"حكامات السودان".. شاعرات يطفئن نار الحرب بقصيدة    منى مجدي: السلام رسالة وأنا معه حتى آخر العمر    الهلال يتأهل ويواجه الجيش الرواندى في نصف نهائي سيكافا    سفارة السودان القاهرة وصول جوازات السفر الجديدة    تبدد حلم المونديال وأصبح بعيد المنال…    ميسي يحقق إنجازا غير مسبوق في مسيرته    ترامب: الهجوم على قطر قرار نتنياهو ولن يتكرر مجددا    جلسة طارئة لمجلس الأمن لبحث الغارات الإسرائيلية على الدوحة    في الجزيرة نزرع أسفنا    الدعوة إلى حل الجيش السوداني: استنارة سلمية من جنا النديهة أم دعوة للانتحار الوطني؟    السودان..تصريحات قويّة ل"العطا"    اعتقال إعلامي في السودان    نوتنغهام يقيل المدرب الذي أعاده للواجهة    الصقور خلصت الحكاية… والهلال اليوم تبدأ الرواية    شاهد بالفيديو.. حسناء الإعلام السوداني تستعرض جمالها بإرتداء الثوب أمام الجميع وترد على المعلقين: (شكرا لكل من مروا من هنا كالنسمة في عز الصيف اما ناس الغيرة و الروح الشريرة اتخارجوا من هنا)    أعلنت إحياء حفل لها بالمجان.. الفنانة ميادة قمر الدين ترد الجميل والوفاء لصديقتها بالمدرسة كانت تقسم معها "سندوتش الفطور" عندما كانت الحياة غير ميسرة لها    شاهد بالصور.. مودل وعارضة أزياء سودانية حسناء تشعل مواقع التواصل بإطلالة مثيرة من "العين السخنة"    شاهد بالصور.. القوات المسلحة تتمدد والمليشيا تتقهقر.. خريطة تظهر سيطرة الجيش والقوات المساندة له على ربوع أرض الوطن والدعم السريع يتمركز في رقعة صغيرة بدارفور    شاهد بالصور والفيديو.. شاب سوداني يشعل مواقع التواصل الاجتماعي ببلاده بزواجه من حسناء تونسية وساخرون: (لقد فعلها وخان بنات وطنه)    شاهد بالصور.. القوات المسلحة تتمدد والمليشيا تتقهقر.. خريطة تظهر سيطرة الجيش والقوات المساندة له على ربوع أرض الوطن والدعم السريع يتمركز في رقعة صغيرة بدارفور    شاهد بالفيديو.. أطربت جمهور الزعيم.. السلطانة هدى عربي تغني للمريخ وتتغزل في موسيقار خط وسطه (يا يمة شوفوا حالي مريخابي سر بالي)    شاهد بالصورة.. محترف الهلال يعود لمعسكر فريقه ويعتذر لجماهير النادي: (لم يكن لدي أي نية لإيذاء المشجعين وأدرك أيضا أن بعض سلوكي لم يكن الأنسب)    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    بث مباشر لمباراة السودان وتوغو في تصفيات كأس العالم    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    والي الخرطوم يدين الاستهداف المتكرر للمليشيا على المرافق الخدمية مما يفاقم من معآناة المواطن    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    هذا الهجوم خرق كل قواعد الإلتزامات السياسية لقطر مع دولة الكيان الصهيوني    إيران: هجوم إسرائيل على قيادات حماس في قطر "خطير" وانتهاك للقانون الدولي    نجاة وفد الحركة بالدوحة من محاولة اغتيال إسرائيلية    ديب ميتالز .. الجارحى ليس شريكا    "فيلم ثقافي".. هل تعمد صلاح استفزاز بوركينا فاسو؟    «لا يُجيدون الفصحى».. ممثل سوري شهير يسخر من الفنانين المصريين: «عندهم مشكلة حقيقية» (فيديو)    التدابير الحتمية لاستعادة التعافي الاقتصادي    ضبط (91) كيلو ذهب وعملات أجنبية في عملية نوعية بولاية نهر النيل    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    تمويل مرتقب من صندوق الإيفاد لصغار المنتجين    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    مواعيد خسوف القمر المرتقب بالدول العربية    وزارة المعادن تنفي توقيع أي اتفاقية استثمارية مع شركة ديب ميتالز    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تفاصيل جديدة حول جريمة الحتانة.. رصاص الكلاشنكوف ينهي حياة مسافر إلى بورتسودان    قوات الطوف المشترك محلية الخرطوم تداهم بور الجريمة بدوائر الاختصاص وتزيل المساكن العشوائية    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    من صدمات يوم القيامة    "وجيدة".. حين يتحول الغناء إلى لوحة تشكيلية    فعاليات «مسرح البنات» في كمبالا حنين إلى الوطن ودعوة إلى السلام    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    حادث مأسوي بالإسكندرية.. غرق 6 فتيات وانقاذ 24 أخريات في شاطئ أبو تلات    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    أخطاء شائعة عند شرب الشاي قد تضر بصحتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إعادة هيكلة الجيش أم الدولة؟ (8 – 10)
نشر في الراكوبة يوم 13 - 02 - 2022


السودان: ما المشكلة؟..
