ترامب: الهجوم على قطر قرار نتنياهو ولن يتكرر مجددا    إتحاد الدامر يحدد موعد قرعة الدوري المحلي    جلسة طارئة لمجلس الأمن لبحث الغارات الإسرائيلية على الدوحة    في الجزيرة نزرع أسفنا    منتخبنا الوطني يضيع النقاط والصدارة .. والحلم !    اعتقال إعلامي في السودان    السودان..تصريحات قويّة ل"العطا"    نوتنغهام يقيل المدرب الذي أعاده للواجهة    شاهد بالفيديو.. حسناء الإعلام السوداني تستعرض جمالها بإرتداء الثوب أمام الجميع وترد على المعلقين: (شكرا لكل من مروا من هنا كالنسمة في عز الصيف اما ناس الغيرة و الروح الشريرة اتخارجوا من هنا)    أعلنت إحياء حفل لها بالمجان.. الفنانة ميادة قمر الدين ترد الجميل والوفاء لصديقتها بالمدرسة كانت تقسم معها "سندوتش الفطور" عندما كانت الحياة غير ميسرة لها    شاهد بالصور.. القوات المسلحة تتمدد والمليشيا تتقهقر.. خريطة تظهر سيطرة الجيش والقوات المساندة له على ربوع أرض الوطن والدعم السريع يتمركز في رقعة صغيرة بدارفور    شاهد بالصور.. مودل وعارضة أزياء سودانية حسناء تشعل مواقع التواصل بإطلالة مثيرة من "العين السخنة"    شاهد بالصور والفيديو.. شاب سوداني يشعل مواقع التواصل الاجتماعي ببلاده بزواجه من حسناء تونسية وساخرون: (لقد فعلها وخان بنات وطنه)    شاهد بالصور.. القوات المسلحة تتمدد والمليشيا تتقهقر.. خريطة تظهر سيطرة الجيش والقوات المساندة له على ربوع أرض الوطن والدعم السريع يتمركز في رقعة صغيرة بدارفور    شاهد بالصور والفيديو.. شاب سوداني يشعل مواقع التواصل الاجتماعي ببلاده بزواجه من حسناء تونسية وساخرون: (لقد فعلها وخان بنات وطنه)    شاهد بالفيديو.. أطربت جمهور الزعيم.. السلطانة هدى عربي تغني للمريخ وتتغزل في موسيقار خط وسطه (يا يمة شوفوا حالي مريخابي سر بالي)    شاهد بالصورة.. محترف الهلال يعود لمعسكر فريقه ويعتذر لجماهير النادي: (لم يكن لدي أي نية لإيذاء المشجعين وأدرك أيضا أن بعض سلوكي لم يكن الأنسب)    أمير قطر لترامب: سنتخذ الإجراءات كافة لحماية أمننا وسيادة بلادنا    والي الخرطوم يدين الاستهداف المتكرر للمليشيا على المرافق الخدمية مما يفاقم من معآناة المواطن    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    "تأسيس" تهنئ إثيوبيا بإفتتاح سد النهضة    بث مباشر لمباراة السودان وتوغو في تصفيات كأس العالم    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    هذا الهجوم خرق كل قواعد الإلتزامات السياسية لقطر مع دولة الكيان الصهيوني    إيران: هجوم إسرائيل على قيادات حماس في قطر "خطير" وانتهاك للقانون الدولي    نجاة وفد الحركة بالدوحة من محاولة اغتيال إسرائيلية    سلاح الجو السوداني يشن غارات مكثفة على مواقع ميليشيا الدعم السريع في محيط بارا    ديب ميتالز .. الجارحى ليس شريكا    شعب منكوب محاط بالغزاة والطامعين ومغتصبي الأرض والنساء والمعادن    "فيلم ثقافي".. هل تعمد صلاح استفزاز بوركينا فاسو؟    «لا يُجيدون الفصحى».. ممثل سوري شهير يسخر من الفنانين المصريين: «عندهم مشكلة حقيقية» (فيديو)    التدابير الحتمية لاستعادة التعافي الاقتصادي    ضبط (91) كيلو ذهب وعملات أجنبية في عملية نوعية بولاية نهر النيل    الهلال والأهلي مدني يتعادلان في سيكافا    تمويل مرتقب من صندوق الإيفاد لصغار المنتجين    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    مواعيد خسوف القمر المرتقب بالدول العربية    وزارة المعادن تنفي توقيع أي اتفاقية استثمارية مع شركة ديب ميتالز    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تفاصيل جديدة حول جريمة الحتانة.. رصاص الكلاشنكوف ينهي حياة مسافر إلى بورتسودان    قوات الطوف المشترك محلية الخرطوم تداهم بور الجريمة بدوائر الاختصاص وتزيل المساكن العشوائية    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    من صدمات يوم القيامة    "وجيدة".. حين يتحول الغناء إلى لوحة تشكيلية    فعاليات «مسرح البنات» في كمبالا حنين إلى الوطن ودعوة إلى السلام    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    حادث مأسوي بالإسكندرية.. غرق 6 فتيات وانقاذ 24 أخريات في شاطئ أبو تلات    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    أخطاء شائعة عند شرب الشاي قد تضر بصحتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاتفاق الإطاري.. ومستقبل التحوُّل الدِّيمُقرَاطي
منتدي (آرت فورم) - دار الجالية السودانية تورونتو - كندا
نشر في الراكوبة يوم 27 - 01 - 2023


