يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    حزب الأمة القومي: يجب الإسراع في تنفيذ ما اتفق عليه بين كباشي والحلو    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    الفنانة نانسي عجاج صاحبة المبادئ سقطت في تناقض أخلاقي فظيع    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    جبريل ومناوي واردول في القاهرة    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    الأمم المتحدة: آلاف اللاجئين السودانيين مازالو يعبرون الحدود يومياً    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    تمندل المليشيا بطلبة العلم    ((كل تأخيرة فيها خير))    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا أجهضت الديمقراطية السودانية في 25 مايو 1969 ؟ (5) ..

اهتمت هذه الدراسة بالتطورات السياسية الداخلية في السودان، التي قادت إلى إجهاض الديمقراطية، واستلام الحكم من قبل الجيش عام 1969. لذا وجب علينا تتبع أسباب قيام معارضة حكم الفريق إبراهيم عبود (1958-1964)، التي أدت إلى انفجار الشرارة الأولى لثورة تشرين الأول/نوفمبر عام 1964، وقيام السلطة الشعبية في البلاد، مع أبرز أهم المسئوليات التي واجهت الحكومات الانتقالية وأثر النزاع على السلطة – من خلال تشكيل الحكومات الائتلافية المتكررة – على تراجع الحكومة في أداء مهامها الرئيسة واستلامها من قبل الجيش.
تمهيد:
كما هو معتاد في الدول النامية، جاء حكم الفريق إبراهيم عبود، صباح يوم 17 نوفمبر عام 1958 يبشر الناس بعصر جديد ملؤه الرفاه الاقتصادي والحريات العامة، ولضرورات المرحلة، علق الدستور، وأعلنت حالة الطوارئ، وحلت جميع الأحزاب السياسية، ومنعت المظاهرات في عموم البلاد، فضلاً عن مهاجمة إبراهيم عبود الأحزاب السياسية التي اعتقد أنها خلقت عدم الاستقرار السياسي في البلاد.
منذ البداية حظي حكم إبراهيم عبود بترحيب عام حيث كان البيان الأول مغرياً بوعوده، زد على ذلك أنه قد أوضح أن الجيش تولى السلطة فقط كإجراء مؤقت لإنقاذ البلاد من المؤامرات السياسية بين الأحزاب.
وعلى الرغم من الهدوء الحاصل في بداية الأمر، إلا أنه في غضون شهور قليلة اصطدم إبراهيم عبود بمعارضة بعض ضباط جيشه الكبار، فضلاً عن طوائف الشعب المختلفة، وأخذت المعارضة تزداد قوة منذ عام 1960، وبالذات بعد وفاة السيد عبد الرحمن المهدي، زعيم الأنصار، في 24 آذار/مارس عام 1959، وخلافته من قبل السيد الصديق، حيث انتهى تأييدهم للنظام، فضلاً عن تقديم إسماعيل الأزهري، رئيس وزراء أول حكومة وطنية في البلاد، مذكرة طالب فيها إنهاء الحكم العسكري، تلك المذكرة التي قربته كثيراً من معسكر الأنصار، وجمعته أخيراً مع الجبهة المعادية للاستعمار (الحزب الشيوعي السوداني)، في جبهة معارضة تم تشكيلها عام 1960، ضمت الحزب الوطني الاتحادي وحزب الأمة والجبهة المعادية للاستعمار، وفي 29 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1960، قدمت الجبهة مذكرتها الشهيرة طالبت فيها بعودة الجيش إلى ثكناته، وعمل انتخابات عامة، مع رفع كلي لقانون الطوارئ في البلاد .
وفي العام نفسه، كانت هناك مظاهرات عنيفة في منطقة وادي حلفا، بشأن قرار صادر من الحكومة، يقضي بإعادة توطين أهالي وادي حلفا في منطقة خشم القربة، بسبب تأسيس السد العالي في مصر، فضلاً عن الاضطرابات التي كانت موجودة في جنوب البلاد في أواخر عام 1963، هذه كلها عوامل قادت إلى اهتزاز قواعد نظام الحكم القائم.
وعلى الرغم من مظاهر المعارضة المذكورة، يبقى السبب الرئيس الذي قاد إلى المواجهة النهائية بين الشعب والحكومة في تشرين الأول/اكتوبر عام 1964، هو محاولة الحكومة حل مشكلة الجنوب عن طريق تكوين لجنة، ودعوة المواطنين إلى طرح وجهات نظرهم حول الأمر، فكانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير، وهكذا أعطيت الفرصة للحوار العلني.