سؤال المشكلة في السودان ، يظهر وكأنه السؤال المغيّب أو المعدوم تماما في قاموس الأدب السياسي السوداني ، هذا إن لم يكن السؤال الذي يكاد الجميع يتعمّد الهرب منه في السودان ، وخصوصا تلك القوى التي تتبادل الأدوار السياسية حكومة ومعارضة منذ ما قبل 1955م حيث تم الضحك على النواب الجنوبيين لدعم ما عرف بالإستقلال مقابل معالجة قضية نظام الحكم التي كانت الشغل الشاغل حينها. وبعيدا عن أي محاكمات جزافية للقوى السياسية وأرباب الرأي العام السوداني ، إلا أنه يمكننا إظهار الصورة الكاملة من خلال معرفة العوامل التي بموجبها إنعدم (السؤال المشكلة) في أروقته المعنية – المنابر السياسية المختلفة – توطئة للتعريف بالمشكل السوداني قبل الحديث عن حلول كما ما هو سائد على عتبة المسرح السياسي السوداني حيث يطرح الجميع وصفات العلاج على شاكلة (دولة الخلافة) ، (الإسلام هو الحل) ، (النظام الإشتراكي) ، (دولة عربية إسلامية) ، (الدولة المدنية) ، (دولة المدينة) ، (الدولة الخدمية) و (الدولة المحايدة تجاه الدين والهوية) .. الخ من الوصفات المطروحة يوميا دون تحديد أصل وطبيعة المشكلة المراد حلها أو حتى دون التأكد فيما إذا كانت هذه الأقمصة الجاهزة قد تناسب دولة بحجم السودان وجسمه الضخم والمتشعب . وفي هذه الحالة يمكننا أن نبحث عن سؤال المشكلة من خلال الوقوف على مصادر الوصفات المطروحة لحل الأزمة السودانية وكذلك بإلقاء نظرة حول مواقف القوى السياسية حيال بعض المسائل والقضايا التي من شأنها أن تعطي صورة أوضح للمشهد كما قد تكون المدخل السليم لتعريف المشكل السوداني ليسهل بالتالي الحديث عن الحلول المناسبة لهذه المشكلة والتي قد تكون الأطروحات الأمثل في حال تم إستخلاصها من الواقع والمكنون الإنساني السوداني بدلا من إستيراد أطروحات جاهزة ، أيا يكن مصدرها.
قضايا إستراتيجية
بالطبع أي قضية ، صغرت أم كبرت ، فهي تشكّل أهمية قصوى لصاحبها ، سواء أكانت قضية فردية أو قضايا مجتمعية لحين مساواتها بالصورة المطلوبة. ولكن عند الحديث عن أي دولة فإن هناك ركائز أساسية تقوم عليها ، بحيث تشكل هذه الركائز أساس العقد المجتمعي الذي يعرّف الدولة من حيث حدودها الجغرافية والعموميات المشتركة التي تجعل من قاطنيها أمة موحدة يربطها وجدان مشترك وتحس ببعضها "أفراد وجماعات ومناطق" وكذلك سلطة معترف بها من جميع مكونات الأمة أو الشعب ، وهو ما لم يكن ضمن وضع السودان الحالي ، حيث نجد أن السودان غير محدد الجغرافية بدقة خارج نطاق الأوراق الرسمية والخرط ، وليس به شعب موحد البتة وإنما أسر وقبائل ومجتمعات وشعوب لا تربطها إلا هذه الجغرافية التي تسيطر عليها السلطة (فقط) كما أنه لا يجمعها مع بعضها غير ما ترغب به السلطة ، فيما ظلت العديد من مناطق السودان الإستراتيجية الحيوية خارج إدارة الدولة الرسمية طوال تاريخها – تحت إدارة قوى المقاومة السودانية – وهو ما يدلل على عدم الإعتراف المطلق بهذه السلطة الإستعمارية كما يفسر حالة المقاومة المستمرة منذ لحظة بداية الغزو التركي عام 1918م ، هذا إلى جانب قضايا أخرى مثلت جوهر أسباب الحرب في السودان منها الهوية والعلمانية ونظام الحكم وغيرها.
فمثلا ، قضية الهوية التي تبدو ثانوية لمعظم المنادين بالإصلاح في السودان وخصوصا قوى الخرطوم ، قد تكون هي القضية الأولى والتي إذا ما حلت فإن العديد من القضايا قد يتم تجاوزها لأن مسألة التعريب الجبري تعتبر إحدى الأسباب الرئيسية التي جعلت السلطة تشن حربها ضد مكونات السودان في موطنها الأصل لعدة عقود . وفي حال تم معالجة هذه المسألة – التي يجب ألا تكون محل جدال بحكم موقع ومكون السودان الإفريقي – يكون السودانيون قد تقربوا خطوة أولى مشتركة بينهم . إلا أنه يظهر أن معظم القوى السياسية الخرطومية تحاول صرف النظر أو التغافل عن هذه القضية الأساسية وهي ترى وتسمع وتتابع بل وتشارك في مشروع قيام دولة عربية في السودان من خلال سياسات السلطات المتعاقبة على إدارة السودان الرسمي في الفترة المشارة إليها أعلاه، وهي سياسات عُدت لطمث المعالم الإفريقية بما في ذلك أسماء الناس والمناطق وفتح الباب لسرقة الآثار وإدعاء الإنتساب إليها ولغيرها وكذلك إخفاء وتدمير كل ما هو إفريقي مقابل فرض كل ما هو إستعرابي على المكونات السودانية الأصيلة بإستخدام جهاز الدولة.