السَّيِّدات والسَّادة الحُضُورُ الكريم،
بمُختلف مقاماتِكُم السَّامية ومع حفظ الألقاب للجميع،

السَّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،

أشكُرُكُم/أشكُرُكُن على تكبُّد المشاق وتكرُّمكُم/تكرُّمكن باقتطاع ساعاتٍ من يومكم هذا بالحُضُور لهذه الندوة، التي نناقش فيها قضايا وطننا السُّودان حول "الاتفاق الإطاري" ومستقبل التحوُّل الديمقراطي، والشُّكر يمتدُّ للذين/اللائي انضموا في متابعة هذه الندوة من خلال وسائط التواصُل الاجتماعي التي جعلت من البعيد قريباً، فلكُم ولهُم الشُّكر الجَّزيل، وأتمني أن يكون محتوى هذه الندوة مفيداً وقادراً على استنهاض واستكمال روح الأمل عند السُّودانيات والسُّودانيين التي تنامت خلال ثورة ديسمبر المجيدة، ولا تزال مُتَّقدة ومُستمرَّة دون انقطاع.

اسمحوا لي وعبركم التقدُّم بالشُّكر لمُنظمي هذه الفعاليَّة، السَّيِّدات والسَّادة في منتدى (ART Forum)، الذين سارعوا في تقديم الدَّعوة لإقامة هذه الندوة ضمن مجهوداتهم المُتواصلة في تعزيز الحوار والنقاش الحُر الديمقراطي بين مختلف الآراء، وفي هذا السِّياق، من الضَّروري التأكيد على قاعدة أساسيَّة مُتعارفٌ عليها، وهي أنَّ الآراء الواردة من جانبي لا تُعبِّر عن السيدات والسادة الأفاضل بالمُنتدي، وإنْ تمَّ استعراضها في مِنصَّتهم. ولذلك، فمن الضَّروري تجديد الشُّكر لهُم مرَّة أخرى على هذه الاستضافة الكريمة.

دعوني استهلُّ هذه الفعاليَّة المُهمَّة بتحيَّة شُهداءٌ وشهيداتٍ قدَّمهم شعبنا في مشواره الطَّويل من أجل الحُريَّة والديمقراطيَّة والسَّلام، ارتقت أرواحُهُم لمعارج العُلا، وتمدَّدت جثامينهم الطَّاهرة على امتداد وطننا في السُّودان الكبير، ذو المليون ميل مربع، وما تبقى منه شمال خط 13 درجة شمال.. لقد أنارت دماء تضحياتهم/تضحياتهن تلك وعبَّدت مشوارنا الطويل صوب وطن الحُريَّة والسَّلام والعدالة، وسيظلَّ الناس يستلهمون من تضحياتهم تلك وصبر وجَلَد أُسَرِهِم أو أصدقائهم وصديقاتهم وكُلَّ من عرفوا اليقين والعزم، بأنَّ أحلامهم المشروعة تلك قد نتأخَّر أو نتعثَّر في بلوغها، لكن سنبلُغُها بإذن الله تعالي في يومٍ من ذات الأيَّام.