الشرارة الأولى للثورة:
منحت الفرصة لاتحاد الطلبة في جامعة الخرطوم، لعقد مجموعة من المناظرات حول مسائل أوسع، وأدركت الحكومة خطورة الطريق الذي تسير فيه، ففي 10 تشرين الأول/اكتوبر عام 1964، أصدرت الحكومة أمراً بمنع قيام أي تجمع، وحصل أن فرقت الشرطة حشداً غير مرخص به في 21 من الشهر ذاته، مستخدمة أسلحتها النارية، فاستشهد طالب نقلت جثته إلى المستشفى، حيث تجمع الطلبة وأساتذة جامعة الخرطوم احتجاجاً على أوامر الحكومة.
استمر جو المعارضة في الغليان، وبعد يومين من استشهاد الطالب، أعلن أساتذة الجامعة استقالتهم الجماعية احتجاجاً على الحادث، كما أعلنوا انهم لن يعودوا إلى عملهم حتى انتهاء الحكم العسكري، وهنا تشكلت النواة الرسمية للمقاومة عندما عقد الأساتذة اجتماعاً مع القضاة والمحامين لتنسيق أعمالهم ضد النظام، وتمخض عن الاجتماع صدور احتجاج مكتوب لغرض تقديمه إلى الفريق إبراهيم عبود، فطوقت الشرطة المبنى ومنعتهم من الخروج، فتلا ذلك الإضراب العام الذي تم إعلانه في 26 تشرين الأول/اكتوبر .
أصاب البلاد حالة من الإرباك فتحرك عدد من الضباط بقواتهم العسكرية، وأحاطوا بالقصر الجمهوري للضغط على المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي كان يعقد جلسة فيه، اعتقد الفريق إبراهيم أنه قادر على تجاوز الأزمة وامتصاص غضب الجماهير عندما أصدر قراراً في 27 تشرين الأول/اكتوبر جاء فيه: حل المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الوزراء، ووضع السلطة التنفيذية والتشريعية بيديه، والعمل على تشكيل حكومة انتقالية من أجل العودة إلى الحكم المدني .
أما المعارضة التي شكلها الطلبة والقضاة والمحامون والعمال والفلاحون والموظفون فقد استمرت في ضغطها هي الأخرى إلى أن شكلت لنفسها جبهة مستقلة سميت الجبهة الوطنية للمنظمات المهنية (جبهة الهيئات) في 26 تشرين الأول/اكتوبر عام 1964، والجبهة الأخيرة مع الأحزاب السياسية التي لا زالت محظورة (الحزب الوطني الاتحادي، حزب الأمة، حزب الشعب الديمقراطي)، أسست جبهة جديدة لهم أطلقوا عليها اسم الجبهة الوطنية الموحدة .
الحكومة الانتقالية:
بعد تأسيسها مباشرة، دخلت الجبهة الوطنية الموحدة مفاوضات مباشرة مع ممثلي رئيس الجمهورية، فأعلن في 29 تشرين الأول أن المفاوضين قد توصلوا إلى اتفاق ينص على: 1) تشكيل حكومة انتقالية، 2) يكون سر الختم خليفة "وزير تعليم سابق" رئيساً للوزراء، 3) بقاء الفريق إبراهيم رئيساً للجمهورية وقائداً عاماً للقوات المسلحة. ولتهدئة الأمور أعلن رئيس الوزراء الجديد فوراً بأن الحكومة ستسير على منهج مرسوم أطلق عليه الميثاق الوطني، وعلى رأس مواده العودة إلى الحكم المدني، وإجراء انتخابات عامة في البلاد في موعد أقصاه شهر آذار المقبل، أما السياسة الخارجية فقد حددت بدعم قضية فلسطين وحركة عدم الانحياز ومعارضة كافة الأحلاف العسكرية .
تم تشكيل الوزارة المدنية برئاسة سر الختم خليفة على النحو الآتي: سبعة حقائب وزارية لجبهة الهيئات، وحقيبتان للجنوب، وحقيبة وزارية واحدة لكل من حزب الشعب الديمقراطي وحزب الأمة والحزب الشيوعي وجبة الميثاق الإسلامي. وعلى الرغم من قلة عدد حقائب الأحزاب التقليدية في الوزارة إلا أنها كانت الحقائب المهمة وهي الخارجية والاقتصاد والمالية والري، فضلاً عن أنها الوزارة الأولى التي مثلت فيها مصالح العمال والفلاحين والحزب الشيوعي.
هناك مهمات عدة وقعت على عاتق الحكومة، فمشكلة الجنوب التي تتطلب حلاً بحاجة إلى اهتمام عاجل، وإجراء انتخابات عامة، فضلاً عن صعوبة تكيف الأحزاب السياسية التقليدية نفسها مع سيادة الجناح اليساري في الحكومة، فكان الأمل الوحيد هو أن الانتخابات المنتظرة ستغير التوازن، وعليه ضغطت جميع الأحزاب – باستثناء حزب الشعب الديمقراطي – من أجل تحديد موعد مبكر لإجراء الانتخابات .
