سيظل الكتاب هو جوهر المعرفة مهما تعددت مصادرها، إن ظل الكتاب ورقياً أو تحول الى رقمي على شاشات الكمبيوترات والهواتف المحمولة وجهاز القارئ الإلكتروني "كيندل" في عصر تتغير فيه سريعاً المفاهيم والمعايير والمُثل، حتى تشابهت على الناس ملامح الصالح والطالح، واختلط عليهم معرفة ما هو سيء وما هو أسوء، حتى على مستوي الدول، عجز أهل التخصص في الشأن الدولي عن وضع نص توافقي يعرف الناس ما هو الإرهاب؟ ومن هو الإرهابي؟ حتى انساهم وباء "كرونا" مواصلة الجدل في الأمر!! والامثلة كثيرة ولكن، تبقي المعرفة على صفحات الكتب هي الجامع ما بين كل ما هو متفقٌ أو مختلفٌ عليه، وهي السر الكامن وراء تقدم الأمم وتحقيق نهضتها. "مهرجان القراءة للجميع" هو تجربة ثقافية مصرية تستحق ان نستلهم من نجاحاتها ما يمكننا من خلق واقع جديد للقراءة في السودان، ولد المهرجان في مطلع تسعينات القرن الماضي وولد من رحمه في العام 94 مشروع "مكتبة الأسرة" التي كانت أحد أبرز المشروعات الثقافية في عهد "مبارك" لتوفير الكتاب، ونشر الثقافة والوعي، بإتاحة أمهات الكتب والترجمات في شتى المجالات الإبداعية، والفكرية، والفلسفية وغيرها، وقد ساهمت جهات حكومية وخاصة في تمويلها، ومع انطلاق فعاليات "معرض القاهرة الدولي للكتاب" – الاضخم على مستوي الوطن العربي – يقبل الزائرون سنوياً على "مكتبة الأسرة" لاقتناء إصداراتها المتميزة التي تتنوع ما بين القديم والحديث بما تحمله من قيمة إبداعية وأدبية لكبار الكتاب والمبدعين بجانب الموسوعات التاريخية، والأميز دائماً بين الإصدارات ترجمات أمهات الكتب زهيدة السعر، وفي العام الخامس للمهرجان تم افتتاح مكتبات الشاطئ، والمكتبات المتنقلة، والمكتبة السمعية لفاقدي السمع، ليتحول "مهرجان القراءة للجميع" إلى أهم وأكبر مشروع ثقافي تشهده البلاد، ثم يحتفل بمرور خمسة عشر عاماً على بدئه وتنطلق مسابقة "أفضل قارئ" التي تهدف إلى تشجيع عادة القراءة، وتتواصل النجاحات، وفي خضمها تشتعل نار ثورة 25 يناير على نظام "مبارك" وتفتح ملفات الفساد المالي لقرينته "سوزان مبارك" التي كانت ترعى المهرجان ومكتبة الأسرة لتتوقف تلك الماكينة الثقافية المنتجة!! لكن رغم كل شائبة فساد في الأمر، لا ينكر حجم الإيجابيات التي حققتها "مكتبة الاسرة" على المستوي القطري، وعلى مستوي الدول العربية التي استفادة من كنوز المعرفة التي قدمتها مطبوعاتها، والتي كانت سنوياً عبر "معرض الخرطوم الدولي للكتاب" تصل أنوار معرفتها بأسعار زهيدة لزوار المعرض، وللمكتبات الجامعية والخاصة. تجربة مهرجان القراءة للجميع ومكتبة الأسرة تجربة ثقافية تستحق الاقتداء، بما يتناسب وخصوصية السودان بعد ثورة ديسمبر المجيدة، فما زلنا بحاجة الى ثورة علمية وثقافية ترفع من مستوي المنتوج الثقافي للبلاد، ومن المستوي المعرفي لجيل اليوم الذي أحدث الثورة، والأجيال القادمة، أذ لا يمكن التغاضي عن حقيقة تدني المستوي المعرفي في الكثير من الأعمال الأدبية المنشورة – على قلتها – ومستوي المقالات الصحفية، والمدونات على مواقع الانترنت، ومستوي اليوتيوبر السودانيين، والأعمال الدرامية، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، ناهيك عن تدني مستوي الزوق العام في الأغاني، جميعها تجمعها علة واحدة وهي ضعف الخزينة المعرفية أو لنقل "الثقافة". ربما يكون من الصعب اليوم في خضم الأزمة الاقتصادية الخانقة الحديث عن دعم الثقافة برفع الضريبة والجمارك عن الكتب، ودعم عودة المكتبات العامة، والمشاريع الثقافية بمختلف أشكالها، ولكن يجب إلا يهمل ملف الثقافة والمثقفين في زحام استحقاقات الفترة الانتقالية التي تؤسس لسودان جديد على المستويات السياسية والاقتصادية والمجتمعية والثقافية، ففي ظل التقدم التكنولوجي اليوم، وتنوع مصادر المعرفة، لم نعد في حاجة كي تكتب القاهرة، وتطبع بيروت، لتقرأ الخرطوم كما كان الحال في ستينيات القرن الماضي ولكننا في حاجة لعودة الشغف بالقراءة كما كان الحال يومها.