أقرأ بشغف وتمعن كتابة فاطمة المرنيسي، الباحثة والمهتمة بموضوعات المرأة في التراث الإسلامي وفي الواقع المعاصر خاصة أوضاع النساء في وطنها المغرب. وأنا أتصفح كتابها:(هل أنتم محصنون ضد الحريم؟) طفرت الكثير من الأسئلة والأفكار إلى ذهني من شاكلة.. هل يوجد حريم في بلادنا اليوم؟ ما هو تاريخ الحريم في السودان؟ أشكاله تطوره وتجلياته الراهنة؟ فكرت في تاريخ الرق بأشكاله الواضحة والمستترة، وكيف أن أغلب الكتابات عن تاريخ الرق لم تتعمق في خصوصية أوضاع النساء "السراري" وكيف تطورت هذه المؤسسة في المناطق المختلفة في السودان، كما تساءلت مع فاطمة المرنيسي عن كيفية تجلي هارون الرشيد وحريمه في القرن الواحد والعشرين. لست هنا بصدد عرض فصول هذا الكتاب، بل أحاول مرافقة فاطمة المرنيسي وبكلماتها حول مفهوم الحريم، ذلك المصطلح الذي يثير حساسيتي المفرطة عند سماعه. هذا المصطلح الذي انحسر في أغلب المناطق إلى تسمية عنبر في مستشفى "عنبر الحريم" أو في بعض القوانين البائسة والتي تمنع سفر المرأة إلا "بمحرم" كما يذكرني بأحد أقاربي الذي لا يفوت أي سانحة أو مناسبة في الأهل لينتهر النساء اللائي يبذلن قصارى جهدهن في إعداد الطعام فيأتي هائجاً "يا حريم ما تطلعن الأكل ده الرجال جاعوا". وبحثت فاطمة المرنيسي في مفاهيم ومفردات:(الجارية والخادم والقينة والمحظية والغيشا والأَمَة)في مجتمعات شمال وجنوب البحر الأبيض المتوسط أي في أوربا ودول المغرب العربي تحديداً، وتطور تلك المفاهيم طوال ثلاثة قرون. أوضحت الكاتبة أن كل هذه المفاهيم تعود إلى حقبة تاريخية سحيقة كانت الأمم فيها تقوم على القوة العسكرية من غزوات وفتوحات، وما يخرج به المنتصر من غنائم بعد اغتصاب أملاك العدو بما فيها نساءهم. ركزت فاطمة المرنيسي على أن مفهوم ومصطلح "الحريم" يشمل المكان والنساء اللواتي يعشن فيه ويملكهن رجل واحد هو الحامي والسيد. إن حريم الحاكميِّن المسلميِّن هارون الرشيد رابع خليفة من سلالة بني العباس التي حكمت في القرن الثامن ومحمد الثاني "الفاتح" وهو سابع سلطان من السلالة العثمانية وحكم في القرن الخامس عشر يمثلان نموذجين للحريم بمعنى الكلمة. ولا غرابة أن يحل هارون الرشيد ضيف شرف في أذهاننا كلما خطرت ببالنا كلمة حريم، ذلك لأنه كان نقطة إلتقاء وانصهار لثلاثة عوامل مهمة ومرغوبة هي:(السلطة والثروة والمتعة) فهذا المثلث الساحر، بل وهذا المكان "الحريم" الذي ينصهر فيه الرخاء المادي والغبطة الجسدية مرتبط بدرجة كبيرة من الترف والعظمة. فالحريم لا يُؤِّمنَ المتعة إلا لشخص واحد أوحد هو السلطان، فهو الآمر الناهي وصاحب القرار والسلطة وكل رعاياه لا سيما النساء منهم مجرد أدوات. وليس من قبيل الصدفة أن الرجال القلائل الذين يدخلون الحريم هم الخصيان ، وتقضي مهمة الخصيان على التأكد من عدم وجود "ذكر" آخر في عالم الحريم غير السلطان. ولا غرو أن"المحظية" كانت تعاني بشدة وتصاب بالصدمة وقد تشارف