ولأجل الضغط على الحكومة لإجراء انتخابات عامة أحيا الحزب الوطني الاتحادي وحزب الأمة وجبهة الميثاق الإسلامي – باستثناء حزب الشعب الديمقراطي – جبهتهم الموحدة القديمة في 19 كانون ثاني/يناير عام 1965، فأرسلوا مذكرة إلى رئيس الوزراء طالبوا فيها بضرورة إجراء الانتخابات في الشمال دون انتظار مشاركة الجنوب، وأكدوا على وجوب استقالة الحكومة في حالة عدم تمكنها من تأمين الوسائل الكافية لإنجاح المهمة، ونقيض هذا أعلن حزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي معارضتهم لإجراء انتخابات جزئية في البلاد مع تأكيدهم على استمرار مساندتهم للحكومة القائمة .
ازداد الخلاف داخل مجلس الوزراء حين اقترح ممثلو حزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي ضرورة إعطاء حزبيهما خمسين بالمائة من المقاعد البرلمانية، وعليه يتم وضع قوانين انتخابية جديدة وإعادة رسم الدوائر الانتخابية، وبعد مناقشات طويلة تم رفض الاقتراح من قبل الحزب الوطني الاتحادي وحزب الأمة وجبهة الميثاق الإسلامي .
في خضم الخلافات الحزبية التي كانت تعطل مسيرة الحكومة – اضطر رئيس الوزراء إلى التهديد بتقديم استقالته في 14 شباط/فبراير عام 1965 – في محاولة منه لوقف التدهور الحاصل في أداء الحكومة المؤقتة، ومع هذا، اقترحت الجبهة الوطنية الموحدة بأن التمثيل في مجلس الوزراء الجديد يجب أن يشكل على أساس نموذج عام 1958، مع وجود وزير واحد لكل من الحزب الشيوعي وجبهة الميثاق الإسلامي، في حين أصر حزب الشعب الديمقراطي على ضرورة تمثيل العمال والفلاحين في الوزارة .
وبسبب عدم إيجاد تسوية نهائية بين الفرقاء، تم تنفيذ استقالة رئيس الوزراء من يوم 18 شباط، فمن يوم 18 حتى يوم 24 من الشهر ذاته كانت البلاد من دون حكومة، وخلال هذه الفترة – بسبب الشكوك المتبادلة بين ممثلي الأحزاب – تأخر تشكيل مجلس الوزراء، فضلاً عن رفض حزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي قبول الحقائب الوزارية التي عرضت عليهم، وكانت حجتهم هي عدم تلبية رغباتهم الخاصة بتمثيل العمال والفلاحين .
على الرغم من كل الخلافات تم تشكيل مجلس الوزراء مع بقاء سر الختم رئيساً للوزراء وترك ثلاث حقائب وزارية لحزب الشعب الديمقراطي وحقيبة واحدة للحزب الشيوعي، وكما كان متوقعاً، أدان حزب الشعب الديمقراطي فوراً تشكيل الوزارة واعتبرها غير شرعية. إلا أنه لم يمض أكثر من شهرين حتى استعرض موقفه من الانسحاب من الوزارة – الذي فرضه على نفسه – حتى قرر قبول الحقائب الوزارية التي سبق وأن عرضت عليه، خاصة بعد أن قبل الحزب الشيوعي الحقيبة التي عرضت عليه هو الآخر .
وكان من أبرز القضايا التي وجب على الحكومة مواجهتها هي مشكلة الاضطرابات في الجنوب، وإجراء انتخابات عامة في البلاد، فكانت القضية الأولى مهمة جداً حيث تم عقد مؤتمر الطاولة المستديرة في الفترة من 16-30 آذار/مارس عام 1965، مثلت فيه جميع الأحزاب السياسية المشاركة في السلطة، مع ممثلين عن جبهة الجنوب والاتحاد الوطني الأفريقي السوداني (سانو)، وسرعان ما اصطدم المؤتمر بالمصاعب، وهي الخلافات في وجهات النظر بين الأحزاب الحاكمة، فضلاً عن ارتياب الجنوبيين من الحكومة ونوايا المؤتمر عموماً بعدم تلبية تطلعاتهم السياسية، وأخيراً انتهى المؤتمر بصدور قرار ينص على الاجتماع ثانية في غضون ثلاثة أشهر، وتأسيس لجنة من اثني عشر عضواً لتقوم بإيجاد حل يقبل به الجميع . ولتضارب الآراء بين قادة الأحزاب السياسية الحاكمة وفقدان الثقة بينها وبين قادة أحزاب الجنوب، انتهت المحاولة العاجلة لحل المشكلة بالفشل ولم يلتق المؤتمران ثانية على الإطلاق.
أما القضية الثانية فهي إجراء انتخابات عامة، ففي كانون الثاني/يناير عام 1965 أصدرت الحكومة قراراً حددت فيه تاريخ البدء بتسجيل الناخبين من يوم 11 شباط/فبراير حتى يوم 21 آذار/مارس عام 1965، ولكن بسبب التحضير لعقد مؤتمر الطاولة المستديرة – الذي صادف موعده في شهر آذار – أجلت الانتخابات حتى يوم 21 نيسان/ابريل من العام نفسه.
