تتجلى في شهر رمضان كل معاني التعبد العظيمة للشخص المسلم، وكذلك الأحداث العظام إذا كانت من فعل أيدينا أو بما يجتره القدر... فذاكرة السياسة السودانية تحفظ الكثير من الأحداث التي وقعت في شهر رمضان، ومثلت نقاطا فارقة في مسار الدولة، وامتد تأثيرها حتى أصبحت وقائع في تاريخ صفحة الوطن... وظل أثرها باقيا في الوجدان السوداني... ففي إحدى أمسيات شهر أبريل 1990م وفي عشية عيد الفطر المبارك، قام النظام الحاكم "الإنقاذ" باعتقال عدد من الضباط العاملين وبعض المتقاعدين من القوات المسلحة، ووجهت لهم تهمة التآمر للقيام بانقلاب عسكري للإطاحة بالحكومة بعد واقعة 28 رمضان، اعتقل بعضهم من منازلهم وبعضهم كان رهن الاعتقال التحفظي، وتم نقلهم جميعا إلى السجن العسكري بمدينة أم درمان.. وفوجئ الشعب بنبأ عبر أجهزة الإعلام لخص في جملة واحدة أن الضباط المعنيين قد اتهموا بتدبير محاولة لقلب نظام الحكم، وقدموا لمحاكمة عسكرية أدانتهم، وحكمت على ثمانية وعشرين منهم بالإعدام، والسلطة المؤيدة، رئيس مجلس قيادة الثورة، صدق على الأحكام، والحكم قد نفذ بحقهم رميا بالرصاص. وبالطبع فإن الواقعة كان لها أثرها في حينها وامتد حتى الآن كمأساة في التاريخ السياسي في شهر يحرم فيه القتل. فيما يمثل الرابع من رمضان في كل عام، ذكرى عصية على النسيان، في أذهان السودانيين بشكل عام والإسلاميين بوجه خاص، ففي مثل ذاك اليوم ظهر الرئيس عمر البشير على التلفزيون بالبزة العسكرية وأعلن انتهاء أجل المجلس الوطني الذي كان يرأسه د. حسن الترابي، كما قرر إعلان حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد، لمدة ثلاثة أشهر، وتعليق مواد من الدستور متصلة في الأساس بكيفية اختيار الولاة، وشكلت تلك الإجراءات إعلانا رسميا للمفاصلة بين الذين اختاروا البقاء في السلطة ودعم المشير البشير، والآخرين الذين ارتأوا مساندة الفكرة التي يحملها شيخهم الترابي، ووصف البشير وقتها ذلك الإجراء، بأنه استعادة "لهيبة السلطة"، وقال إن "سفينة البلاد لا يمكن أن يقودها قبطانان". ردّ الدكتور حسن الترابي واعتبر هذه القرارات، "انقلابا عسكريا"، ورأى أن البشير خان التنظيم السياسي الذي أعطاه ثقته، وانتهك بشكل فاضح الديمقراطية والحرّيات الواردة في الدستور... وأظهرت تلك المفاصلة العديد من المواقف التي كانت خافية طيلة السنوات التي كان الترابي فيها عنصرا أساسيا لحكم الإنقاذ سواء على المستوى المحلي أو العالمي، واعتبر القيادي بحزب المؤتمر الشعبي كمال عمر في تصريح ل(الأخبار) أن أثار المفاصلة ما زالت موجودة وأن شهر رمضان يجدد معاني المفاصلة وإدراك طبيعة الأزمة، وأن الأيام أثبتت أن الصراع مفصلي في قضايا فكرية ويجدد للأذهان كيفية حكم السودان، ومدى أهمية إعادة جانب الحريات والطهر والشورى إلى ثنايا الحكم... ورغم الحيثيات التي صاغها كل من الطرفين، إلا أن الحادثة تعد من أكثر القضايا التي أثرت في تاريخ السودان الحديث والتي لا زال تأثيرها مستمرا في شكل السياسية في السودان. لا يستطيع المتابع لمسيرة رمضان في ذاكرة السياسة أن يغفل اتفاق سلام الشرق بين الحكومة وجبهة الشرق، الذي