أخشى ما أخشاه أن تمتد "بروفة" الانفصال من جنوب السودان الى اجزاء اخرى في هذه البلد، أو تعمم على بلداننا العربية الاخرى، بحيث يصبح "وَهْم" الاستقلال عنواناً آخر تهرب اليه الشعوب لكي تتحرر من "الرقّ" السياسي الذي "اغتال" حريتها بلا سبب. ولكي نفهم ما حدث في احتفال "الانفصال" السوداني وما رافقه من خطابات وصور رمزية ثم ما تلاه من اعترافات بالدولة الجديدة، لا يهمّ ان نستحضر التاريخ فقط، على ما فيه من اشارات ومحاولات وتدخلات للوصول الى هذه النتيجة، ولا يهم ان "نعلّق" المسؤولية على الآخر بارسالياته التبشيرية ودعمه المباشر وغير المباشر، وغواياته السياسية، ولكن لا بد من الاشارة الى مسألتين: اولاهما ان ضعف الدولة المركزية منذ نشوء السودان قد افضى الى هذه النتيجة، فقد عجزت كل الحكومات السودانية عن "استيعاب" الجنوب، وبغيابها عنه وجد "الآخرون" هذا الفراغ فملؤوه، ابتداء من اشعال الحروب الى اشعال نيران "التقسيم"، أما المسألة الثانية فهي ان غياب "الروح الوطنية" التي تتأسس عليها مفاهيم الوحدة والتعددية والمواطنة وتطبيقاتها العملية قد ساهمت ايضاً في ابراز روح الانفصال، ذلك ان المواطن – أي مواطن – حين يشعر "بقلة" هيبة الدولة وضعفها او عجزها عن تدبير شؤونه وتحقيق مطالبه المشروعة، وحين يفتقد ايضاً "روحه الوطنية" الجامعة والعابرة للاختلافات العرقية والنوعية والقومية والدينية، لا يجد أمامه الا طريقاً واحداً وهو "البحث" عن البديل، حتى لو كان هذا البديل "وهم" وطن، او دولة فاشلة، او "انتداب" مؤقت يُغريه بالحرية والاستقلال والكرامة. لا شك ان "الجنوبيين" اخطأوا حين اختاروا الانفصال عن "امهم" السودان، ولا شك ايضاً بأن "الشماليين" أخطأوا، تاريخياً وسياسياً، حتى عندما ذهبوا الى صياغة "الاتفاقية" التي اعطت لاهل الجنوب الاشراف على الاستفتاء بدل ان يكون هذا الاشراف لطرف محايد.. لكننا – بالتأكيد – سنخطيْ جميعاً اذا اعتبرنا ما حدث حلاً لمشكلة، كما يشعر بعض السودانيين في الشمال، او انه نهاية "لحرب" وصراع سياسي معقد، حان الوقت لطيّ صفحته، او انه "شأن" سوداني لا علاقة لبلداننا العربية به.. سنخطئ هنا لأن ما حدث اكبر من "الجنوب" ومن السودان، ومن "التدخل الخارجي" الذي يحلو لنا دائماً ان نستدعيه للهروب من مسؤولياتنا. فتحرير الجنوب السوداني، كما هو موجود في أدبيات حركة تحرير السودان، ليس الا "خطوة" اولى في طريق تحرير السودان كله من "عروبته" واسلامه، وعلى الخط "دارفور" والنيل الازرق وأبيي وغيرها، ونوازع الاستقلال التي "أغرت" جارنغ وسيلفاكيبر وقبائل الجنوب التي تعاني من الفقر والامية والتخلف ستغري الكثيرين ايضاً في بعض بلداننا العربية للتفكير بالانفصال حتى لو كان هذا سيفضي الى دولة فاشلة وربما تكون حملة "اجهاض" الثورات العربية – كما يحدث في ليبيا وغيرها – البداية لترسيخ هذه "الفكرة" في أذهان الشعوب التي تبحث عن حريتها وكرامتها بأية وسيلة. انفصال جنوب السودان لم يكن مفاجئاً لمن قرأ تاريخ السودان وتقلباته السياسية وصراعاته القبلية والدينية، وبقدر ما تشعر ان دعاة "الانفصال" هؤلاء مجرمون، وطنياً وعروبياً وانسانياً ايضاً، بقدر ما يجب ان نعترف بأنهم "ضحايا" وقعوا في "الفخ" الذي استدرجوا اليه او دفعوا اليه.. ومن دفعهم يتحمل معهم هذه "الجريمة" التي شارك فيها الوطني والاجنبي على حد سواء. ... بئست المقدمات.. وبئست النتائج ايضاَ. الدستور