لم يحدث، ولا يتوقع أحد أن تطلب الدولة من رجل إدارة أهلية بحث أثر التغيرات المناخية على الهجرات السكانية وحرب الموارد، أو أثر الهجرة الداخلية على نوعية التعليم في منطقة بعينها، أو أي تقييم لقضية من القضايا ذات الطابع المعقد والعريض. رجل الإدارة الأهلية حامل سلطة لا تخدم غرضا أكثر من حراسة مجتمعه المحلي من آثار عوامل التغيير التي تفرضها الحياة المدنية المعقدة. هو إداري عاطل لا يفعل أكثر من استخدام نفوذه، الموروث غالبا، في التوفيق بين فرق متخاصمة، أو اسداء خدمات لحكومة المركز عبر مخاطبة قاعدته القبلية وتحريكها هذه الناحية أو تلك. معظم عمل رجالات الإدارة الأهلية في السابق كان يتركز في ضمان الإيفاء بتحصيل الالتزامات المالية والضريبية المفروضة من قبل الحكومة المركزية، وتمرير، أو تزيين خطاب الحكومة لقاعدته القبلية إذا استدعى الأمر أو طلب منه ذلك، وفي أفضل الأحول يعمل رجل الإدارة الأهلية كرجل إطفاء للنزاعات القبلية المنتشرة في مختلف أقاليم السودان حتى تاريخ اليوم. فما زالت عملية الاستنجاد بالقانون والاستعانة بالشرطة والقضاء تعتبر عيبا وضعفا في الكثير من الثقافات القبلية التي تمجد القوة وأخذ الحق باليد.
يحدث فض النزاعات القبلية تحت مسمى الحكمة التي يحتفي بها الجميع. والحكمة ليست معقلة في الفضاء، أو توهب بالميلاد، لأنها تتكون من أنساق محفوظة من الأفعال وردود الأفعال في تجارب سابقة، لذا يتحدد عمقها بسعة التجارب وتنوعها وبتطوير أدوات التعامل مع مختلف الإشكالات والقضايا. فهل يملك رجل الإدارة الأهلية الماعون المعرفي كي يحافظ على مستوى الحكمة في زمان تتلون فيه الإشكالات وتتشابك القضايا وأرضيات النزاع؟ قلت لصديق هولندي أول أيام قدومي في معرض حديث عن كبار السن، أن ثقافتنا توجب علينا احترام كبار السن، فأضاف بسرعة قائلا: الاحترام يجب أن يستحق بموجب السلوك ولا يوهب مقدما للشخص..
الاحترامية ظلت تميز رجل الإدارة الأهلية من قديم الزمان وتمثل أداة لا غنى عنها من أدوات العمل الخاصة به. فهو في جزء كبير من حركته وسلوكه اليومي يسعى لكسب هذا الاحترام والمحافظة عليه، ويكمل ما نقص من احترام بعدة تقنيات وحيل، مثل الكرم المبالغ فيه، أو بالإكراه، التهديد، حرمان الشخص المستهدف من بعض المكاسب المادية، المنع من استخدام الموارد المتاحة المشتركة، وربما العقوبة المعنوية بإبعاد الشخص المستهدف من مجلس العمدة أو الناظر، الشرتاي أو الشيخ..
الجهاز المساعد المتاح لرجل الإدارة الأهلية من أعوانه وثقاته، ليس لديه القدرة على تحليل الآثار المترتبة على قراراته أو وضعها موضع تساؤل. جهاز لا يعرف النقد والمراجعة، وقد يرى فيه عيبا وحطا من شأن الزعيم. والعالم في تخيلات هذه الفئة ينتهي بحدود السيطرة القبلية. الدولة أو الحكومة بالنسبة له شيء مجرد، أو سلطة مجردة تنحصر العلاقة معها في صيغتي الإذعان أو المناطحة، فالدولة في نظرهم ليست بالمعنى العام المتعارف عليه: تعبير عن إرادة جماعية عليا نابعة من مجموعات سكانية كبيرة ومتنوعة. وتعبر عن مصالح أعرض لكل هذه المجموعات غير المتجانسة (في حالتنا) التي ترتبط مع بعضها بقواسم أخرى مشتركة تشكل الهوية الجماعية التي تميزها كشعب يعيش في رقعة جغرافية ذات حدود معروفة، ولديه نظام سياسي لإدارة هذه الدولة.
وبما أن عوامل التعليم، التمدن والحداثة في زمن العولمة وثورة المعلوماتية قد أسهمت في تغيير طبيعة التركيبة السكانية وتطلعات الأفراد وطرائق تفكيرهم وتوقعاتهم في الأرياف والحضر على السواء، وبسبب الهجرات الجماعية من الريف للمدن وأشباه المدن، كان على رجال الإدارة الأهلية اثبات جدواهم بالنسبة للمركز. والشاهد أن هذا الأمر قد حدث تحت حكم الإنقاذ، ليس عبر رفع قدراتهم الذاتية والفكرية ومهاراتهم الإدارية، ولكن عن طريق ابداء رضاهم واستعدادهم لإسداء الخدمات للحكومة المركزية، بغض النظر عن طبيعة هذه الخدمات وانسجامها مع القانون والأخلاق ومصلحة قواعدهم القبلية.