أيضا مسألة العلمانية هي الأخرى قد تقطع الطريق أمام محاولات العديد من غير الأسوياء المغامرين الذين يعتقدون أنهم يمكنهم إستعمار بلدان الناس وقيام دول متخيلة فيها بكل سهولة تحت مبررات عقدية ترفع عنهم الأهلية الإنسانية وتغطي على جرائمهم كما ظل في تاريخ الدولة الإسلامية التي قامت بتدمير دول وحضارات كانت قائمة كما يظهر من آثار وبقايا حضارات السودان في شماله الأدنى ، وكذلك تهجير الأهالي إلى الأدغال أو إسترقاقهم ، وما قصص تدمير المكتبات في الإسكندرية وبلاد فارس التي طرحت في البحار أو أضرمت فيها النار بمباركة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب كما أورد الكاتب أحمد عصيد في مقالة بعنوان (ظاهرة تخريب الآثار وإحراق المكتبات في تاريخ المسلمين) نقلا عن بن خلدون في رد الخليفة عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص الذي يستفسره عن ما الذي يفعلونه بهذه المكتبات "فكتب إليه عمر أن أطرحوها في الماء ، فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله فاطرحوها في الماء أو النار ، وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا"، خير دليل على ممارسات المسلمين الغازيين ضد السودان. وهذه الأفعال بكل تأكيد تضارع ما فعله لاحقا الإستعمار التركي – البريطاني – البريطاني – المستعرب ضد شعوب السودان على إمتداده السابق والحالي كأي سلوك إستعماري آخر يسعى إلى تدمير وإلغاء الآخر وفصل الناس عن حضاراتهم وهذا بالضبط ما حدث لحضارات أخرى أثناء حملات الإستعمار الأوروبي أواسط الألفية السابقة حيث أرخ (نفس المصدر) ما كتبه الأسقف الأوروبي دييغو دي لاندا الذي نقل من مذكراته أمر إحراق العديد من مذكرات ومكتبات (المايا) في أمريكا الجنوبية ، حيث كتب "لقد وجدنا العديد من الكتب مع هذه الرسائل، وبسبب إحتوائها على أمور من الخرافات وخداع الشيطان ، فقد عمدنا إلى إحراقها". لذا فإن حسم مسألة الدين وتبني مشروع (علماني صريح) يمنع تكرار تجارب قتل الناس باسم الجهاد وغنم ممتلكاتهم والتعالي عليهم وإخضاعهم عبر الدين بغرض السيطرة عليهم وعلى مواردهم ، قد يكون هو الآخر أساس يخلق الإعتراف والإحترام المتبادل بين مكونات السودان ، لأن ممارسات هذه الأديان السياسية التي يُعتقد أنها سامية في نظر أصحابها هي لا تزيد شأنا أو قداسة في نظر أصحاب (ضرب النار) ، (الأسبار المختلفة والكجور) ، (الفكي) ، (نجيكانق) ، أو (بينج بيط) وكلها ممارسات ورموز لديانات سودانية خالدة ، وخصوصا أنها ذات نتائج آنية لهم وذلك كما يفعل الدمباري بالجراد أو الفكي ب (الترقا) أو الكجور بالمطر .
يلاحظ أيضا أن السودان قد تم عزله عن محيطه الإفريقي طوال الفترة الماضية (من خلال إتباع سياسة خارجية محكمة) مع وضع ممارسات سياسية ظالمة ممنهجة تجاه المكونات التي كانت فيه قبل أن يكون السودان المعاصر ، وإبعادهم من خلال الضغط عليهم عبر حرمانهم حقهم في السجل المدني ووصف كل من له علاقات إفريقية ممتدة خارج سودان الخرطوم (السودان الرسمي) على طول دائرة الحدود السودانية في حدها القديم بدءا من مصر وليبيا وتشاد وإفريفيا الوسطى والكنغو ويوغندا وكينيا وإثيوبيا وإريتريا حيث تتداخل مجتمعات الدائرة الحدودية بعد أن قسمتها هذه الحدود بين سودانية وغير سودانية على أنه غير سودانية إضافة إلى نزع الجنسية من سودانيو ما بعد 2011م أملا في تقليل حجم الكتلة الإفريقية في السودان ، مقابل فتح السودان للتوجه العربي حيث رفد الخليج بالعمالة الرخيصة وإستقدام السودانيين للرعي والأعمال الأخرى في بيئة قاسية وفق نظام الكفيل الذي يوطن الخنوع لدى العقل السوداني المستقدم لمثل هذه الأعمال ، دعما وتكريسا وتعزيزا للتوجه والثقافة العربية مع منع أطفالهم من التعليم في تلك البلدان العربية ، بدلا من الإنفتاح الإفريقي والإستفادة من أفضل فرص التعليم في دول إفريقيا ، وخصوصا في منطقة شرق وجنوب وغرب إفريقيا . ومن خلال تتبع مواقف وأنشطة وأطروحات القوى السياسية في الخرطوم لم نجد أي منها قد تبنى طرحا لمعالجة هذه القضايا بينها (قضية العلاقات الخارجية) وإنما التركيز على قضايا لا تمد إلى أغلب السودانيين بصلة مثل القضية العربية (ومعاش الناس حديثا) دون تعريف الناس المقصودين هنا لأن هناك من بين السودانيين من ظل يكتهف الجبال والأحراش ويتدثر الغاب لعقود من الزمان بسبب حرب وعداء الدولة الرسمية وآلتها الحربية التي لا تفرق بين كل ما يتحرك البتة إلا وحصدته.
تجاهل هذا النوع من القضايا الإستراتيجية – ضمن أخريات بالطبع – من قبل القوى السياسية يعني القبول الصريح بتوجه الدولة أو بالأحرى مباركة حرب الدولة القائمة ضد شعوب ومكونات السودان غير العربية لأجل قيام دولة عربية في السودان على حساب المكونات الأخرى ، وهنا يتضح أن الجبهة القومية الإسلامية وكل العروبيين المسلمين ظلوا أكثر صدقا ووضوحا من أؤلئك الذين يدعون معارضة تلك الأنظمة ولكنهم لا يرون في ممارستها ضد السودانيين القدماء – قدم هذه الأرض – جريمة إستعمارية محضة.