وفي 6 نيسان/ابريل أعلنت الحكومة أن الانتخابات العامة ستبدأ في الأقاليم الشمالية ولأسباب أمنية تم تأجيلها في الجنوب، فكان الصوت المعارض لهذه الدعوة هو محمد عثمان الميرغني النجل الأكبر لزعيم الختمية، حيث عبر عن قلقه بقوله "إن قادة جنوب البلاد قد يعلنون تشكيل حكومة في المنفى، أو قد تعطي العملية انطباعاً خاطئاً للعالم عن أن الشمال كيان منفصل عن الجنوب" .
على أية حال، مضت الانتخابات قدماً في موعدها المحدد، فانعكس تصريح السيد محمد عثمان على حزبه في استمرار مقاطعة الانتخابات، مما قاد إلى وقوع العديد من الصدامات والاضطرابات في الدوائر الانتخابية الواقعة في ضمن معقل حزب الشعب الديمقراطي وبصورة خاصة في شرق السودان، ولهذا تم اعتقال علي عبد الرحمن، رئيس الحزب وبعدها بشهر واحد تم اعتقال سكرتير الحزب أيضاً لقيامه ومجموعة من أنصاره بمسيرة احتجاجية ضد اعتقال رئيس حزبهم، وعلى الرغم مما حدث انتهت الانتخابات وكانت النتيجة فوز واضح لحزب الأمة.
الحكومة الائتلافية الثانية:
تشكلت الوزارة الجديدة بعد إعلان نتائج الانتخابات فوراً في شهر حزيران/يونيه عام 1965 من ائتلاف شاذ تكون من الحزب الوطني الاتحادي وحزب الأمة، وذلك لعدم فوز أي منهما بأغلبية واضحة، فتم اقتسام الحقائب الوزارية بينهما بالتساوي مضيفين وزارتين للجنوب، وتسلم إسماعيل الأزهري رئاسة مجلس السيادة ومحمد أحمد محجوب رئاسة الوزراء، أما حزب الشعب الديمقراطي، هذه المرة، فقد قاد المعارضة من خارج البرلمان، فطالب الحكومة بحل برلمانها لعدم شرعيته وإجراء انتخابات عامة أخرى وتشكيل حكومة وطنية تمثل الطيف السياسي في البلاد توجد حلاً سلمياً لمشكلة الجنوب .
وكما هو متوقع ولزواجهما غير الشرعي، سرعان ما اصطدم الحزبان المؤتلفان بالمسائل الشكلية، حيث ثارت أزمة بين الحزبين حول من يجب أن يمثل البلاد في اجتماعات القمة في الخارج، وكان رئيس الوزراء قد اتخذ قراراً بأنه هو نفسه يجب أن يمثل جمهورية السودان في منظمة مؤتمر الوحدة الإفريقية في اكرا، فكان رد فعل وزراء الحزب الوطني الاتحادي سريعاً بإعلان استقالتهم، ولكن بعد يومين تم التوصل إلى تسوية مع حزب الأمة، اتفق على أن يمثل رئيس مجلس السيادة السودان في اجتماعات القمة القادمة، ولهذا استمر الائتلاف. وقد ثارت قضية أخرى كادت أن تنسف الائتلاف ثانية، في تشرين الثاني عام 1965، ففي اجتماع طلابي في أم درمان، هاجم شيوعي – محمد علي شوقي – الإسلام، سببت الحادثة أزمة سياسية في البلاد، نتج عنها اتخاذ الأحزاب الحاكمة قراراً بحظر عمل الحزب الشيوعي .
لم يكن حزب الشعب الديمقراطي مرتاحاً للحادث، وللإجراء الذي ترتب عليه معتقداً أنه استغل من قبل الأحزاب الائتلافية لأغراض سياسية، وأنه ليس إجراء ديمقراطي، مما دفعه للاستجابة إلى قرار اتحاد طلبة جامعة الخرطوم في عقد مؤتمر تحت شعار الدفاع عن الديمقراطية، وانتهى المؤتمر إلى إصدار بيان يوضح فيه أن المؤتمرين لا يساندون حزباً بعينه لكنهم يعتبرون حظر الحزب الشيوعي إجراء غير ديمقراطي، ومن المحتمل أن يقود إلى حظر منظمات سياسية أخرى، وقرر المؤتمر أيضاً تأسيس هيئة دائمة عرفت باسم المؤتمر الوطني للدفاع عن الحريات .
