لم أفاجأ بما فعله حمدوك لأن توقيعه على بيان الخزي سقطة كبيرة من سلم المجد في هاوية سحيقة ، سقطة لن يغفرها له التاريخ أبدا ، مسح بها كل تاريخه الذي بدأ قبيل الثورة برفض ترشيح البشير له كوزير مالية ولولا أن ثبته بعض الأصدقاء ورواد مواقع التواصل فقد كاد يركن إليهم شيئا كثيرا ، ومرورا باختياره زعيما ورمزا للثورة دون حول له ولا قوة ولكنه وقع في الفخ الذي نصبه له العسكر والفلول وأمراء الحرب فرضي أن يساوم ويفاوض من يعتقله في محبسه الإجباري ، عاد رئيسا للحكومة بلا من أوصلوه للمنصب وسيقف عاريا أمام الطغاة بلا غطاء . كان رأيي منذ ظهوره على المسرح السياسي أن حمدوك شخصية مسالمة وضعيفة ولا يصلح ممثلا لحكومة ثورة تحتاج شخصا مصادما وقد لاحت له الفرصة مرتين الأولى حين لقى اجماعا محليا ودوليا منقطع النظير وفشل في استخدام الشارع لمواجهة تغول العسكر وحلفائهم والفلول من خلفهم على سلطاته حتى أنه حين استأسد ذات مرة في مواجهة البرهان كتبت مقالا بعنوان " حمدوك .. العُشَر قام ليهو شوك " / " أنظر الراكوبة " وفي العنوان ما يكفي من الإشارة لحدوث ما لم يكن متوقعا منه .. ثم هاجمت حكومتيه وأداءهما حين خضع لشروط الصناديق الدولية دون رحمة أو مراعاة لظروف المواطن مما أثقل كاهله بما لا يستطيع وكنت أرى أن الإصلاح يجب أن يتم بالتدريج وليس بالصدمة القاتلة .. حتى وصلت مرحلة كتبت فيها مقالا بعنوان " حمدوك .. لماذا لا ترحل ؟! " راجع الراكوبة ." وقد انتهز العسكر أنفسهم تلك الاستجابة المذلة لشروط الصناديق واستغلوا الضائقة المعيشية الناتجة عنها للطعن في أدائه وتبرير الانقلاب بشيء من الكيد حين حرضوا على إغلاق ميناء الشرق وأخفوا السلع الأساسية وأكملوا المخطط الخبيث باعتصام القصر . وحين وقع الانقلاب لم أتردد في الانحياز لحمدوك لسبب أساسي وهو أنه صار رمزا للحكومة المدنية والتخلي عن الرمز يعني منح الفرصة للانقلابيين والتفريط في المدنية وهو ما حذرت منه تعقيبا على تصريح أميركي قال إنهم مع عودة الحكومة المدنية " بحمدوك أو بدونه " وقلت يومها إن هذا قد قد يشكل ضغطا ويقود حمدوك نفسه للرضوخ والقبول بالعمل مع العسكر خشية أن يخرج من المسرح وذلك قبل أن يقبل الغرب وأميركا ببديل عنه. الآن يمكن القول إن الإعلان السياسي لم يحقق أي مطلب للمدنيين الذين ضحوا بأرواحهم في مناهضة الانقلابيين ولا يعدو كونه اعترافا صريحا بالانقلاب فقد تحقق كل ما كان يصبو إليه البرهان وكان واضحا أن هناك من استغفل حمدوك وانفرد به كما كان واضحا أن الرجل يفتقد الخبرة السياسية وفن الحوار حيث تم استدراجه بعد أن كان العقبة الكؤود أمامهم لتمسك الشارع به وهو ما ألهم وشجع الدوائر الدولية المطالبة بإعادته لمنصبه . كانت مبررات قبول حمدوك هزيلة وأولها ما سماه " حقن الدماء " ولا أعرف كيف يمكنه ذلك فالعسكري القاتل لم يتخل عن بندقيته والثوار في الشارع وحمدوك ليس له من الأمر شيء فهو ليس زعيم مليشيا تقاتل ويمكنه أمرها بوقف إطلاق النار ولا هو زعيم حزب أغلبية يستطيع أن يأمر أنباعه بالانصراف من الشارع كما أنه لم يأخذ تعهدا على الانقلابيين بعدم التعرض للثوار وبالتالي فالثورة مستمرة وسوف يستمر القتل .. وما قاله ليس سوى استهلاك لعبارات لن تقدم ولن تؤخر وهو بذلك فقد الشعب المؤيد له وهذا ما خطط له خبثاء العسكر والإخوان بحرقه وإخراجه من المشهد السياسي وهو ما سيحدث قريبا بتقديم استقالته وهو أمر في تقديري ليس ببعيد . وأعجب ما قال إن الاتفاق يحصن الفترة الانتقالية !!.. ولم يسأل نفسه كيف يضمن ذلك والذئاب قاتلة الشعب هم أنفسهم من يحيطون به وبإمكانهم نقض العهد واقتياده من القاعة التي يتحدث فيها وحبسه أو حني قتله إن شاءوا فهلا قال لنا ما الذي جد في الاتفاق الذي يمنعهم من تكرار أفعالهم ؟؟ أما ما سماه توسيع قاعدة المشاركة فيعني زيادة عدد الذئاب حول الضحية من أعداء الثورة من المؤتمر الشعبي العام والإصلاح الآن وغيرهم من الوجوه المتعددة للإخوان المسلمين. ونتساءل باستغراب ماذا يعني توقيع اتفاق ليس له شاهد ولا ضامن ؟؟ ولا يعرف من قام بصياغته وحمدوك كان معتقلا فلا هو كاتب ولا رجل قانون وما الذي يترتب على مخالفته أو عدم الالتزام به أو حتى التنكر له صراحة هذا إن افترضنا جدلا القبول به !! وقال البيان إنه سيشكل حكومة كفاءات ولا نعرف كيف لحمدوك ذلك وهو لا يعرف في السودان لا كفاءات ولا غير كفاءات حيث ظل بعيدا عن السودان لعقود كما أنه افتقد الحاضنة السياسية التي كانت تقوم بدور ترشيح أولئك وفي هذه الحالة لن يكون أمامه سوى القبول بترشيحات العسكريين والإخوان المسلمين ولذا يمكن معرفة توجه الحكومة الإخوانية وحكومة أمراء الحرب القادمة . ولعل من أخطر ما تم الاتفاق عليه ما سمي تعديل الوثيقة الدستورية (بالتوافق) ولم يحدد لنا التوافق مع من؟؟ وما هو التعديل المطلوب ؟؟ وهذا يعني أن ما سمي بمجموعة الميثاق الوطني ستقوم بالتعديل على هواها. كذلك جاء في الاتفاق " إعادة هيكلة لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو ومراجعة أدائها " وهذا هو ما كان يهدف له الإخوان المسلمون لأن هذه اللجنة كانت بعبعا مخيفا للفاسدين وهذا الاتفاق يمهد لتشكيلها وفق رغبة العسكريين والميثاق الوطني ولن تكون لحمدوك كلمة ولا يد في ذلك . أما المضحك المبكي فهو الحديث عن تشكيل لجنة تحقيق في " الأحداث التي جرت أثناء التظاهرات من إصابات ووفيات " .. يوافق حمدوك على هذا والجهات الأمنية والعسكرية أعلنت مسبقا أنها لم تقتل بل لم تسجل حوادث القتل نفسها ودماء الشهداء لم تجف بعد .. ويوقع حمدوك وهو يعلم مصير لجنة نبيل أديب التي شكلها هو وتعمل منذ أكثر من عامين وعجزت أو ربما منعت من الكشف عن جريمة من اعترف بفعلها هو نفسه من وقع معه البيان السياسي ولم يستطع حمدوك ولن يستطيع توجيه أصابع الاتهام لهم . وأعتقد أنه من العيب أن يوقع حمدوك على وثيقة فيها عبارة " بالتوقيع على الإعلان السياسي يلغي قرار القائد العام للقوات المسلحة بإعفاء رئيس مجلس الوزراء " .. يوقع حمدوك دون الالتفات لقرارات أخرى تتعلق بفصل كبار المسؤولين بالدولة والسفراء الذين وقفوا موقفا وطنيا من الانقلاب ولولا هذه المواقف النبيلة لما اهتم العالم الخارجي بحمدوك .. بل قام البرهان بإعفاء موظفين عينهم حمدوك نفسه وأعاد للخدمة من أعفاهم حمدوك من أعوان النظام البائد .. فأي هوان واستكانة وتنكر للجميل أكثر من ذلك ؟؟ . باختصار لقد عاد حمدوك وحيدا بلا شعبية ولا موقف ولا مستقبل ولن يسمع مجددا " شكرا حمدوك " سوى من البرهان .. عاد محاصرا بكوابيس صور دماء الشهداء ومقيدا بسلاسل العسكر وأعوانهم ولن يكون سوى خيال مآتة .. جاء حمدوك والبرهان كان على وشك السقوط فمد له حمدوك يده لينقذه من سوء الخاتمة لذلك سيسمع صوت البرهان مرددا " شكرا حمدوك " بديلا لهدير الشارع المزعج الذي لن يستطيع الخروج لمخاطبته بعد الأمس .. سقط حمدوك حتى ظن الناس من هول ما فعل أنه أصيب بلوثة أو وقع تحت تأثير مغيبات العقل .. لكن الرجل بكامل وعيه وسيتحمل وحده مسؤولية هذا الوعي الغائب بإرادته وكما قال أحدهم في أول ردود الفعل " من كان بؤيد حمدوك فإن حمدوك قد مات ومن كان يؤيد الثورة فإن شعلة الثورة باقية لن تموت " حتى النصر إنشاء الله . والثورة مستمرة من دون حمدوك فهي التي جاءت به وغدا تأتي بغيره. فوا أسفاه عليك . [email protected]