ستظلَّ هامتنا تنحني بكل التقدير والاحترام والعرفان والامتنان لسودانيات وسودانيين جرحى، مِمَّن وَسَموا على أجسامهم قلائد الفخر والشَّرف بجُرُوحهم في معركة الشَّرف والنضال لأجل شعبهم، ولا ننسى كذلك المُعتقلين والمُعتقلات الذين واللائى تمَّ الزج بهم في السُّجون، فخرجوا منها، ولم تزِدهُم إلا صُمُوداً وتحدي، أو حتى الموجودين داخلها الآن، يقيناً أنَّ الإجراءات والبلاغات المفتوحة في مواجهتهم ومواجهتهن إلى زوالٍ، وفي القريب العاجل ستسطع الحقيقة وتعُم أركان المكان، بأنهم أبرياء، ناضلوا من أجل الحُريَّة وينالونها لأنهم يستحقونها.

وفي كل يوم سنلقي أبصارنا صوب السَّماء، نسأل الله تعالى أن يكشف لنا مصير المفقودين والمفقودات ممَّن فقدناهم خلال السَّنوات الماضية، لنعرف مصيرهم.. أهُم أمواتٌ فنذكُرهُم ضمن من قدَّمناهُم شهداء، نستكمل مشوارهم ونتوصَّل لقتلتهم، أم أحياء فنجتمع معهم بعد تحريرهم من سجنهم أو أسرهم، وإنهاء إعتقالهم أو إخفائهم القسري.. سنعمل من أجل هذه اللحظة ونؤمن أنها قادمة لا محالة، فلا أحد أو جهة يستطيعوا إخفاء الحقيقة إلى الأبد، ومهما يكُن عند المرء جريمة، وإن خالها تَخفَى على الناس.. ستُعلَم.

من المهم ألَّا يفوتنا ونحن نُعايش هذه الأيام الذكرى ال(38) لجريمة مقتل واستشهاد المُفكِّر الأستاذ/محمود محمَّد طه في 18 يناير 1985م، والذي كان إغتياله جُرماً سياسياً مُنكراً، بعد محاكمته على أفكاره، ولذلك فإنَّ ذات العقليَّة التي استباحت دمُهُ عَمَدَت بعد استيلائها على السُّلطة في يونيو 1989م، على إراقة دماء سُودانيين وسودانيَّات، لتجرى أنهاراً منها في سُوح الجامعات والكليات والمدارس في كل إتجاهات البلاد، جنوباً وشرقاً وغرباً وشمالاً، وحتى العاصمة الخُرطوم. إنَّ السُّودانيين والسُّودانيات مُصمِّمين، رغم التضحيات الجسيمة، وبرغم رائحة الدَّم ورُكام الدَّمع على مدار عُقود، أجيال بعد أجيال، بأن يجعلوا من أحلامهم وتطلعاتهم ممكنة، وليست مستحيلة.
ندوة الاتفاق الإطاري.. ومستقبل التحوُّل الدِّيمُقرَاطي – تورنتو – كندا
السيدات والسادة الحُضُور الكريم بمُختلف مقامكاتكم السَّامية، ومع حفظ الألقاب للجميع..
حسب عنوان هذه الندوة "الإتفاق الإطاري ومُستقبل التحوُّل الدِّيمُقرَاطي"، سنحاول التركيز على الإجابة على محاورها الأساسيَّة، والتي تتمثل في الآتي:
* تقييم الاتفاق الإطاري كخارطة طريق وتمهيد العمليَّة لاتفاقٍ شامل.
* إيجابيَّات وسلبيَّات الإتفاق.
* مستقبل التحوُّل الديمقراطي في ظل تعقيدات الوضع السياسي والإقتصادي والأمني.

مشهدٌ متصدِّع
من المهم النظر للواقع الذي تمخض عنه "الإتفاق الإطاري" المُوقَّع في 5 ديسمبر 2022م، فانقلاب 25 أكتوبر 2021م وصل لمرحلة الانسداد الكامل والتحلل الذاتي.. فالإنقلاب، الذي خرج للدُّنيا وهو يحمل مُتلازمات الفشل السياسي والاقتصادي والدبلوماسي، والرَّفض الشعبي، شهد تحوُّلاتٍ إضافيَّة وسط مُكوِّناته، فبات من الواضح أن كتلته الداخليَّة تتعرَّض لتحلُّلٍ عميق، وقابلة للاشتعال والصِّدام، فاقمت منها تبايُناتٍ بين قائد الإنقلاب، قائد الجيش، الفريق أوَّل رُكن عبدالفتاح البُرهان، ونائبه قائد قُوَّات الدَّعم السَّريع، الفريق أوَّل محمَّد حمدان دقلو "حميدتي". وبشكلٍ مباشر، فإنَّ هذا التبايُن تركَّز بشكلٍ أساسي في ملفَّاتٍ أساسيَّة، يتصدَّرها الموقف من تنظيم الحركة الإسلاميَّة وأمينها العام علي كرتي، وإلغاء قرارات لجنة تفكيك التمكين الصَّادرة ضدَّ عناصرهم ومُمتلكاتهم، ويُنظرُ لموقف "حميدتي" الرَّافض لمُبادرة أهل السُّودان بقيادة الشيخ الطيِّب الجِّدْ، ومُناهضته العلنيَّة لها بشكلٍ أسهَمَ – ضمن عناصر أخرى – في إضعافها، وشكَّل أحد أشكال هذا الصِّراع والتبايُن.

