الكثير من النقاش المشحون بالغضب الذي لا يخلو من الإثارة والمعلومات المضللة سيطر على الشارع السوداني عقب إعلان نتيجة القبول للجامعات والمعاهد السودانية للعام 2021م، فقد ساهمت وسائط التواصل الاجتماعي كالعادة في تحويل قضية فنية إلى مشكلة رأي عام قسّمتْ المجتمع إلى فريقين كما أنها زادت من حالة الغضب التي اجتاحت بعض الأسر السودانية بنشر المعلومات المضللة والأكاذيب مثل فرية قبول طالب ذكر في كلية الطب بجامعة الأحفاد وغيرها من الأخبار والاشاعات، الأمر الذي أدى للتشكيك في نتيجة القبول لهذا العام والتي ميزها ارتفاع نسبة القبول لعدد من الكليات ذات الجذب العالي خاصةً كليات الطب وطب الأسنان في الجامعات العتيدة مثل جامعة الخرطوم وجامعة الجزيرة، وسارع العديد من الناس إلى اتهام وزارة التعليم العالي وذراعها الفني (الإدارة العامة للقبول وتقويم وتوثيق الشهادات) بأنها أخفت سياسة القبول لهذا العام 2021م ومن ضمنها الأعداد المخطط لقبولها وزيادة نسبة القبول الخاص بالجامعات على حساب القبول العام، كما اتهم البعض اتفاقية جوبا للسلام وما أفضت إليه من تمييز إيجابي لطلاب إقليم دارفور بأنه السبب وراء ارتفاع نسبة القبول لهذا العام. وأنا هنا ليس بصدد الدفاع عن وزارة التعليم العالي ولا عن سياستها للقبول بقدر ما أحاول بيان مشكلة قديمة ومستفحلة ألمت بنظامنا التعليمي وظلت تنمو عبر السنوات الأخيرة حتى وصلت مرحلة الانفجار خلال هذا العام، ولعل الكثير من المختصين والمهتمين بالتعليم يدركون هذه المشكلة الخطيرة والمتمثلة في تحول التعليم في مدارسنا إلى نمط من التعليم القائم على تدريب الطلاب على حل الاختبار وبمعنى أدق تمرين الطلاب على أسئلة الامتحانات التي ظلت تتكرر لسنوات طويلة في العقدين الأخيرين، فلا يوجد تعلم حقيقي للمهارات وتنميتها في نظامنا التعليمي كما تخلو جميع الامتحانات القومية من وسيلة لتقييم هذه المهارات لأنها انحصرت في قياس المهارات العقلية الدنيا للطلاب مثل عملية الاسترجاع والتذكر وأهملت الجوانب الأخرى التي تقيس المهارات المعرفية العليا مثل التطبيق والتحليل التي اكتسبها الطالب من تعلمه، وقد نتج عن ذلك هذا التضخم الشاذ في الدرجات لنتيجة امتحانات الشهادة السودانية لهذا العام بل وتراكمها فقد أحرز أكثر من خمسة عشر ألف طالب وطالبة نسبة مئوية فاقت ال (90%) في اختبارات هذا العام، ولأن مخرجات التعليم العام هي مدخلات التعليم العالي ظهرت هذه المشكلة في التعليم العالي بانعكاسها الصارخ على نتيجة القبول لهذا العام، التي راح ضحية التقديم الخاطئ فيها أكثر من (2000 ) طالب ممن يعتبرهم المجتمع طلاب متميزين تحصلوا على نسب عالية، ومن الواضح أن المشكلة لا علاقة لها بسياسة القبول فقد أوضحت الإدارة العامة للقبول أن الأعداد المخطط لها للقبول للكليات ظلت ثابتة منذ العام 2017م كما أن سياسة القبول على النفقة الخاصة رغم تحفظنا عليها ليست وليدة هذا العام وهي ضرورة أملتها عجز الدولة عن توفير موارد مالية كافية للجامعات والكل يعلم ضعف ميزانية التعليم في بلادنا. ستتكرر هذه المشكلة سنوياً بل ربما تتفاقم أكثر إذا لم تقوم الجهات ذات العلاقة بمخاطبة جذورها والمتمثلة في اصلاح النظام التعليمي في مرحلة التعليم العام على وجه الخصوص بتبني نظام التعلم المعرفي القائم على تعلم المهارات وهذا هو الاتجاه الحديث في التربية والخروج بالشهادة السودانية من شرنقة أسئلة الاسترجاع والتكرار الممل إلى رحابة قياس نواتج التعلم الشامل بمهنية عالية وفق أهداف محددة يقف على اعدادها خبراء في مجالات التربية والعلوم المختلفة ولن يكون ذلك ممكناً إلا إذا تبدل حالنا المائل، وتغيرت نظرة ساستنا إلى التربية والتعليم وجعلها أولوية قصوى والإسراع بتبني سياسة إصلاح النظام التعليمي الحالي واعتباره هدف استراتيجي لبناء سودان جديد يمتلك أبنائه ناصية المعرفة التي تمكنهم من استثمار وإدارة موارده الطبيعية، ثقوا تماماً أن النجاعة ليست في الحلول الآنية واستخدام المسكنات على شاكلة زيادة الأعداد المخططة للقبول ولكنها بمخاطبة جذور المشكلة ومعالجتها على المدى الطويل وعدم تعجل النتائج.