصافي إنها تكتب للمستقبل وللأجيال القادمة ولقارئ جديد، إذ تختبر الحكاية وأساليب سردها معتمدة تقنيات وأساليب متنوعة ومختلفة في سبيل الوصول إلى صوت مغاير، لا لاكتشاف الحكاية وتقاليدها، بل للوصول إلى شعريات مرتبطة بالرواية نفسها كفن للسرد. وتعتمد الصافي في روايتها الصادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع على أساس بسيط، ألا وهو قصة حبّ بين فتاة ذات ضفيرة وعشيق يبحث عنها، هذا الأساس يتحول مع الصافي إلى جوهر ليّن متحوّل يظهر ويختفي، فطوال الرواية نرى الصافي تولّد سياقات مختلفة لهذه الفرضيّة/الأساس لاختبار حدود هذا العشق وإمكانيته، إذ ينتمي كل سياق إلى زمان ومكان مختلفين، لنقرأ عصورا غابرة بدائيّة ثم أزمنة معاصرة سريعة متبدّلة، وكأننا أمام آلة لتوليد الاحتمالات العشوائية مضبوطة بمجهولين، الحبيب وذات الضفيرة، وعند كل دورة لهذه الآلة نقرأ حبكة مختلفة وشخوصا مختلفين، وكما الخطأ المنهجي في الآلات الذي يتكرر عند كل مُنتج/حبكة، الوله والبُعد هما الموضوع المنهجي في كل الحكايات، فذات الضفيرة وعشيقها لا يلتقيان، ويأخذان أشكالا مختلفة من البُعد، فالآلة تحكم عليهما بألا يلتقيا حتى قبل أن يدركا ذلك، كالفرض الصِفريّ، فمهما اختلفت محاولات الحلّ تظل النتيجة واحدة، ألا وهي الصفر. لعنة الوسم الرواية كالآلة التي تطبع وَسمها الخاص على كل مُنتج، وكل حبكة تجمع هذين الحبيبين تحمل مصيرا مُقررا منذ البدء، سابقا للعلاقة بينهما، فتتداخل المرويّات والرؤى والنبوءات كخيط رفيع يجمع كل ما يحدث، لتبدو الحكايات متوازية كمرايا تعكس جوهرا واحدا. وصحيح أن كلا منها (الحكايات) في عالم خاص، إلا أنّها تتماهى بالوهم والهلوسات والأحلام التي يخلقها ذلك الوسم الذي لا يتغير. فالماضي يبدو كحلم يراود شخصيات الآن، ليكون الوسم الذي أنتجته ماكينة السرد، أقرب إلى الطبعة الجينيّة التي تنتقل من جيل إلى جيل، وكأن العاشقين يسبحان في حوض من "الجينوم" ويتخذان أشكالا مختلفة بحسب كل ظرف، إلا أن حتميّة التكرار لا يمكن تفاديها، فالمبرمجون جينيا على عدم اللقاء لا يمكن لهما مخالفة تكوينهما، ليبقى الوصال أقرب إلى وهم أو رؤيا من الماضي. تنتمي العوالم التي تبنيها الصافي إلى حقب تاريخيّة متفاوتة، إذ نقرأ عن قبائل وأمراء، وعن رحلات صيد وذئاب ضارية تترك جروح أنيابها في الشخصيات، لتنتقل هذه الجروح "وراثيا" إلى أجيال المستقبل، التي تعيش في زمن الطائرات والأبنية الشاهقة ورجال الأعمال بثيابهم الأنيقة. فالصراع الذي تصوره الصافي بين الذئاب وشخوص عابرين، يأخذ شكلا معاصرا حين يتحول إلى صراع مع وحوش الكونكريت والأبنية الشاهقة والطائرات، وهو صراع مع العالم الآن بتغيراته وتبدّلاته، لكن المشترك في كل ذلك هو النزيف الذي يتركه كل سياق، سواء كان الجرح جسديا أو معنويا، فهذا النزيف علامة فارقة ودليل على ما مضى وخيط يضبط تحوّلات الحكاية. رواية مبنية على فعالية "الروح" وتحوّلاتها رياضيات الروح تذكر الصافي أن الرواية حضرت معها لعدة سنوات، تاركة خلالها مخيلتها تمضي بعيدا في عوالم يتداخل فيها الواقع مع الأسطورة، فالصافي تبني الرواية على أساس فعالية "الروح" وتحوّلاتها، أشبه بمعادلة رياضية تختلف مجاهيلها، لتبقى الروح وتوقها إلى الانعتاق الثابت الوحيد، فالروح تتقمص وترحل وتسافر عبر الزمان والمكان، محكومة برغباتها وسعيها، وهي عبارة عن شكل "هيولي" ينساب ويتخذ أشكالا متعددة عبر الفضاءات والسياقات والشخصيات وكأن الجسد مهما اشتد لن يحقق رغبات الروح، فيضيق عليها، لتمضي بعده حرّة في محاولة جديدة للسكون، وكأننا أمام رياضيات متقدمّة الحل فيها لا يحتاج إلى تبرير، وهي افتراضات لا بد من التأكد من صلاحيتها بالممارسة، وكما قارئ اليوم يشارك ذاته عبر الزمن ووسائل التواصل الاجتماعي، تكتب آن الصافي لقارئ يعيش في زمنه الخاص، تاركة له حريّة التقييم والتأويل، وهي نبضات آنية وشخصيّة، وكل قراءة تضفي عليها احتمالا جديدا. وكما نصوص وسائل التواصل الاجتماعي، فإن آن الصافي تكتب نصوص الرواية دون أن تخاطب قارئا محددا، وكل فصل هو احتمال وإرهاص لبداية جديدة، وهو محاولة فردية أيضا. وللقارئ حرية بناء المرجعيات وحرية حلّ المعادلة بالطريقة التي يراها مناسبة، وهي ذات الحرية التي نمتلكها حين نقرأ من أمام الشاشات، فالمحتوى الشخصي للفرد يفقد شخصانيته إثر تبادله عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليصلنا محمّلا ببصمات الآخرين، كالروح كلما حلّت في جسد اكتسبت منه صفات وخصائص جديدة تظهر في الجسد الجديد الذي ستحل به، ليصبح ماضيها لاوعيا يكتشفه الوعي الآن بالمصادفة أو بزلة لسان أو حلم. ويذكر أن آن الصافي تعمل على مشروع نقديّ ومفاهيميّ، إذ تسعى إلى تأسيس عوالم سردية خاصة بها، وقد صدر كتابها الأول "الكتابة للمستقبل" عام 2015 وفيه تشرح تقنيات كتابتها "المستقبليّة" التي تخاطب الجميع، ويتداخل فيها العلم مع الأدب، وحاليا تجهز للجزء الثاني من الكتاب، إذ ترى الصافي أن الكتابة السردية الآن لا بد لها من مواكبة العصر، وتشكيل قطيعة مع التقنيات التقليدية السائدة في العالم العربي.