من بين الأزمات الصَّامتة وغير المُعلنة بين الطَّرفين، تلك المرتبطة بالتحوُّلات الإقليميَّة والدَّوليَّة في العديد من الملفات التي شهدت تبايُناً حقيقياً بين الطرفين، بداية من الموقف من أطراف الحرب الأثيوبيَّة ما بين حُكومة آبي أحمد وجبهة تحرير التقراي، وهو خلافٌ بدوره يعكس تبايُناً في توجُّهاتٍ إقليميَّة، حسب توجُّهات وعلاقات الرَّجُلين، أمَّا الموقف من الوجود الرُّوسي والتقاطعات المُتصلة به، على الصَّعيد العسكري أو الإقتصادي، ورغم تمتع الطرفين بعلاقاتٍ مع موسكو، فإنَّ محاولة ربط الحبل حول عُنُق "حميدتي" بتصويره كحليفٍ لروسيا في الخُرطوم، بغرض استخدام هذه الحُجَّة لتغطية عمليَّة الانقضاض على الرَّجُل، فإنها فاقمت وعزَّزت الشُّكُوك وعدم الثقة بين الطَّرفين.

بالنسبة للمجموعات السياسيَّة المُساندة لإنقلاب 25 أكتوبر، كان من الواضح أنها تفتقد للبُعد الجماهيري الشَّعبي، وتعتمد بشكلٍ كاملٍ على التغطية السياسيَّة المُقدَّمة من المُكوِّن العسكري – قبل تصدُّعه – وهُو ما وَضَحَ في الحشد والتنظيم وتمويل اعتصام 16 أكتوبر 2021م، أو الاستفادة من موارد الدَّولة وإمكانياتها في تدعيم أنشطتهم السياسيَّة والإعلاميَّة، لكن فعلياً، ما أثَّر على هذه المجموعة هُو تبايُن المواقف وسط أطراف إتفاق سلام جوبا، فبعضها اتخذ منذ 8 سبتمبر 2021م قراراً بالوحدة مع المجلس المركزي للحُريَّة والتغيير، وبالتالي فإنَّ استمرارهم داخل هياكل السُّلطة التي تمَّت إعادة تشكيلها بعد إنقلاب 25 أكتوبر، كان عامل مُعرقل للإنقلاب أكثر من إسهامه في توطيد أركان الانقلاب.

في ما يتصل بقُوى الثورة، فمنذ التوقيع على الإعلان السياسي (يوليو 2019م)، وضح أنَّ تلك الكتلة تُعاني من تصدُّعٍ داخلي جرَّاء الموقف من التوقيع على الإعلان السياسي (يوليو 2019م)، والوثيقة الدُّستوريَّة (أغسطس 2019م)، وتشكيل مُؤسَّسات الحُكم الدُّستوريَّة وفق الشراكة بين المدنيين والعسكريين، مع عدم إغفال تفجُّر خلافٍ آخر بسبب التبايُن ما بين قُوى الحُريَّة والتغيير والجبهة الثوريَّة، والذي إنتهى لإختيار الجبهة الثوريَّة لمسارِ آخر تمظهر في إتفاق سلام جوبا المُوقع في أكتوبر 2020م.