نظام الحكم
ربما ظلّ (نظام الحكم في السودان) القضية الإستراتيجية الأبرز طوال المرحلة السابقة والأكثر طرحا وتداولا في المسرح السياسي لكون المسألة إرتبطت بحياة الناس اليومية والمظالم الظاهرة التي تدفع لناس لضرورة خلق واقع مستحق من خلال تمكين المجتمع بالمشاركة الفعالة في العملية السياسية على كافة المستويات. فقيام نظام حكم مركزي يعني بالضرورة سيطرة السلطة المركزية على كل مفاصل الدولة بحيث تتركز جميع السلطات في يد سلطة مركزية تسلب مستويات الحكم الأدنى حق إتخاذ قرارات مستقلة كما هو الحال في السودان المعاصر منذ قيامه من خلال قبضة السلطات المركزية على كل مجريات الأمور . وتخصيص هذه المساحة المنفصلة لقضية نظام الحكم – عن القضايا الإستراتيجية الأخرى لأنه عادة ما ينظر إلى النظام المركزي على أنه نظام قابض نازع لقرار الأطراف السياسي ، ولكن الحقيقة أن نظام الحكم المركزي في السودان إرتبط بمسائل أخرى كثيرة مثلت جوهر السياسات الإقصائية الإستغلالية للمكونات التي تعاديها الدولة ، حيث يلاحظ أنه أن الإفقار والتهجير والإبعاد ونزع الأراضي وكل أنواع المظالم الهيكلية الواقعة على الأطراف يتم تنفيذها من خلال هذا النظام . لذا تندرج سياسة السيطرة على الموارد وإبقاء تلك المجتمعات عند مستوى دون الفقر تحت طبيعة الحكم المركزي حيث تقوم السلطات بوضع السياسات المتعلقة بجميع الأنشطة الحياتية بما في ذلك الأنشطة التجارية والإقتصادية ، فعلى سبيل المثال تتركز جميع عمليات وإدارة حركة الصادر في الخرطوم والموانئ القريبة منها بدلا من إنشاء مصانع وموانئ تصدير برية وجوية في مناطق إنتاج السلع الإستراتيجية كما في الفول السوداني ، السمسم ، الصمغ ، المعادن ، الخشب ، الألبان واللحوم … الخ من الموارد الأساسية ، مقابل إبقاء هذه المناطق منعدمة الخدمات الضرورية مثل الصحة والتعليم وخدمات السجل المدني والمطارات الدولية التي تسهل حرية الحركة في الحالات الطارئة . ليبقى مطار الخرطوم هو المطار الدولي الأوحد ليكلف الناس أزمانهم ومواردهم أضعافا مع خدماته المتدنية ، وذلك منذ إعتماد شعار (نو فدريشن إن ون نيشن) من قبل (مجموعة الخرطوم) بالمائدة المستديرة بدلا من إعتماد نظام حكم فدرالي ينصف الجميع ويمكّن المجتمعات من المشاركة في القرار السياسي والإستفادة المباشرة من مجهودهم ومنتجاتهم كما كانت في أطروحات حزب سانو . وينتهي الحال – بعد ذلك – أن تصبح التنمية وحياة الناس في الأقاليم البعيدة معطلة تماما فيما يستفيد حفنة من السماسرة من عرقهم وإنتاجهم .

مسألة الدستور الدائم
وإذ يكن الدستور ، أي دستور ، هو العقد الذي ينظم العلاقات البينية لمكونات أي دولة كما في علاقات الناس فيما بينهم من جهة وعلاقات الناس مع الدولة ومؤسساتها من جهة أخرى ، إلا أنه في السودان يظهر وكأن الأمر الطبيعي بنظر القوى السياسية – التي لا تتوارى في الحديث عن انتخابات في دولة مجهولة الحدود والعلاقات البينية والتعداد السكاني – أن تحكم الدولة بدساتير مؤقتة وأوامر طوارئ وقرارات رئاسية عسكرية ، وهذه المسألة تعكس عظم ما هو مسكوت عنه من قبل تلك القوى ، لأن الأصل المنظم لحياة أي مجموعة هو الاتفاق على كيفية إدارة حياتهم طالما أنهم يشتركون البقعة المعينة حتى ولو تكن هذه البقعة مجرد (منزل) . وبالرغم من أن قضية الدستور الدائم لم تكن ضمن أولويات أو أجندة القوى التي تصنف نفسها قوى تقدمية ، إلا أن قوى الإسلام تبدو أكثر جدية من غيرها في إنشاء دولة وفق مقاسها وحاضنتها الاجتماعية من خلال تبنيها لمشروعات دساتير إسلامية مختلفة كما في دستور 1968م الذي نص على أن "السودان جمهورية ديمقراطية إشتراكية على هدي الإسلام" وكذلك دستور الإنقاذ 1998م الذي تضمن أن يكون (الإسلام) مصدر للتشريع – ناهيك عن إنشاء جبهة لقيام دستور إسلامي (جبهة الدستور الإسلامي) – ، غير أنها جميعها دساتير إسلامية إقصائية عنيت بها حكم شعوب موجودة في بلادها قبل ميلاد نبي الإسلام نفسه (571م) ، كما أنهم لا يكنون أي عداء للإسلام المستجلب إليهم حديثا والمفروض بقوة البندقية وقنابل السلطة وجهاز دولتها. ولو أن القوى السياسية التي تصنف نفسها بأنها قوى (التقدم ضد الرجعية) ، تعني قيام وبناء دولة مستقرة في السودان من خلال طرحها لكان من بينها ما قدم أو تبنى مسألة الدستور حتى يوقف عبث المغامرين المسلمين خصوصا بعد قوانين سبتمبر