طيلة المدة المنصرمة، كانت رغبة حزب الشعب الديمقراطي إحلال حكومة وطنية محل الائتلاف القائم بين حزبين لم يثق بهما، وأكد الحزب في 10 نيسان/ابريل على دعوته وهي أن الحكومة الوطنية تمثل المخرج الوحيد للبلاد من المأزق الحالي الذي يجد السودان نفسه فيه، وقد وافقت الحكومة على هذه الدعوة شرط مشاركة حزب الشعب الديمقراطي، الذي كان مصراً على حل البرلمان قبل المشاركة في الحكومة الوطنية المزمع تشكيلها .
والسؤال: هل كان ذلك تخطيطاً لخلط الأوراق أو شاءت الصدف، تزامن المناورات الحزبية باتجاه تشكيل حكومة وطنية مع إعلان الحكومة أن انتخابات تكميلية في الجنوب ستبدأ في يوم 7 آذار/مارس عام 1967، فكان رد فعل السيد محمد عثمان الميرغني، هو أن مشكلة الجنوب هي التي أوجدت الانقلاب العسكري السابق، وعدم التقدم في وضع دستور دائم، وحلها هو الحل الوحيد لمشاكل البلاد الأساسية .
ولغرض كشف جوهر نوايا الحزب الوطني الاتحادي وحزب الأمة من اقتراح تشكيل حكومة وطنية، أعلن علي عبد الرحمن أن المحادثات الجارية بين حزبه والأحزاب الحاكمة حول المصالح الوطنية لم تنجح، وأن حزبه لن يغير موقفه من عدم "شرعية البرلمان" القائم، وسيتم تبني وسائل أكثر عدوانية للإطاحة بالحكومة القائمة .
ولغرض تفنيد تصريحات علي عبد الرحمن ولإسكات صوت المعارضة خارج البرلمان، بادرت الحكومة بتكليف مبارك شداد – المتحدث باسم البرلمان – لغرض التفاوض مع السيد محمد عثمان، طالباً منه إبلاغ السيد علي الميرغني رغبة الحكومة في وجوب مشاركة حزبه في لجنة وضع الدستور. ورداً على ذلك صرح علي عبد الرحمن ثانية أنه في شك من نوايا أحزاب الائتلاف، لأنه خلال اجتماعه معهم استنتج ببساطة أن هدفهم مناورة سياسية مخطط لها لغرض إطالة عمر الحكومة وإسكات صوت المعارضة، وعلى أية حال، استمر حزب الشعب الديمقراطي في إطلاق تصريحاته المنادية بسقوط الحكومة إلى أن حان وقت سقوطها فعلاً.
إن الذي قاد إلى سقوط الحكومة بالدرجة الأولى، هو الذي حصل داخل قيادة حزب الأمة وليس لأسباب أخرى، فأحد الجناحين بزعامة الإمام الهادي ساند محمد أحمد محجوب، والجناح الآخر بزعامة السيد الصادق ابن أخي الهادي، وعلى خلفية هذا الانقسام، في تموز/يوليو عام 1966، قدم عضو حزب الأمة من جناح الصادق في البرلمان مشروع قرار عدم الثقة في رئيس الوزراء، وقد تم تبني المشروع فاستقال رئيس الوزراء، وبدأ إسماعيل الأزهري فوراً محادثاته مع السيد الصادق وشكلا معاً حكومة ائتلافية جديدة اقتصرت المشاركة فيها على الحزب الوطني الاتحادي وحزب الأمة، فأصبح الصادق نفسه رئيساً للوزراء .
الحكومة الائتلافية الثالثة:
بسبب الموازنات السياسية في السودان التي لا تخلو من المناورات، قام السيد الصادق في شهر آب/اغسطس بزيارة السيد علي الميرغني وأطلعه على رغبة الحكومة في ضم الصف الوطني مقدمة لإنجاز الدستور على أسس وطنية متينة، وكانت هذه مبادرة لا تخلو من تقديم إشارة لإسماعيل الأزهري بأنه حتى بعد انشقاق حزب الأمة فإن الصادق لم يكن وحده في الساحة السياسية.
وبعد ثلاثة أشهر أي في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1966، اقترحت حكومة الصادق تشكيل اللجنة الوطنية للدستور، التي طال انتظارها، ودعت جميع الأحزاب إلى المشاركة، فكان رد فعل على عبد الرحمن سريعاً، عندما أعلن فوراً أن حزبه سيقاطع الاقتراح، وهذا الإعلان الذي أعطى الدليل القاطع على أن قيادة الحزب لم تتعلم من تجاربها السابقة في مقاطعة الانتخابات لعام 1965، وعلى الرغم من هذا الموقف، لم تتمكن الحكومة من تجاهل مشاركة حزب الشعب الديمقراطي الذي يمثل جمهوراً واسعاً في البلاد، مما أضطر وزير العدل، في الشهر نفسه، أن يصرح أنه ما يزال يأمل في انضمام حزب الشعب الديمقراطي إلى لجنة الدستور .