الموت إذا انصرف عنها السلطان. وتضيف فاطمة المرنيسي إننا نعيد بناء الحريم التدميري حين نغامر في المتاهات المظلمة للانصهارات العاطفية، حيث نعطي للآخر سلطة تحديد ماهيتنا. لم يكتف هارون الرشيد بجواريه الألفين، بل كان أيضاً يعشق جواري غيره كما حدث مع دنانير جارية الخليفة يحي البرمكي. لقد كان الموقع الذليل للنساء في الحريم مرتبطاً بوفرة عددهن بالنسبة للسيد الأوحد بالإضافة إلى أن إمرأة الحريم لا تستطيع كسب عيشها لأن المال موجود في النطاق العام، في مجال الصفقات السياسية والتجارية ذلك ضمن عوامل أخرى حددث وضعها الاجتماعي. أما عن زبيدة الزوجة الأولى لهارون الرشيد فأشتهرت بأنها استخدمت أواني من الذهب الخالص والذي غنمه زوجها من غزواته، أي أن نصيب زبيدة كان الذهب ونصيب زوجها السبايا،وهذا يكشف البعد العسكري والقوة الهمجية والبطش والاستعباد لمؤسسة الحريم. وتستخلص فاطمة المرنيسي أن العلاقة بين الفتوحات العسكرية وتسخير الجواري لمتعة وخدمة السلطان ظلت سمة ثابتة في كل أنواع الحريم التركي والأغريقي والروماني. إن الكثير من المفاهيم السائدة اليوم مثل:(الفحولة والرجولة و"الرجالة") تعود إلى مثل تلك النماذج، والتي ما زالت تجد طريقها إلينا. حيث نجد ان أشهر المتاحف العالمية مثل متحف اللوفر يعرض لوحة "الحمام التركي" للفنان إنغز 1862، وكذلك لوحات الفنان الفرنسي ماتيس الذي لم يعبأ بالمتغيرات والثورة في بلاده، لأنه كان منهمكاً في رسم "المحظيات" اللائي يظهرن في لوحاته وحيدات في خدرهن ينتظرن فارس الأحلام، وقد اشترى متحف اللوكسمبورج في فرنسا لوحته "المحظية" ذات السروال الأحمر في مفارقة لحقيقة أن فرنسا ألغت العبودية عام 1794. لقد جمع ماتيس ثروته من الحمى الحريمية في زمن كان الركود الاقتصادي يجبر الناس على التقشف . هذا وقد استمرت الرغبة في لوحات الحريم لدى الأوربيين حتى القرن العشرين، فقد رسم بيكاسو حريمه عام 1905 ثم عاود الكرة عام 1955م حين رسم لوحته "نساء الجزائر". الشيء المؤكد أن ماتيس قد رسم الكثير من المحظيات في كل الأوضاع الممكنة والمعقولة، كما رسم غيره من الفنانين لوحات مماثلة وأحدثوا تأثيراً عميقاً في المتخيل العام والذوق والنزعات الرائجة لأنهم عرضوا "المحظية" و"الأمة الأسيرة" في سوق الفن على أنها مثال للأنوثة. وما زال نموذج الجمال هذا سائداً في الدعايات التجارية للعطور والأكسسوارات وعارضات الأزياء وملكات الجمال ودعايات كريمات التبييض وتجارة تخسيس الوزن فهن دائماً فتيات صغيرات نحيلات جداً بمظهرن التائه والهش وانفصالهن عن الواقع. بل إن الدور والمؤسسات التي تعيد إنتاج هذه الرؤية الجمالية كثيراً ما تضع النساء أمام الاختيار بين الجمال والذكاء كنقيضين، حتى أن ممثلة مثل مارلين مونرو ذكرت في مقابلة صحفية عام 1955م:(إن معركتي مع الاستديوهات لا تتعلق بالمال بل بحقوق الإنسان، لقد ضقت ذرعاً بأن يعرفني الناس بالمرأة التي تملك جسداً جميلاً ...