الإسلامية 1983م وكذلك قوانين وإعلانات الإنقاذ الإسلامية (في الفترة من 1989م إلى 2005م) حيث قتلت هذه القوانين والتشريعات الجهادية ملايين السودانيين . والأمر الجلي في هذا الجانب ، وبغض النظر عن محتويات أي دستور في كل مراحل ما بعد الإنجليز ، هو أن الدستور لم يكن قضية أساسية لأي من القوى ، لأن محركات معظم هذه القوى لا تختلف كثيرا عن المحرك المجتمعي الذي دفع العديد من الناس لرفض الإستقلال المتوهم بإعتبار أن إستقلال عام 1956م يعني عودة السودان إلى حكم الكتلة الغربية من السودان التي كانت تمثل جوهر وظاهر ما سميت بالدولة المهدية ، وهو ما كان صريحا في موقف القيادي الإتحادي والمحامي المعروف الأستاذ أحمد خيري الذي آثر الذهاب إلى مصر والعيش هناك بدلا من سودان يحكمه الغرابة الذين قال عنهم شاعر البطانة المعروف الحردلو :
"ناسا قباح من الغرب يوم جونا
جابو التصفية ومن البيوت مرقونا
أولاد ناس عزاز زي الكلاب سوونا
يا يابا النقز يا الإنجليز ألفونا
وهو ما يفسر حجم الوجود السوداني الكبير ضمن قوات المستعمر الإنجليزي آنذاك . ووجه الشبه في هذا الجزء أن العديد من القوى السياسية يظهر أنها تهمل قضية الدستور الدائم في الوقت الحالي وطوال العقود الستة الماضية أملا في إيجاده في وضعية أفضل وهو ما أسميناه بعملية "الهروب إلى الأمام" في مطلع هذه السلسلة (إعادة هيكلة الجيش أم الدولة؟..) ، وهو الوضع الذي أعتمده وأعلن عنه المؤتمر الوطني بقيادة البشير في مؤتمره الاقتصادي لعام 2004م حيث قرر قيام دولة عربية إسلامية في مثلث (الأبيض – دنقلا – سنار) وهو ما يمكن أن يقرأ على أنه العامل الرئيس في تكريه ودفع شعب جنوب السودان على إختيار الإبتعاد عن بلد ومجموعات لاتعرف قيمة للإنسان أبدا وذلك بعد التوقيع على إتفاقية نيفاشا والإتفاقيات اللاحقة التي لولاها لما بقي النظام القائم في السودان .
تزوير التاريخ وإخفاء الوثائق :
أخطر جرائم النظام القائم في السودان هي عمليات التزوير الواسعة التي شملت كل جوانب الحياة ، خصوصا تاريخ الحركة السياسية والمجتمعية في السودان .
كشفت البحوث التي أجراها الباحث الأستاذ حامد نور رئيس كونفدرالية المجتمع الدارفوري والقيادي بتحالف قوى نداء السودان عن عمليات تزوير واسعة طالت ليس التاريخ السوداني المعاصر وحسب ، وإنما تزوير معظم الوثائق التاريخية للحقب ما قبل الإستعمار ، ومن أشهر تلك الوثائق خطاب سلطان دارفور (محمد حسين بن محمد الفضل 1836م – 1874م) إلى قوات الغزو التركي إبان ما عرف بحملة الدفتردار الإنتقامية في القرن التاسع عشر والتي جاء أبرز ما فيها "لا يغرّنك إنتصارك على الجعليين والشايقية ، فنحن الملوك وهم الرعية".. الخ وجعلها كأنها من سلطان الفونج محمد الفضل ودعدلان ، تزوير هذه الوثيقة يفتح الباب واسعا ليس أمام التساؤل في حجم التزوير الذي حصل من قبل سلطات ما بعد الإنجليز وحسب ، وإنما للتشكيك في كل ما هو مطروح من قبلها بما فيها الوثائق المستند عليها في كل شيء ، وخصوصا أن البعض الآن يحاول تزوير تاريخ بداية الثورة الحالية – أمامنا – وكأنها بدأت في عطبرة 19 ديسمبر 2018م بدلا من حقيقة أنها بدأت في مايرنو والدمازين والفاشر في (6 – 13 – 16 ديسمبر 2018م) على التوالي . وفيما قد تفهم محاولة إخفاء الإستعمار للمستندات الخاصة بفترة حكمه للسودان على أنها محاولة لإخفاء جرائم الإدارة الإستعمارية ضد بعض المجتمعات وقيادات المقاومة السودانية كما حدث في تزوير التقرير الطبي لصحة القائد علي عبداللطيف رغبة في عدم إطلاق صراحه بعد إكمال مدة 10 أعوام من السجن قضاها عقب ثورة اللواء الأبيض ، ونفس الأمر قد حدث في تزوير الوثائق في دول أخرى لإخفاء الفظائع التي إرتكبها المستعمر الإنجليزي كما حدث بحق مقاومة "الماو ماو وقائدها ديدان كيماثي" في كينيا ، ولكن أن يتم إخفاء وتزوير وثائق السودان من قبل سلطات تسمي نفسها وطنية لهو جريمة لا يمكن التساهل معها أبدا. وبالقدر الذي قلل التاريخ السوداني من دور المقاومة منذ القرن السابع الميلادي ، فإن إخفاء وثائق الحكومة السودانية في الفترة التي سميت ب "المهدية" لهو أمر لا يختلف كثيرا عن أي جريمة إستعمارية أخرى. إن أعظم كبيرة للقوى التي تصف نفسها بأنها ديمقراطية وعلى رأسها حزب الأمة المُستلب لتاريخ المهدية بجانب القوى الأخرى هي عملية تزوير تاريخ للممارسة الديمقراطية حيث أن أول عملية