ونتيجة لفشل الجهود الهادفة إلى إقناع حزب الشعب الديمقراطي في المشاركة في لجنة الدستور، اضطرت الحكومة إلى الإعلان عن تشكيل اللجنة في 11 كانون الأول/ديسمبر عام 1966، وتكونت من ممثلي الأحزاب المشاركة في الحكومة فضلاً عن ممثلين عن أحزاب الجنوب، على الرغم من التوقع الواسع الانتشار بأن ائتلاف الأحزاب الحاكمة تواجه خطر الانهيار، ولهذا أصدر زعماؤه بياناً مشتركاً مفاده أنه لا يمكن تصور حدوث تغيير في ائتلافهما .
لم تهدأ الأمور حتى عام 1967، وفي محاولة ترقيعية، تم عقد سلسلة من المناقشات في شهر كانون الثاني/يناير، جمعت حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي، ليروا فيما إذا كان بالإمكان الاتفاق حول تحديد موعد الانتخابات التكميلية في الجنوب، ولقد أعرب حزب الأمة عن معارضته للتأجيل المطلوب من قبل حزب الشعب الديمقراطي، في حين لم يكن الحزب الوطني الاتحادي، بالرغم من أنه يفضل التأجيل، قادراً على البوح برغبته لأنه كان قد اتفق سابقاً مع حزب الأمة على توقيت إجرائها، ولإصرار حزب الشعب الديمقراطي على وجهة نظره، انتهت المناقشات دون التوصل إلى حل يرضي كافة الأطراف .
مع أن إسماعيل الأزهري شخصياً كان راغباً في الموافقة على طلب حزب الشعب الديمقراطي في التأجيل لاعتقاده أن نتائج الانتخابات في الجنوب ستكون لصالح حزب الأمة، لكن الخوف من ضياع السلطة دفعه للسكوت، ومع ذلك جرت الانتخابات التكميلية قدماً حسب الجدول المعلن لها، ولم يقاطعها حزب الشعب الديمقراطي بحسب بل الجبهة الجنوبية أيضاً، فكانت النتيجة انتخاب ست وثلاثين عضواً من جماعات جنوبية أخرى .
ونتيجة لفقدان الانسجام والتماسك داخل مجلس الوزراء، خسر الصادق تصويتاً بالثقة على الحكومة في البرلمان في 15 مارس وسقطت الحكومة، وأعلن الأزهري، رئيس مجلس السيادة، أنه عندما تنتهي مدة البرلمان في حزيران/يونيه يجب أن تشكل حكومة وطنية تضم مع الأحزاب الأخرى حزب الشعب الديمقراطي فكان هذا تكتيكاً سريعاً أقدم عليه الأزهري، ورحب به علي عبد الرحمن، إلا أنه أعاد التأكيد على شرطه السابق بحل البرلمان، ووجوب تمثيل حزب الشعب الديمقراطي في الحكومة الوطنية بعدد من الوزراء مساو لعدد وزراء الحزبين الآخرين، وبعد دعوته هذه أجرى الأزهري اتصالاً مع الإمام الهادي، وفي الوقت ذاته قام الإمام الهادي بزيارة السيد علي الميرغني وناقشا معاً موضوع تشكيل الحكومة المقترحة .
كان تكتيك الإمام الهادي الذي قام به ناجحاً، لإيجاد مبررات أخرجت حزب الشعب الديمقراطي من عنق الزجاجة، التي وضع نفسه فيها، حيث تم صياغة ميثاق وطني بعناية فائقة جاء فيه أن البرلمان سيحل في حزيران/يونيه، وأن انتخابات عامة ستجرى قبل نهاية كانون الثاني/يناير عام 1968. هذه العبارات طالما طالب بها حزب الشعب الديمقراطي شرطاً للمشاركة في حكومة وطنية، وعلى ضوء بنود الميثاق أعلن حزب الشعب الديمقراطي أنه سيشارك في الحكومة المزمع تشكيلها للتوترات الحاصلة بسبب قضية فلسطين، وأنه يرغب في حمل المسئولية مع الآخرين في الحكم حتى إجراء الانتخابات العامة. وهكذا تم التوصل إلى اتفاق حول تشكيل الحكومة الوطنية التي كانت مكاناً للمناورات السياسية، فأصبح محمد أحمد محجوب رئيساً للوزراء للمرة الثانية، وشكل وزارته في 18 مايو عام 1967، وضمت الوزارة أربعة أعضاء من حزب الأمة جناح الإمام، وأربعة أعضاء من الحزب الوطني الاتحادي، وأربعة أعضاء من حزب الشعب الديمقراطي، وعضوين من الجنوب .