يُعتبر التصدُّع الأكبر والأكثر وضوحاً، عند خُروج الحزب الشيوعي السُّوداني من الحُريَّة والتغيير وقُوى الإجماع الوطني (نوفمبر 2020م)، وتبنِّيه لشعار "إسقاط حكومة المرحلة الانتقاليَّة"، بعد المُفاصلة الأيديولوجيَّة بين الحزب والمرحلة الإنتقاليَّة على خلفيَّة تبني مُؤسَّسات الحُكم الإنتقالي برنامج الإصلاح الاقتصادي مع مُؤسَّسات التمويل الدَّوليَّة، التي يناهضها الحزب الشيوعي بشكلٍ واضح، ويطلق عليها تعبير: "وصفة صندوق النقد والبنك الدَّوليين".

رغم المخاطر التي باتت تحيط بثورة ديسمبر، وتنامي إرهاصاتها، وتصاعُدها بشكلٍ مُستمر منذ فبراير 2021م وحتى إعتصام 16 أكتوبر أمام القصر الجُّمهُوري، وحتى إستبانة لحظة الحقيقة فجر 25 أكتوبر، وما تلى ذلك من مقاومة الإنقلاب، فإنَّ جبهة قُوى الثورة لم تمضي صوب وحدة مُكوِّناتها، بل شَرَعَت أطرافها الأساسيَّة في محاولة حسم الجَّولة لصالحها بتشديد العُزلة والإبعاد، وتقديم خطاب "تخويني تجريمي"، مثَّل الحاضنة التي مكَّنت الأجهزة الأمنيَّة الشعبيَّة التابعة للنظام المُباد، أو بعضها الرَّسمي التابع للدَّولة، من تغذية الخطاب العدائي للأحزاب، وتغطية أنشطة العُنف المادي ضدَّ بعض مُكوِّنات الثورة (نموذجاً ندوة ميدان الرَّابطة بشمبات ديسمبر 20121م، وفضُّ ندوة الحزب الشيوعي بميدان الحارة الثامنة بأمدرمان مارس 2022، والإعتداء على موكب السُّودان الواحد وقيادات الحُريَّة والتغيير بباشدار يوليو 2022م).

أبرزت ثورة ديسمبر 2018م مُكوِّناتٍ جديدة، أبرزها تجمُّع المهنيين السُّودانيين ولجان الأحياء، فالأول – تجمُّع المهنيين – قادته الصِّراعات السياسيَّة الحزبيَّة للإنشطار، وهو صراعٌ لم يكُن بعيداً عن أجواء الإنقسام اللاحقة التي فتت تحالف قُوى الحُريَّة والتغيير بخُروج الحزب الشيوعي الرَّسمي منها، أمَّا لجان الأحياء التي تطوَّرت منذ هبَّتي يونيو 2012 وسبتمبر 2013م، وصولاً لثورة ديسمبر 2018م – إلى "لجان المقاومة"، فقد وضح أنها ستكون ساحة للاستقطاب السياسي منذ دفعها لتبني موقف مُناهض للأوضاع الدُّستوريَّة التي أنتجت مُؤسَّسات الحُكم الانتقالي، وتزايد هذا الإستقطاب بعد خروج الشيوعي رسمياً من الحُريَّة والتغيير (نوفمبر 2020م)، وعند وقوع إنقلاب 25 أكتوبر 2021م، فإنَّ لجان المقاومة تصدَّرت المشهد من خلال فعلها المُقاوم على الأرض للإنقلاب. ومن المهم الإشارة لوجود فروقاتٍ في فعاليَّة وتكوين "لجان المقاومة" من ولاية لأخرى، ومدينة لأخرى.

مرَّت "لجان المقاومة" بالعديد من المحطات خلال الفترة من 25 أكتوبر 2021م إلى ديسمبر 2022م، أهمَّها، ظُهُور مقترحات مواثيق "مايرنو/مدني"، ثمَّ التوقيع على ميثاق سُلطة الشَّعب، الصَّادر عن لجان ولاية الخُرطوم (مايو 2022م)، ومسعى وحدة المواثيق، الذي شهد شدٌ وجذب، إنتهى بالتوصُّل في أكتوبر 2022م للميثاق الثوري، والذي تسبَّب في تفجير الخلافات وسط مُكوِّنات "لجان المقاومة"، خاصة مع الإتهامات المُوجَّهة للميثاق الثوري، بأنه يُعبِّر في المضمون والفاعلين عن مُكوِّن سياسي مُعيَّن، هو الحزب الشيوعي.