ديمقراطية في السودان كانت في إحتفالية تنصيب الخليفة عبدالله تورشين الذي إختاره المهدي خليفة له ، إلا أنه أصر أن تكون مسألة قيادته مسألة تشاورية بين كل الأنصار بصورة علانية ومباشرة ، وقد أرّخ لذلك رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل في كتابه (حرب النهر ، الفصل الثالث ، صفحات 72/73) وأورد في وصفه للخليفة بالقول "إستطاع الخليفة الإنتصار على كل أعدائه تقريبا ، وأن المشهد العظيم الذي أبرزه السودان في الفترة من 1885م – 1898م يعود إلى قوته ، قائد مقتدر يتحمل كل المعاكسات ، يواجه كل خطر ، ويتجاوز كل الصعاب ، ويقدم جبهة صلبة لكل عدو" مع أن الضابط ونستون تشرشل نفسه كان أول أعداء الخليفة عبدالله تورشين وضمن القوة التي قضت على دولة الخليفة . إلا أن تاريخ السودان الذي أرّخ لتورشين بوصفه وحش قاتل وعزله عن محيطه بالقدر الذي يجعل من أنصاره يكرونه قبل أعداءه ، رغم أن حكومته كانت قد تألفت من كل مكونات السودان حيث كان ظاهرا في أسماء أحياء أمدرمان التي تم طمثها كما في حي فنقر ، حي التاما ، حي الفلاتة ، حي البرقو ، حي الدرو..الخ ، ليتم إعادة تسميتها بالموردة ، والعباسية وبانت على التوالي بجانب حي السروجية الذي تمت تسميته بالهاشماب ، فيما لم يطلق إسم الخليفة عبدالله تورشين على أي من أحياء أو طرق الخرطوم التي من بينها شارع الزبير رحمة تاجر الرقيق المشهور حيث لا تزال الأغلال وأدوات الرق الأخرى تتخلل الأشجار في مقره بمنطقة (إيوجوكو) التي سميت ب (ديم زبير) بغرب بحر الغزال.
التعريب والأسلمة القسرية :
طرد آلاف الطلاب السودانيين من العملية التعليمية سنويا بسبب شرط النجاح في اللغة العربية كصك الموافقة على المواصلة في التعليم ضمن مؤسسات التعليم العالي في السودان لهو فقط أحد أوجه عمليات التعريب القسرية الناعمة في السودان ، لأن التعريب القسري في السودان هو سبب رئيس في حرب السلطة ضد المواطنين في إطار سعيها لإقامة وتثبيت دولة عربية في السودان . قد يظهر في بادئ الأمر أن أخطر عمليات الأسملة العنيفة ضد السودانيين تلك التي وقعت إبان الغرو العربي المسلم بقيادة عبدالله بن أبي السرح وإدارة عمرو بن العاص حيث خيرت تلك القوات الغازية السودانيين "رماة الحدق" بين الإسلام ومن ثم تسليم وطنهم وإرادتهم للمستعمر العربي – كما حدث في أسبانيا (الأندلس سابقا) وغيرها – أو القيام بما عليهم من مطلوبات كما ورد في بعض بنود إتفاقية البغط التي يتم تدريس جزء منها في كتاب التاريخ المدرسي السوداني (طبعة 1975م) ، حيث قبل السلطان قلاوون حينها (641م) دفع أبناء مملكته وفلذات أكباده لقاء عدم السماح للعرب المسلمين الدخول والإقامة في بلده عدا لأغراض التجارة والسفر ، بينما لم يتم تدريس بقية ومصير تلك الإتفاقية وكيف أن العرب المسلمين لم يلتزموا بها أبدا كشأن حال الدولة المستعربة في السودان في الفترة (1956م – 2022م ، ولا تزال قائمة). ولكن تجلت بشاعة الأسلمة والتعريب القسري ضد السودانيين من خلال عمليات كي أصلاب بعض القيادات الأهلية بنار "ختم الإسلام" كما في قصص جوبا وبعض بلدات جنوب السودان الأخرى بجانب إختطاف الأطفال وإستعبادهم وإسترقاقهم وإستخدامهم في الرعي في مناطق الشريط الحدودي الحالي بين السودان وجنوب السودان حيث تجاوز العدد الكلي للإسترقاق في منطقة أبيي وحدها 40 الف مسترق ما بين طفل وإمراة وكذلك في مناطق أخرى مثل بحرالغزال بينها قصة زميل المهنة المعروف (ن. د، أمنياتي له بدوام الصحة والعافية وطولة العمر) الذي تم إستعباده في منطقة الضعين لعدة أعوام وإستخدامه في رعي المواشي قبل تمكنه من الهرب وعودته إلى بلده بعد أن تجاوز الثاني عشر من عمره. مطالبة السيد عبدالرحمن علي طه عضو وفد الخرطوم في مؤتمر جوبا 1947م – و أول وزير تعليم في ما عرفت بحكومة السودنة – بضرورة السيطرة على العملية التعليمية وسودنة المدارس الكنسية الإنجليزية ، كانت قد إنطوت على أخطر شر يواجه السودانيون ، حيث كانت البداية الرسمية لعملية تعريب قسرية شملت كل أنحاء السودان وترتبت عليها أقسى عمليات التجهيل والإبعاد المنظم لشباب السودان من العملية التعليمية بسبب إجبارهم علي إجادت اللغة العربية وتغيير أسماءهم بحيث تكون منطوقة ومستساغة للأستاذ والموظف السوداني الذي لا يعرف إلا العربية والتي يتعامل معها كمعيار للحكم على مدى المعرفة لدى الناس . ولو أنه تمت