وقد تشكل مجلس الوزراء الائتلافي الرابع، والمناورات الحزبية من أجل السلطة لم تنته، وفي تشرين الأول/اكتوبر عام 1967، كان هناك توقع في الصحف بأن الأزهري يجري مباحثات سرية مع السيد الصادق ساعياُ من ورائها التعاون مع جناحه من حزب الأمة، وأوضحت الصحيفة أنها خطوة من الأزهري للضغط على حزب الشعب الديمقراطي من أجل تحقيق مشروع سابق لغرض الاندماج مع حزبه ووفق شروطه، وليوضح للإمام الهادي أن تحالفه في الحكومة مسألة يمكن أن يعاد النظر فيها، وذلك لإبقاء الباب مشرعة أمام جناح السيد الصادق المنافس له في حزب الأمة. وكان رد فعل السيد علي الميرغني على تحركات الأزهري، أن دعا الإمام الهادي إلى منزله في الإسكندرية، ثم ناقشا تكتيكات الأزهري التي قد تعرض البلاد للخطر.
المناورات الأخيرة قبل الإطاحة بالديمقراطية:
بعد ثورة تشرين الأول/اكتوبر عام 1964، حاول حزب الشعب الديمقراطي التقارب مع الحزب الوطني الاتحادي لكنه لم يلق استجابة. والمتطلع للأمور السياسية السودانية، يدرك جلياً مبررات محاولات التقارب بين الحزبين المذكورين ومنها: 1) خوف مشترك من هيمنة مهدية على السلطة، 2) حاجة الحزب الوطني الاتحادي لتأييد القاعدة العريضة التي تملكها الختمية وحزبها، 3) وجدت الختمية في الاندماج الوسيلة الناجعة لاستعادة نفوذها السياسي المفقود .
وما من شك أن حزب الشعب الديمقراطي عمل جاهداً لاستغلال كافة التوترات بين الأحزاب الحاكمة لصالحه، حتى إن الحزب ناشد الاندماج مع الحزب الوطني الاتحادي مما أزعج حزب الأمة، وعندما أراد على عبد الرحمن إغاظة الأزهري وإحراجه أعلن في القاهرة في تشرين الأول/اكتوبر عام 1966 ، أنه ناقش حزب الأمة جناح الصادق الشروط التي قد يشارك على ضوئها في الحكومة، وعندما أحس السيد علي الميرغني خطورة الموقف السياسي لحزبه طلب من قادة حزبي الوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي ضرورة الإسراع في اتخاذ خطوات جادة لدمج حزبيهما من أجل التوصل إلى اتفاق حول القضايا السياسية الراهنة ومنها دستور البلاد، ومهما تكن دوافع وأغراض التصريحات العلنية فقد انتهت السنة دون إحراز تقدم حول دمج الحزبين.
وأخيراً وافق الأزهري على اندماج الحزبين شرط أن يوافق السيد علي الميرغني لترشيحه رئيساً للجمهورية، وكوسيلة لتجريد المهديين مسبقاً من الهيمنة، وافق الميرغني على شروط الأزهري، لإدراكه أن النظام الرئاسي لا مفر منه، وأن الأزهري سيكون أقل تهديداً من القوى الأخرى لنفوذ أسرة الميرغني .
وقد تعززت ثقة الأزهري أكثر عندما أعلن تأييده للتوجه الذي تقدمت به لجنة الدستور الوطني من أجل تعيين رئيس دولة، وفجأة في 18 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1967 أعلن حزب الشعب الديمقراطي أنه تخلى عن كل الشروط التي كان يطلبها لدمج حزبهم مع الوطني الاتحادي، وفي 12 كانون أول/ديسمبر صدر إعلان اندماج الحزبين تحت اسم الحزب الاتحادي الديمقراطي، واختيار الأزهري رئيساً للحزب وعلي عبد الرحمن نائباً للرئيس وأحمد سيد محمد سكرتيراً عاماً .
إن أهم تحدٍ واجه الحزب الجديد – بعد وفاة السيد علي الميرغني في 22 شباط/فبراير 1968 – هو إجراء الانتخابات العامة، والتي يمكن رؤيتها من خلال نتيجة الانتخابات، حيث فاز الحزب الاتحادي الديمقراطي ب 101 مقعد من أصل 218 مقعد في البرلمان، والنتيجة الأخرى هي ضعف حزب الأمة المنقسم على نفسه، والذي كانت مقاعده الستة والستون موزعة بين جناحيه المتنافسين، 36 لجناح الإمام و 30 لجناح الصادق .
لم تكن نشوة فوز الحزب الاتحادي الديمقراطي إلا خيبة أمل لعلي عبد الرحمن وذلك لعدم استطاعته الحصول على منصب رئيس الوزراء الذي كان يصبو إليه بسبب العداء الشخصي للشخصيات المهمة من الحرس القديم في الحزب الوطني الاتحادي، وعدم اتفاق الحزبين المندمجين على دقائق الواجبات فيما بينهما، وهذه النقاط مجتمعة مكنت الإمام الهادي من تعزيز مركزه، بالرغم من الأقلية التي بحوزته في البرلمان، إلا أنه كان قادراً على الثبات والمطالبة بخمس حقائب وزارية بما فيها رئاسة الوزراء.
