سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حرب دارفور محطة في سياسة استعمارية مديدة..استمرار الحرب الاهلية في دارفور واقتراب الجنوب من لحظة الانفصال النهائي واستمرار الازمات السياسية التي تطحن السودان عموماً، ما هي الا اعلان مدو عن فشل الدولة السودانية
تتوالى الازمات السياسية التي تعصف بالسودان، في وقت تبقى الحروب الاهلية الباردة حيناً والساخنة قي اغلب الاحيان، الثابت الرئيسي الذي يحكم تطور الاحداث في هذا البلد العربي المترامي الاطراف، الهائل الثروة والمتعدد الاعراق والاديان والاثنيات، مما يجعله نموذجاً مثالياً للاشكاليات المختلفة التي تواجهها مجمل البلدان العربية، ومؤشراً لاتجاهات حل هذه الاشكاليات، اما باقامة وحدة على قاعدة احترام التنوع، او السير الحثيث نحو الانقسام والشرذمة، والبقاء ساحات مفتوحة لمختلف مشاريع النفوذ والهيمنة الدولية والاقليمية الى امد غير منظور، وانتاج المزيد من عناصر التخلف على كافة المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. يبدو هذا الامر جلياً من خلال التفاقم المستمر في الاوضاع السياسية الداخلية التي يعيشها السودان، وانتقالها من محطة الى اخرى اكثر سوءاً، حيث شكلت مذكرة التوقيف الصادرة عن المدعي العام للمحكمة الدولية بحق الرئيس السوداني عمر احمد البشير بتهمة الابادة الجماعية، ذروة انكشاف هذا البلد امام التدخل الدولي، واعادة تأجيج نار الحرب الاهلية في دارفور، وتعزيز خيار الانفصال النهائي للجنوب. اراد عمر احمد البشير الرد على المذكرة الصادرة بحقه عبر الانتخابات الاخيرة التي اعادته الى سدة الرئاسة، والتي بدلا من ان تشكل مناسبة للبدء في نزع فتيل الازمات المتعددة التي يعيشها السودان، اعادت تسعير نار التمرد مجددا في دارفور، وزادت الاحتقان السياسي في الداخل النهري، وجعلت انفصال الجنوب "قاب قوسين" من التحقق. يرى الدكتور محمود ممداني في كتابه دارفور منقذون وناجون: السياسة والحرب على الارهاب، الذي يعالج الابعاد المختلفة لأزمة دارفور، بأن الحرب الاهلية التي تدور رحاها في هذا الجزء الحيوي من السودان، ما هي الا محطة في سياسة استعمارية خضع لها السودان منذ فترة الحكم البريطاني المباشر، وصولاً الى السياسة الاميركية التي ادارها المحافظون الجدد خلال عهد جورج بوش الابن، وقامت على احداث الفوضى البناءة والتدخل المباشر واعادة تركيب السلطة في البلاد والمناطق المستهدفة. ويحاول الكاتب عبر الفصول الثمانية التي يضمها الكتاب بين دفتيه، تقديم الكثير من الارقام والبراهين والوقائع التي تثبت الاستنتاجات التي توصل اليها، اي اعتبار ما يحصل في دارفور نوعاً من التوظيف الاستعماري الغربي عموماً، والاميركي على وجه الخصوص، بهدف وضع اليد على السودان. ويسعى الى تقديم رؤية متكاملة لمجموع الاسباب التي ادت الى اندلاع الحرب الاهلية في دارفور، بدءاً بالازمة البيئية والجفاف الذي ضرب المنطقة ووقوعها على تماس مع التشاد التي تعيش حرباً اهلية على مدى اربعة عقود، مما دفع الى عسكرة القبائل في دارفور وارتكاب الجماعات المتمردة جرائم عدة، ولكن د. ممداني يغلب العنصر التآمري الغربي والاميركي خصوصاً على تصوير ما يحصل كابادة جماعية، وتحميل مسؤولية ذلك للحكومة السودانية، وهو ما يفضح السياسة الاميركية التي لا تتحرك في العمق الا وفقاً لمصالحها وتستند الى نفس القراءة الاستعمارية القديمة، باعتبار ان تاريخ السودان يقوم على اجتياحه من قبل العنصر العربي وذلك على حساب السكان الافارقة الاصليين. يساجل د. ممداني ضد هذه الرؤية الاستعمارية الغربية من خلال نموذج دارفور نفسها، مؤكداً بان دخول العرب الى السودان كان بصفتهم لاجئين اكثر منهم غزاة، وانتشار اللغة العربية لم يحصل الا لانها تحولت لغة ادارة الاعمال والقانون، ويقدم دليلاً على ذلك بان العرب في دارفور من الناحية الاقتصادية والاجتماعية هم بدو رحل ورعاة ماشية وابل، ويضيف بان العربية في السودان هي اقرب الى الهوية الثقافية منها الى السيطرة السلطوية، ويسوق دليلاً اخر لاثبات استنتاجه هذا بانه حتى الاسلام نفسه قد انتشر قي تلك البلاد على ايدي رجال صوفيين، عزز روح الاحساس بالاخوة والتكامل بين اعراق واثنيات الشعب السوداني، واذا كانت حركة انقاذ دارفور التي تأسست كحملة شعبية في الولاياتالمتحدة الاميركية وبتوجيه من الادارة الحكومية والاعلام وقامت على دعامة اساسية تعتبر ما يحصل في دارفور ابادة جماعية يقوم بها المستوطنون العرب ضد السكان الاصليين، وتواطؤ الحكومة السودانية حيال هذا الامر، فإن تاريخ دارفور كمعقل للدولة المهدية التي اسست لنشوء السودان الحديث، ومقاومة الاستعمار البريطاني يدعم وجهة نظر المؤلف الذي يرى بأن ما يحدث في دارفور هو بعيد تماماً عن اتخاذه هذا الطابع العنصري. لا شك بأن تسعير نار الحرب الاهلية في دارفور، واعطائها طابع الابادة الجماعية هي سياسة انتهجتها الولاياتالمتحدة الاميركية لاسباب تتعلق بمصالحها في السودان وشمال افريقيا، ولكن ما يجدر التوقف عنده هو ان الاسباب الداخلية تبقى "المطية" التي يتخذها الاستعمار الخارجي، وبدونها يستحيل عليه تحقيق اي هدف وهو ما حفلت به مرحلة ما بعد استقلال السودان، حيث ان استمرار الحرب الاهلية في دارفور واقتراب الجنوب من لحظة الانفصال النهائي واستمرار الازمات السياسية الاخرى التي تطحن السودان عموماً، ما هي الا اعلان مدو عن فشل الدولة السودانية في تجربة الديمقراطية والتنمية وبناء هوية وطنية واحدة، لانها تجربة تميزت باعتماد الانقلابات العسكرية والرد على مشكلة الاقليات بشمولية الافكار الاسلامية والماركسية من جهة، وفشل النظام الحالي برئاسة البشير في حل التناقضات التي يعيشها السودان من جهة اخرى، عندما جعل حكومته نفسها طرفاً في الحرب الاهلية المتواصلة، بدل ان يكون عنصر وحدة وحل للخلافات والازمات، وفق مبادئ الديمقراطية وتوزيع الثروة والتنمية المتوازنة في عموم السودان الغني بالثقافات والحضارات والثروات.