مراجعة سجلات إدارة إمتحانات المرحلة الثانوية في السودان لوجد أن الملايين من السودانيين قد تم حرمانهم من التعليم بسبب سياسات التعريب الحكومية وبالتالي حرمانهم من فرص الحياة الكريمة وقتل حلمهم ودورهم في المساهمات الإنسانية التي من شأنها تغيير العالم كما فعل أقرانهم الذين لم تلفظهم مدارسهم بسبب لغات دخيلة عليهم ، ليجدوا أنفسهم مجبرين للعمل في الأعمال الجسدية والجندية ك "أفضل حال في نظرهم". إن عملية التعريب قد كُرّس لها في جميع مناحي الحياة ، حيث بات من الطبيعي أن تجد العديد من الناس الذين تم تغيير أسماءهم في المدارس وكذلك موظف إدارة السجل المدني في السودان يمكنه بكل سهولة تغيير أسماء الناس فقط لأنه يعجز عن نطقها كما أنه لا يعرف قيمتها ودونكم ما يحدث بصورة يومية في إدارات السجل المدني المختلفة على إمتداد السودان حيث يتم إستخراج مئات المستندات بأسماء خاطئة . أيضا يسهل أن يسمع الناس السخرية اليومية منهم فقط لأن بعضهم لا يستطيع نطق بعض الكلمات العربية بذات القدر الذي يعجز موظف السجل المدني من نطق العديد من الأسماء الإفريقية ، ولكن عادة ما يقلل من قيمة من لا يجيد العربية وهو ما يتجلى في الدعابة اليومية (النكات) حيث يقال إن أحدهم "إسمه زي جري الكلب في اللوبة" أو "نكات أبكر وحفصة". إن كتاب قبائل السودان الذي أعاد المؤتمر الوطني طباعته في العام 2005م هو الآخر يؤصل أو يربط كل القبائل السودانية إلى مجموعات عربية خليجية بينما يلاحظ في كتاب الجغرافيا المدرسي القديم عن قبائل السودان عدم وجود أو ظهور أي قبيلة سودانية أصيلة على الخريطة حينها عدا بعضها في جنوب السودان . هذه الممارسات أكدت على نبوءة قادة مقاومة توريت الذين وصفوا عملية السودنة وقتها على أنها عملية إستبدال المستعمر الأبيض بالأحمر ، أي الإستعمار العربي محل الإنجليزي ، وبالتالي إشعال شرارة المقاومة في توريت والتي قال عن أحداثها بروفيسور عبدالله الطيب مفسر القرآن الكريم في إذاعة أم درمان المعروفة بالإذاعة القومية "ألا درى قبر الزبير بما جرى ،، بأننا نذبح وسط الزنج ذبح البهائم – كتاب التعدد الإثني والديمقراطية في السودان"، حيث تمنى مفسر القرآن الكريم بروفيسور عبدالله الطيب أن يعود عهد الزبير تاجر الرق حتى يبقى هؤلاء الزنوج إلى حظيرة الرق في ديم زبير على أقل تقدير ، وإذا كانت هذه هي رؤية عبدالله الطيب ، فما بال الآخرين من تلامذته وغيرهم .
محركات الفعل السياسي :
فاتحة السيد عبدالخالق محجوب سكرتير عام الحزب الشيوعي السوداني الأسبق في قوله "نعم نحن أحفاد الزبير باشا ، ولكن الرق جريمة" في خطابه في مؤتمر المائدة المستديرة في مارس 1965م ، تظهر العديد من الأشياء التي يمكن إعتبارها على أنها أساس محركات الفعل السياسي في السودان ، مع أن البعض قد يعتقد أن هذا المدخل نفسه ينطوي على أزدواجية خصوصا إذا ما قرئ مع نتائج المائدة المستديرة الصفرية وغياب الحس الجمعي الوطني بين المؤتمرين على الأقل وسط القوى التي لا ترى في عملية السودنة المجحفة بحق غالب السودانيين بأنها مشكلة حقيقية – في عدم التقاسم العادل للسلطة في أول حكومة سودانية – والتي هي الأساس في المطالبة بالحكم الفدرالي أو تقرير المصير طالما أن ما حدث مجرد إستبدال للمستعمر (ستة وظائف فقط للجنوبيين من جملة 800 وطيفة) . ولو أن مسألة قضية الحكم كانت قد عولجت وفق رؤية حزب سانو المطالب بالفيدرالية بقيادة السيد وليم دينق بدلا من إغتياله ، أو ربما كان يمكن معالجتها وفق أطروحة الجبهة الجنوبية أو حتى وفق رؤية السيد أغري جادين في ذات العام (1965م) بدلا من تحقيق ذات الأمر في العام 2011م بعد إبادة الملايين من الناس . قوى الحرية والتغيير والحزب الشيوعي السوداني "المنسحب" بجانب قوى أخرى لا تزال تردد أن المجلس العسكري (لجنة البشير الأمنية) يقرأ من نفس كتب الإنقلابيين السابقين ، وهذا صحيح إلى حد ما لأن المرء أعجز من أن يفعل ما لا يطيق أو يعرف ، كما أن العسكر يفعلون ما تم تدريبهم عليه من أسلوب الإدارة الذي لا يقبل النقاش حوله وهو ما كان ظاهر في رد فعل البرهان تجاه القيادي الإتحادي السيد محمد الفكي سليمان عضو مجلس السيادة والسيد خالد عمر يوسف وزير شؤون مجلس الوزراء والقيادي بحزب المؤتمر السوداني بجانب إدارة الأمور عبر خلق الأزمات والمشاكل لدفع الناس للإختيار بين الأقل سوءا في كل الأحوال وهو حكم