قبل رجال الإدارة الأهلية في دارفور جنوب كردفان بالمساهمة في دفع ابناءهم للخدمة في الدفاع الشعبي والميلشيات المختلفة.. بدعوى محاربة التمرد دون أن يضعوا في حسابهم أثر ذلك على النسيج الاجتماعي المحلي والاضرار التي سيلحقها ذلك على إمكانية التعايش السلمي في الحاضر والمستقبل، ناهيك عن محاولة فهم مطالب الفئات التي حملت السلاح ضد الدولة.
في حالة أخرى يبلغ فيها سلوك رجل الإدارة الأهلية منتهى الوضاعة، نرى زعيما مثل الشرتاي جعفر عبد الحكم ينحدر من مكانة قبلية مبجلة، ليتورط في خدمات أدت لاتهامه بالمشاركة في جرائم حرب وجرائم إبادة في دارفور. التحول الذي حدث لدور رجال الإدارة الأهلية وانحدار بعضهم للقيام بدور أزلام النظام، يمكن اعتباره نوع من إعادة الهيكلة الرديئة عديمة الجدوى لمؤسسات أهلية بدأت تفقد مشروعية وجودها. فبعد أن كانت أداة للحفاظ على قيم التسامح والتعايش بين مختلف المكونات وحل الخلافات وعقد المصالحات مع الأطراف المتحاربة.. أصبحت الإدارة الأهلية في كثير من الأحيان هي المتعهد لإشعال الحرائق. أي أنها تحولت من رجل إطفاء إلى مشعل حرائق "بيرومان".
نرى مثلا مشايخ الشمال يقفلون طريق التحدي ويرفضون أن تولى عليم امرأة، مشايخ كردفان يقفلون طريق أمدرمان جبرة بارا بسبب نزاع على أراضي خصصتها الدولة لغرض من الأغراض.. مثل هذه المناوشات مع السلطة المركزية تتم للأسف كنوع من المناهضة للحكومة المدنية التي ينشدها الشعب بعد ثورته. هذا الأمر ليس بالمستغرب، ففي بداية محاولة الانقلاب على الثورة تمت محاولة الاستعانة برجال الإدارة الأهلية من مختلف أنحاء السودان لتقديم دعم للبرهان وحميدتي وتشكيل حاضنة بديلة تدعم محاولة سرقتهما للثورة. وهذه المحاولة ما زالت جارية الآن ويجري الاعداد لها في ظل مساعي البرهان وحميدتي لإرباك المشهد وتعكير الجو الذي يسمح بالانتقال لسلطة مدنية.
الناظر ترك صمت صمتا يرقى لدرجة التآمر عن الإهمال الذي تعرض له الشرق لمدة ثلاثة عقود هي عمر فترة الإنقاذ، عن تردي خدمات الصحة والتعليم والمياه، عن الفساد، وعن تبديد أمول صندوق اعمار الشرق، وعن مذبحة بورتسودان في يناير 2005، فلم نره يخرج شاهرا سيفه أو يوجه جماهيره بالثورة ضد نظام الإنقاذ.. أو قفل الطرق أو حتى حرق إطارات السيارات. للشرق قضية واضحة مثل الشمس، كما لدارفور وأجزاء أخرى من السودان قضايا متشابهة يجمع بينها التعرض للإهمال والظلم في توزيع التنمية والخدمات ومشاريع البنى التحتية، وهذه القضية آن أوان حلها في إطار ديمقراطي، شفاف وعادل ضمن عملية التحول لحكم مدني كامل يمثل الشعب ويسمح بالمساءلة والمحاسبة من خلال دولة القانون والمؤسسات، وليس بتمكين العسكر كما يدعو ترك الآن.
أما حديثه عن حل لجنة التمكين وتعيين حكومة جديدة واقتراحات التحصيل الجمركي، فهي مسائل بعيدة عن متناوله ولا تنسجم مع مطالب مواطني شرق السودان الأصلية وطبيعة القضية التي يتصدى للدفاع عنها. ترك كرجل إدارة أهلية بعقليته وقدراته الحالية التي نعرفها غير مؤهل للحديث حول الأمر بشكل يمكن أن يؤخذ معه بالجدية اللازمة، وعلى أهل الشرق أن يبتدعوا جسما أو آلية تأخذ على عاتقها مهمة عرض قضيتهم التي لا يشك أي أحد في عدالتها بطريقة لائقة، ولهم أيضا أن يبتكروا ما يشاؤون من وسائل الاحتجاج والمقاومة، فقضية السودان واحدة وإن اختلفت التفاصيل وأوجه الظلم ودرجاته. ————————— 13 أكتوبر 2021