على أية حال، بعد أسبوع من المناورات الشخصية تشكلت حكومة ائتلافية من الحزب الاتحادي الديمقراطي مع حزب الأمة جناح الإمام الهادي، حيث حصل الأخير على مطلبه وهو أربع حقائب وزارية فضلاً عن منصب رئيس الوزراء، الذي عهد به إلى محمد أحمد محجوب، مع تقديم تسع حقائب وزارية إلى الحزب الاتحادي الديمقراطي، وبقى الأزهري رئيساً لمجلس السيادة .
الائتلاف الجديد لم يكن أكثر عافية مما قبله، والملاحظة المحزنة هي عجز السياسيين عن التصدي لمشاكل البلاد العديدة، حيث بدا أن المسألة الوحيدة التي تشغل اهتمام الحكومة هي قضية ما إذا كان النظام الحكومي سيصبح رئاسياً أم برلمانياً، وحتى الحزب الاتحادي الديمقراطي لم يكن داخلياً متفقاً على هذه المسألة. فأولئك الذين يمثلون علي عبد الرحمن يؤيدون نظاماً برلمانياً، بينما مجموعة الحزب القديمة تدعمهم طموحات الأزهري الرئاسية، وفي الجانب الآخر علي الرغم من أن جناحي حزب الأمة لا يزالان على طرفي نقيض في جوانب عديدة فإن كلاهما يفضل نظاماً رئاسياً .
لقد فشلت جهود علي عبد الرحمن في محاولة إقناع الإمام الهادي بأن مصلحة السودان تكمن في تبني نظام برلماني صارم، زد على ذلك أن تولي السيد محمد عثمان زعامة الختمية حديثاً جعلته لا يشعر بالثقة الكافية ليعمل بوضوح إلى جانب قيام نظام برلماني ضد الخيار الآخر .
وفي قيادة حزب الأمة كان أمر المناورات السياسية أصعب، حيث كان محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء، في موقف صعب، حيث توصل رؤساء جناحي حزب الأمة إلى الاتفاق الآتي: يجب على الإمام المهدي أن يعمل للحصول على الرئاسة لنفسه والصادق لرئاسة الوزراء، فكان هذا الاتفاق صفعة قوية لرئيس الوزراء – الذي نذر حياته لخدمة حزب الأمة – ففي 24 نيسان/ابريل قدم استقالته، لكن تدخل الإمام الهادي والسيد محمد عثمان وإسماعيل الأزهري لإقناعه بالبقاء إلى حين .
وقبل أن تنجح محاولة توحيد جناحي حزب الأمة، صرح الصادق أن التعاون مع الحزب الاتحادي الديمقراطي مستحيل، ولتهدئة مخاوف الحزب الاتحادي صرح الإمام الهادي بأن الائتلاف القائم سيستمر حتى تحقيق أهدافه، بإقرار دستور دائم وانتخاب رئيس جمهورية، ولا توجد ضرورة لعمل أي تغيير في الحكومة القائمة .
ومهما يكن من أمر فقد استمرت جميع أبواب المناورات حول صيغة نظام الحكم مشرعة حتى 23 مايو حيث توصلت الأحزاب الحاكمة إلى تسوية مبهمة نصت على: 1) أن الدستور يجب أن يكون إسلامياً وأن نصه سيصاغ خلال ستة أشهر، 2) أن انتخابات الرئاسة ستبدأ في بداية عام 1970، 3) إعلان الأزهري مرشحاً للرئاسة عن الحزب الاتحادي الديمقراطي والإمام الهادي عن حزب الأمة .
ومرة أخرى لم يتخذ السياسيون خطوة لحل مشاكل البلاد الحقيقية، لهذا أجهضت الديمقراطية في 25 مايو عام 1969، بقيادة اللواء محمد جعفر نميري، عندما قاد العسكر واستولى على السلطة في البلاد، ولا يلوم السياسيون سوى أنفسهم لإعادة الحكم العسكري وفشل تجربة السودان الثانية في الديمقراطية.
من خلال البحث تم التوصل إلى نتائج عدة أبرزها: أن طيلة المدة من عام 1964 وحتى عام 1969 لم يتمكن قادة الأحزاب السياسية من اتخاذ خطوات جذرية لحل مشكلات البلاد الحقيقية، مع فقدان الثقة بين قادة الأحزاب المتحالفة لإدارة جميع الحكومات خلال فترة البحث، والشيء المهم والأكثر وضوحاً عدم إمكانية حكم السودان من قبل طائفة أو حزب سياسي وحده مهما تمتع من سند عسكري أو دعم مادي داخلي أو خارجي.
+++++
أ. د. ظاهر جاسم محمد الدوري/ العراق
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.