المشكلة السودانية مشكلة مركبة ومعقدة كما يعلم الجميع ، ومن أسبابها الأساسية التي لا أعتقد أنها تخفى على أحد هو الضعف العام في بنية المجتمع السياسية والمدنية ، ضعف تشكيلات المجتمع المدني وضعف الأحزاب السياسية بصورة عامة، بالطبع استثمر النظام البائد كثيرا في هذا الضعف وعمق منه، في سبيل الاستئثار بالسلطة لأطول وقت ممكن بغض النظر عن التأثيرات الكارثية التي خلفها وسيظل يخلفها هذا الضعف، فمع غياب الحواضن المدنية المعبرة عن الجماهير تتقهقر المجتمعات لدوائر أصغر وأصغر لتعبر عن نفسها (القبيلة وخشم البيت والخ) ، فحتى الطائفة نفسها وهي مرحلة اكثر تقدما من القبيلة والتي كانت تسيطر على المشهد السياسي السوداني تاريخيا تراجع دورها تحت وطأة تأثير وسطوة القبيلة. مايحدث اليوم في شرق السودان هو في تقديري صراع سياسي في المقام الأول، ولكنه للأسف استخدم الأدوات المحرمة ، خطاب الكراهية وعداء الآخر، خطاب القبيلة والزج بها غصبا في حلبة السياسة خطأ فادح، قد يراه بعض الساسة طريقا سريعاً للسلطة ولكنه طريق سيعصف حتما بالمجتمع ولن يترك سلطة أو دولة أيا كانت لتُحكم. المسكوت عنه في السياسة السودانية ومايجب أن نخاطبه اليوم بصورة واضحة هو أن السياسة التي تستخدم القبيلة كأداة للكسب السياسي يجب أن تنتهي ، للمناطق وللأقاليم ولأطراف السودان قضايا حقيقية ومخاطبتها في غاية الأهمية ، ولكنها لايمكن أن تكون بأي حال من الأحوال قضايا قبلية ، كما أن استخدام القبيلة نفسه وكما شاهدنا بصورة متكررة وقبيحة حول السودان يهزم القضية نفسها ويخرجها من الجذور إلى القشور ، من أسئلة التنمية والسلام والمواطنة المتساوية إلى سؤال القبيلة العويص الذي يزيد من تشنج وتمترس الجميع بلا استثناء وبلا حلول أو أجوبة ، ولا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال استخدام القبيلة في السياسة وخطاب الكراهية وعداء الآخر أمرا اعتياديا ، وعلينا أن نضعه دائما وأبدا في سياقه الصحيح باعتباره عجز عن مخاطبة القضايا الحقيقية وردة هدفها تحقيق مكاسب وهمية وسريعة. أزمة التوزيع الغير عادل للسلطة والثروة في السودان، أزمة المواطنة غير المتساوية ، هي في أصلها نتيجة لعدم قدرة الدولة السودانية تاريخيا على إدارة التنوع السوداني بالصورة المطلوبة ، والجدير بالذكر هنا أن هذه الأزمة ليست هتافية تستخدم للاستقطاب والكسب السياسي إنما هي أزمة حقيقة وضخمة وإيجاد الحلول لها ليس مستحيلا ويمكن القول أن الدولة السودانية والقوى السياسية تاريخيا لم تعمل بصورة جادة من أجل ذلك الحل. فالترميز والتمثيل التضليلي واتفاقيات السلام المشوهة كل ذلك زاد من عمق الأزمة وتجذرها ولم يقدم أي حلول حقيقية ، فادارة التنوع اليوم مبحث أكاديمي وعلمي ، وله طرق وأدوات معروفة ومحددة ، كما أن التنوع وادارته كقضية سياسية لم يظهر فقط في السودان كبدعة بل يوجد حول العالم في كل مكان والتجارب موجودة ومفيدة، ولكن مجددا ضعف قوانا المدنية هو الذي حول أزمة كهذه إلى منصة للاستقطاب والكسب السياسي الانتهازي الجماعي وفي أحايين عديدة الفرداني المحدود. لا أعتقد أن هنالك واجب خلال هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الأمة السودانية أكثر إلحاحا من تأسيس وتقوية المجتمع المدني السوداني، عبره نستطيع حراسة المكاسب التي حققتها الأمة السودانية، ومن خلاله تتوحد المجتمعات حول أهداف مشتركة، يرفع وعيها ويملكها الأدوات والآليات لتحقيق آمالها وطموحاتها، وانخراط الشباب وقوى المجتمع الحية هو المفتاح لذلك، أن توجه طاقاتنا الجماعية في سبيل تنظيم الجماهير، حتى نسأل جماعيا الأسئلة الصحيحة ونُنتج معا الأجوبة المتفق عليها، ماسيمكننا من وضع اللبنات لبرنامج قومي سوداني جديد يؤمن به ويسعى إلى تحقيقه المجتمع ككل، لن يتم كل ذلك بدون أن نومن بضرورة استبدال المدرسة السياسية القديمة بالية الأدوات ، والمحبوسة في محاكمات وصراعات تاريخية فردية وجماعية لا تستطيع تجاوزها؛ القبلية السياسية والطائفية السياسية، الانتهازية، وصراع الأيدلوجيات العقائدية المتطرفة في اليمين واليسار، المجتمع الجديد وقواه الحية و الشبابية الضخمة هم من يقع على عاتقهم صناعة البدائل وتجاوز ذلك. محمد ناجي الأصم