في خمسينيات القرن الماضي تم اكتشاف حقل ضخم للغاز الطبيعي في هولندا ادى استغلاله الى تدهور كبير في القطاع الصناعي مما أدى الى اختلال الاقتصاد الهولندي وجعل البلاد عرضة للصدمات الناجمة عن التقلبات في الأسعار العالمية للغاز الطبيعي. وبذا اصبحت هولندا مضرب المثل في دراسة ما يسمي بلعنة الموارد الطبيعية (natural resources curse). إذ إن العائد السريع من تصدير سلعة واحدة يؤدي الى اهمال القطاعات الاخرى ذات المنتجات القابلة للتصدير (traded goods sector ) مثل القطاعين الزراعي والصناعي. أيضا يؤدي الارتفاع في سعر صرف العملة المحلية، الناتج من بيع سلعة كالنفط، الى الجنوح للاستهلاك عبر الاستيراد وزيادة الطلب على السلع القابلة وغير القابلة للتصدير (مثل الخدمات والعقارات) (non-traded goods) .. والأخطر من ذلك ان تدفق المال من استغلال الموارد الطبيعية يؤدي الى اصابة متخذي القرار السياسي بقصر النظر وخلق طبقة من المتنفذين المستفيدين من الوضع القائم تقاوم الاصلاح مما يؤدي الى ترهل الجهاز الاداري للدولة ويتسبب في اضعاف مؤسساتها ولربما يؤدي الى انهيارها. عاني الانجليز من المرض الهولندي في ثمانينيات القرن العشرين عندما ارتفعت قيمة الجنيه الاسترليني نتيجة لاستغلال بترول بحر الشمال مما اضعف مقدرة صادرات بريطانيا على المنافسة وادى لتكنيها ب (رجل اوروبا المريض). وفي امريكا تجد أن ولايتي ليويزيانا (الغنية بالنفط) وتكساس (الغنية بالموارد الطبيعية) اقل كسبا من حيث مستوى دخل الفرد من ولايات اخرى قليلة الحظ من حيث الموارد الطبيعية. ايضا تجد دولاً مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان شحيحة الموارد ولكنها تبز وتتفوق على كثير من الدول من ناحية انتاجها الصناعي. ومن الجدير بالذكر ان الابحاث الاقتصادية الحديثة اتجهت الى توسيع مفهوم المرض الهولندي ليشمل تدفق الأموال على الدول بغض النظر عن مصدرها، اذ اصبح المرض الهولندي يستخدم في تفسير الآثار السالبة لتحويات أبناء الدول العاملين بالخارج والمعونات الخارجية. والسبيل الى تفادي المرض الهولندي (Dutch Disease ) هو فهم مسبباته وتوفير المعلومات لصانعي القرار السياسي لكي يعكفوا على التخطيط السليم لتنمية متوازنة تجعل من القطاعين الزراعي والصناعي يسيران حذو النعل بالنعل مع استغلال الموارد الطبيعية كالنفط. نعم يجب على صانعي القرار السياسي ان يتحلوا بالقوة والعزيمة في التصدي الى الطبقات الطفيلية القصيرة النظر. وان يضعوا مصلحة البلاد على المدى البعيد نصب أعينهم وان يعلموا أن دوام الحال من المحال. ومن المؤسف أننا في السودان وقعنا فريسة سهلة للمرض الهولندي، اذ ان البترول صار يشكل أكثر من (90% ) من صادراتنا وأدى ارتفاع سعر صرف العملة السودانية الى تحطيم القطاع الصناعي (إذ أن المستورد أرخص، مثلا سعر الجلابية السودانية المستوردة من الصين ارخص من المحاكة بواسطة ترزي في ام درمان). وقوة الجنيه السوداني هي أحد الأسباب التي جعلت البلاد جاذبة للعمالة الأجنبية. ومن المؤسف أن أغلب ساستنا ومخططينا الاقتصاديين لم يتخرجوا بعد من ما يسميه الخواجات بال ( the school of (hard knocks اي (مدرسة الضرب واللكمات الموجعة) او كما نقول بالعامية (الزول الما بيمشي عدل الا بعد ما يتخبط في راسو). فالحقيقة المرة هي ان سعر الجنيه السوداني مرتفع جداً وبصورة غير مبررة وهذه احدى رعصات المرض الهولندي ولو تمسكنا بالاصلاحات الجيدة التي أجراها عبدالرحيم حمدي في مجال التعامل بالنقد الأجنبي لنعمنا بجني قطوفها الدانية. فقوى السوق لا ترحم وغلبة الدين وقهر الرجال هما جائزتا الساسة الذين يتجاهلون ال (macroeconomics ) اي علم الإقتصاد الكلي. وأحسب أن تهراقا لو قام اليوم من مرقده لصعق من اصابة اقتصاد احفاده بالمرض الهولندي! ولعله يعلو ظهور جميعنا بالدرة. فقدماء السودانيين ابدعوا في مجال التعدين والصناعة ونقرات قليلة على موقع يوتيوب تكشف عن تقاعس الاحفاد عن اللحاق بمجد الأجداد. بقلم : محمد البخيت