سوف أثبت لهم إنني ممثلة جيدة). لقد شهدت أوربا قيام الأنظمة الديمقراطية القائمة على أساس حقوق الإنسان والمساواة والحوار بفضل الثورات وحركات التنوير والثورات المضادة، بينما كان أثرياءها ومثقفيها يشترون خفية لوحات وبطاقات تمثل الحريم تحت شعار الفن، مما دعا فاطمة المرنيسي لمخاطبتهم لا بأثر رجعي، بل في امتدادهم الحاضر: "تبادرون إلى الدفاع عن المساواة في البرلمان أو في الحزب أو النقابة، ثم تعودون في المساء لبيوتكم متوقعين نساءكم أن يقمن بتدليككم مثل نساء هارون الرشيد وأن يصغين دون مقاطعة إلى تأففكم من المتاعب التي صادفتموها خلال النهار. المهم أن تدركوا وجود مفارقة وخلل وأن تتوبوا إلى رشدكم وتمارسوا الرياضة الذهنية الضرورية لإحلال المساواة في حياتكم الزوجية). والحقيقة أن مؤسسة الجواري لم تكن ساكنة ولم يكن مستسلمات للدرجة التي رسخت في أذهان مشتري لوحات المحظيات، بل تمكن من أحداث ثورة أنتجت تغييراً جذرياً في طبيعة وتركيبة السلطة السياسية وحضارة الإمبراطورية الإسلامية. استطاعت ثورة الجواري إلغاء الطابع العربي للخلافة بحمل أبنائهن نصف الأعاجم إلى سدة الخلافة وذلك بفضل المتغيرات التي أحدثتها في توازن القوة بحكم قربهن من الخلفاء والسلاطين، الشيء الذي لم يفكر فيه أسيادهم أو الرسامين الذين استثمروا هشاشتهن واستسلامهن كما راؤها . محاولات العودة لعصر الحريم: إن حركة التاريخ لا تسير للخلف، ولكنها لا تتقدم في خط مستقيم، فوجود هارون الرشيد الكثيف بيننا له تجليات مختلفة، لكنها تشترك في الجوهر. فتعدد الزوجات وكثرة أنواع الزواج التقليدي منها والعرفي والمسيار والتراضي وزواج المتعة وزواج الجهاد وغيرها من المسميات ، كلها محاولات العودة إلى عصر الحريم بثوب جديد. أما زواج القاصرات من سن العاشرة والغموض المقصود حول سن المسؤولية الجنائية وسن الزواج كما جاء في المادة 40 من قانون الأحوال الشخصية 1991م. لتحقيق حلم سادة القرن الواحد والعشرين في زواج الطفلات هو امتداد طبيعي لما عكسته لوحات إنغز وماتيس فهن ايضاً صغيرات، تائهات ومستسلمات ، يسهل ترويضهن. إن العلاقات غير المتكافئة بين الزوج وزوجاته العديدات والقاصرات وانعدام الندية الذي يلازمها باستمرار، بالإضافة للاعتماد الكامل للزوجة على وضع زوجها الاجتماعي والاقتصادي تشكل الأساس للاستعباد والتحكم من قبل الرجل في مجمل حياة نسائه اللائي يلجأن في لا وعيهن لاستبطان القهر، فتتحول المرأة وبكل فخر إلى عارضة لثروات زوجها المادية بما تحمله من شحم ولحم وذهب وغالي الثياب وإتيكيت يليق بالمقام. موقف الدفاع عن حقوق المرأة ومساندة الحركة النسائية التقدمية يتطلب أن يرتقي الرجل بنفسه من نموذج هارون الرشيد ومواجهة الحلم الذكوري بالجارية التي تطيعه وتمتعه وترعاه وتكون عند اللزوم ولا تزعجه بمشاكل الصغار ولا احتياجات المنزل والأسرة ناهيك عن نفسها ..... أفيقوا يا هؤلاء. الميدان