العسكر في حالتهم . ولكن القوى السياسية هي الأخرى ظلت تكرر ذات السيناريوهات السابقة ، مثل الحديث عن قيام انتخابات محدودة والإصرار على أنها شاملة مع تجنيب قضايا الحرب والسلام في كل مرة تحصل فيها إنتفاضة وهو ما يظهر أن الكل لا يقرأ وحسب، وإنما يعيد نفس التاريخ والتجارب السابقة الفاشلة ويتوقع في الوقت ذاته نتائج مغايرة وهذه مغالطة غير علمية وغير منطقية. عدم الإعتراف السياسي بالقضايا التي تطرحها قوى المقاومة ، يجعل من قوى المقاومة تنزع إلى كل من يعترف بها حتى ولو كان ذلك المجلس العسكري الإنقلابي أو المكون العسكري في حكومة ما بعد البشير ، وهو ما يشرح تحالف بعض قوى المقاومة الموقعة على إتفاق جوبا أكتوبر 2020م مع قوات الإحتلال ضد حلفاءها السابقين الذين لا يعترفون بحقهم السياسي عدا محاولة إستخدامهم ككروت ضغط على المكون العسكري . وبإعادة النظر إلى حقبة ما بعد الإنجليز ، يتضح أن العسكر – الذين هم في إتصال مع العديد من القوى السياسية – أكثر إستجابة لصوت بندقية المقاومة من القوى السياسية ، وذلك ليس لأن العسكر يرغبون في حل "المشكل السوداني" وإنما لأن بندقية المقاومة تصيبهم هم أنفسهم بالدرجة الأولى بدلا من الذين يستخدمونهم في عملية بناء الدولة العربية المتوهمة. مدخل عبدالخالق محجوب يفسر بوضوح التعقيدات المجتمعية التي سادت تلك الحقبة و لا تزال قائمة إلى اليوم والدور التي تلعبه هذه التعقيدات – بجانب عقد أحمد خيري والحردلو وصديق آخر – في صنع القرار السياسي وكيف أن القوى السياسية السودانية من جهة وقوى المقاومة من الجهة الأخرى ظلت متباعدة من حيث الرؤى والنظر إلى القضية السودانية ، ففي الوقت الذي تعترف القوى السياسية بالدولة التي شاركت هي في بناءها على حساب دولة الخليفة المهدومة التي شكل غالبيتها العنصر السوداني ، ترى قوى المقاومة أن هذه الدولة مجرد سلطة إستعمارية أخرى، وهذا الأمر لا يزال يتسيد الموقف .
مما تقدم ، وبجانب المحرك الاجتماعي للفعل السياسي في السودان ، يمكننا أن ندرك كيف تغيّب (سؤال المشكلة في السودان) وسط القوى السياسية، لأنه يتضح أن هناك إختلاف متعارض متعاكس حول تعريف المشكل السوداني بالقدر الذي لا ترى معه قوى الخرطوم ولا تحس ألم قوى المقاومة التي تستعد للموت من أجل قضيتها كل يوم ولحظة. أيضا، من خلال الشعارات الواضحة لهذه القوى من على شاكلة (نحن جندالله .. الله أكبر .. الله الوطن .. الله أكبر ولله الحمد .. أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة .. دولة المدينة .. الطبقة) .. الخ ، حيث تبين هذه الشعارات – الوافدة جملة وتفصيلا – أن هذه القوى عبارة عن مجموعات من المغامرين الذين لا يرون في إنسان ومجتمعات وشعوب السودان على أنها مكونات آهلة معتبرة ، وإنما مجرد مجموعات وشعوب غابية خاوية "تعاني فراغ ثقافي لكونها لا تدين بالإسلام" – كما يقول أحدهم – أو كما قال الزعيم الإتحادي إسماعيل الأزهري "إن الأمة العربية جاءت إلى إفريقيا من أجل نشر ثقافة سامية" أو كما في رمزية الأغنية الشهيرة "للعلا .. للعلا" ضمن أخريات، وكذلك ما جاء في كتاب (الديمقراطية في الميزان) لصاحبه رئيس الوزراء الأسبق محمد أحمد المحجوب في وصف الإنسان السوداني في الجنوب بأنه يقضي كل وقته في ممارسة الرقص والمجون.
هذه الأفكار والمشروعات التي لا ترى في واقع السودان ما يمكن أن يكون مصدر للفعل السياسي ولا يرقى لأن يكون ملهم قيمي لتأسيس دولة مستقرة من مجموع الثقافات السودانية الإفريقية الأصيلة التي في مجملها تتجاوز أساسيات ما هو مقدس لدى العديد من مختلف الأمم والأديان وكما يظهر في الممارسات اليومية لهذه الشعوب السودانية من عفة وطهارة وكف الأذى وإكرام الضيف دون أن يكون ذلك مشجع له عبر مقدسات وافدة. ولو أن القوى السياسية في السودان قدر لها أن تعي معنى الدولة وكيف تبنى الدول ، لما ورطت نفسها في آيديولوجيا عزلتها عن مكون السودان الأعظم وجعلتها تتآكل فيما بينها إلى اليوم ، ودون أن تدرك قيمة الإنسان بالدرجة الأولى ناهيك عن قيمه وثقافاته وعاداته السلمية الغنية بالروح ونظمه المجتمعية وتاريخ ممالك ونظم الشعوب السودانية التي يمكن أن تكون مصدر تشريع لكل ما يطرأ في الإطار العام، وروح دافعة لكل أنماط الإبداع لإخراج كل ما يحتويه الإنسان من جمال.
يتواصل ..

[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.