تم توقيعه في رمضان من العام 2006م، وكان لذلك الاتفاق أهمية في وقف أعمال العنف المسلح التى شهدها الإقليم منذ 12 عاما، وقد تم توقيع الاتفاق في إريتريا، التي كانت بمثابة الوسيط الرئيسي بين الجانبين... وقد أثار هذا الاتفاق عدة تساؤلات بشأن توقيته، والأسباب الدافعة لتوقيعه، وأهم بنوده، وأبرز الملاحظات بشأنه، ومدى مساهمته في إنهاء الأزمة في الإقليم، وقد تجمعت مجموعة من الأسباب دفعت الحكومة إلى التسريع بالتوصل إلى الاتفاق، مقارنة باتفاق نيفاشا الذي وقعته مع الحركة الشعبية لتحرير السودان (يناير 2005م)... ويرى المحلل السياسي د. إبراهيم ميرغني أن الآثار الباقية لتلك الواقعة هي إنشاء صندوق تنمية شرق السودان نتيجة للمؤتمر الذي عقد في الكويت والذي جمع ما يقارب 4 مليارات دولار تكفلت بعض الدول بها، منها الكويت، لكن حتى هذا الانجاز وجد خلافات حوله بين جبهة الشرق والحكومة السودانية، فالحكومة الإريترية ترى أن تحظى بالأولوية في المشاريع القريبة من دولتها، وبالتالي دخلت إريتريا طرفا بين الحكومة وجبهة الشرق من جهة، وبين جبهة الشرق والدول المانحة من جهة. في صباح العاشر من رمضان فوجئ الشعب السوداني باحتراق الباخرة المصرية العاشر من رمضان التي يصل عدد ركابها إلى حوالي 750 راكبا معظمهم من السودانيين بينهم وزير المعارف حينها عمر مصطفى المك، وكانت على متنها رحلة علمية لطالبات مدرسة الجريف شرق مكونة من حوالي 50 طالبة جميعهن لقين حتفهن في الحادث، وبينهم من ذهب في رحلة للعلاج والبعض الآخر للتجارة وغيرها.... عدد المتوفين في الحادث بلغ حوالي 350 راكبا.. بينما نجا حوالي 300 راكب... بعد سبعة وعشرين عاما قام محاميان مصريان من أسوان هما الأستاذ كمال محمد موسى والأستاذ محمد حسن خليل برفع دعوى تعويض لأسر ضحايا الباخرة، وأيضا لكل من نجا وفقد أمتعته وأمواله في يوم 25/5/1983م.. ورد خبر في صحيفة (الأيام) تحت عنوان "غرق الباخرة "10" رمضان وإنقاذ (250) من الركاب والحملات مستمرة" مفاده أن مديرية أمن أسوان تلقت بلاغا من أمن الموانئ بمدينة (أبو سمبل) يفيد بأن الباخرة (10) رمضان التابعة لهيئة (وادي النيل) للملاحة النهرية قد اندلعت فيها النيران في الثالثة والربع من فجر أمس على بعد عشرة كيلومترات جنوبي مدينة (أبو سمبل). وقد تم إنقاذ (500) من ركاب الباخرة المحترقة. كما تم نقل عدد من الركاب المصابين والجرحى إلى مستشفى أبو سمبل وتم انتشال عدد من الجثث. لكن هذه الحادثة تزامنت مع زيارة تاريخية أجراها حينها الرئيس المصري محمد حسني مبارك إلى الخرطوم... ويقول الخبر إن الرئيس جعفر النميري قد وجه بمواراة جثث ضحايا حادث غرق الباخرة (10) رمضان، وفي الثلاثين من مايو 1983م تلقى وزير النقل والمواصلات اللواء خالد عباس تقريرا شفهيا عن سير التحقيق الفني الذي أجراه مهندسون مصريون حول كارثة الباخرة (10) رمضان.. هذه بعض الحوادث التي حدثت في رمضان واتصلت بالسياسة السودانية من التي استطعنا حصرها. ويبقى أن نقول إن الشهر الفضيل لم تكن له حرمة في مجريات الصراع السياسي والمسار العام للأحداث السياسية في البلاد. الاخبار