خلاصة الأمر والمشهد، أنَّ داء التصدُّعات نفسه أصاب "لجان المقاومة"، وبغضِّ النظر عن الأطراف أو المُلابسات أو تحليل الوقائع، فإنَّ النتيجة النهائيَّة كانت إصابة لجان المقاومة بداء الانقسامات، أمَّا محاولة إنكار هذا الانقسام فهو بمثابة دفن الرُّؤوس في الرمال، أو محاولة إظهار الأمر وكأنَّ "لجان المقاومة" تُساند موقفاً أو توجُّهاً سياسياً مُعيَّناً، أو مُحدَّد، في حين أنَّ الحقيقة بأنَّ أطرافاً وأصواتاً من داخل "لجان المقاومة" أنفُسهم باتوا فعلياً موجودين تحت سقف "لجان المقاومة" المُوحَّد، في ما تقف أقدامهم فوق رمادٍ تمُورُ تحته وميض الخلافات والتبايُنات.

الأمر المُدهش، أنَّ حالة التصدُّعات تلك لم تقتصر على مُكوِّنات المشهد السياسي السُّوداني، وامتدَّ للمحيط الإقليمي، وحتى الدَّولي. فعلى المستوى الإقليمي، كان من الواضح أنَّ بعض الأطراف الإقليميَّة، كالمملكة العربيَّة السُّعُوديَّة ودولة الإمارات العربيَّة، الصَّادر عنهُما بجانب الولايات المتحدة الأمريكيَّة وبريطانيا في 3 نوفمبر 2021م بيان "الرُّباعيَّة"، الذي يطالب الجيش بإعادة السُّلطة للحُكومة المدنيَّة، وهو موقفٌ مُتباينٌ من موقف مصر تجاه تطوُّرات الأوضاع في السُّودان، ونجد مُستقبلاً أنَّ هذا التبايُن أخذ منحىً أكثر وضوحاً بعد تحرُّكات "الرُّباعيَّة" المُكوَّنة من الدُّول الأربعة المُوقِّعَة على بيان 3 نوفمبر 2022م، ودورها في العمليَّة السياسيَّة، مع مساندة القاهرة بشكلٍ رسمي لمسار "الآليَّة الثلاثيَّة" (البعثة الأمميَّة بالسُّودان والاتحاد الأفريقي والإيقاد)، ومن المُؤكَّد أنَّ هذا التصدُّع الإقليمي والدَّولي يُلقي بظلاله على مُجمل مسار العمليَّة السياسيَّة، ومواقف أطرافها المختلفة، بالنظر للمشهد الرَّاهن، بعد توقيع "الإتفاق الإطاري" في 5 ديسمبر 2021م، والذي تُعدُّ المواقف والتعقيدات الرَّاهنة تعبيرٌ في جزءٍ كبيرٍ في جوانها عن حالة التبايُن والانقسام الإقليمي والدَّولي.

ألقت الحرب الرُّوسية على أوكرانيا التي اندلعت في فبراير 2022م بظلالها السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة في كل أنحاء العالم، خاصة بعد إنشاء تحالُفٍ دولي عريض في مُواجهة روسيا، ولم يكُن السُّودان بمعزلٍ عن هذا الصِّراع، بالإشارة للدور الروسي فيه منذ عهد النظام المُباد، وانطلاق حربٍ باردة على مناطق تمدُّد النفوذ الرُّوسي في القارَّة الأفريقيَّة، ومن بينها أفريقيا الوُسطى، بالتوازي مع تحرُّكاتٍ رُوسيَّة موازية تهدف لتوسعة نفوذها، إنطلاقاً من أفريقيا الوُسطى صوب تشاد، لإفقاد فرنسا ثاني أهم نقاط تمركزها بالقارة الأفريقيَّة، بعد انسحابها من مالي بغرب أفريقيا.

نخلُصُ إلى أنَّ جميع تلك التعقيدات والتصدَّعات الدَّاخليَّة بين الأطراف الفاعلة داخلياً وإقليمياً ودولياً، فاقمت من تعقيد الوضع العام بالبلاد، الذي ازداد تعقيداً بسبب مظاهر عودة عناصر النظام المُباد للواجهة من جديد، على المستوى الاقتصادي والسياسي، بسيطرة عناصر النظام المُباد على مفاصل الدَّولة والخدمة المدنيَّة والتنظيمات النقابيَّة بشكلٍ مُتزايد وملحوظ، بعد الفترة التي أعقبت استقالة رئيس الوزراء د. عبدالله حمدوك في الثاني من يناير 2022م، ومن خلال العديد من المظاهر، كان أوضحها إلغاء جُلَّ قرارات لجنة تفكيك التمكين تجاه عناصر النظام المُباد وممتلكاتهم.
ندوة الاتفاق الإطاري.. ومستقبل التحوُّل الدِّيمُقرَاطي – تورنتو – كندا
سيناريوهات المشهد
بالنظر لتلك المُعطيات، فإنَّ سيناريوهات المشهد وفقاً لتلك التركيبة كانت تشير لإمكانيَّة تطوُّر الأوضاع صوب أي من السيناريوهات التالية:

الأول: نجاح الإنقلاب في فرض نفسه كأمر واقع داخلياً وخارجياً
يقتضي تحقيق هذا السيناريو محدِّدات تتمثل في مقدرة الانقلاب على توسعة قاعدة قُبُوله السياسي والشعبي في ظل محافظته على تماسُكه الدَّاخلي وهذا ما كان يمكن تحقيقه بشكلٍ جُزئي من خلال إتفاق 21 نوفمبر "حمدوك/البُرهان"، إلَّا أنَّ فُقدان الإرادة لدى بعض أطراف الإنقلاب جعلهم فعلياً يختارون وضع العراقيل أمام حمدوك، ودفعه للاستقالة من موقعه، لفرض أمرهم الواقع. ومضت الأحداث بذات السيناريو المرسوم، لكنهم فشلوا في التقدُّم ولو خُطوة واحدة للأمام بسبب تنامي فشلهم السياسي والاقتصادي والدبلوماسي، واستمرار حالة الرَّفض الشعبي لانقلابهم، والانحسار الشعبي، الذي يمكن أن نطلق عليه "كشفهم شعبياً وجماهيرياً"، فقام من هذا الواقع الاستعانة بعناصر النظام المُباد، وتسبَّب هذا الإجراء في تعزيز الرَّفض الشعبي، وزيادة المخاوف الإقليميَّة والدَّوليةَّ من تداعيات استمرار الإنقلاب ونتائجه المُتمثلة في إعادة إحياء النظام المُباد صاحب السِّجِلِّ الحافل والذاخر بالتورُّط في دعم عدم الاستقرار في المنطقة، ودعم الإرهاب والجرائم العابرة للحُدُود.

لم تقتصر أزمة الإنقلاب في فرض نفسه كأمرٍ واقع على الخارج، ومن ثمَّ تمدَّد هذا القُبُول على مستوى الدَّاخل، ولكن نتيجة تفاعُلاتٍ داخليَّة ذاتيَّة جرَّاء صراعات مُكوِّناته، فقد ذهب صوب التحلل والتفكُّك، ورويداً رويداً، ظهر جلياً أنَّ الخلافات داخل الإنقلاب دخلت في مرحلة خطيرة بإمكانيَّة حُدُوث صدامٍ مُباشر بين مُكوِّناته بسبب الاختلافات – بغضِّ النظر عن تفاصيلها – بين قُطبَيْهِ الأساسيين، البُرهان وحميدتي.

الثاني: إسقاط المقاومة للانقلاب وإحلال البديل المدني
يتأسَّس هذا السيناريو على مقدرة الحركة الجماهيرية على هزيمة الانقلاب وإجباره على التراجُع من خلال حركة جماهيريَّة واسعة، تنتظم كل أنحاء البلاد، ومن الضَّروري الإقرار والاعتراف بأنَّ مقاومة انقلاب 25 أكتوبر منذ فجر ذلك اليوم حتى هذه اللحظة غير مسبوقة في التاريخ السُّوداني الحديث، والتي لم تقتصر على الفعل الجماهيري الشَّعبي، ولكن تعدَّد بأشكالٍ مختلفة ومتعددة (عصيانٌ مدني، إغلاق البنوك والأسواق، والإضرابات والوقفات الاحتجاجيَّة) وغيرها.

تحقيق هذا السيناريو كان يستوجب توفر عدَّة عوامل مُجتمعة، وهي وحدة بين مُكونات المقاومة والثورة، والإتفاق على رُؤى مستقبليَّة وسندٌ إقليمي ودولي، ثمَّ انحياز أطرافٍ من القُوى المسلحة النظاميَّة واستجابتها لمطالب الجماهير بالتغيير السياسي، وبالتالي إجبارها أو إبعادها للقيادة العسكرية العُليا الحاكمة للبلاد من المشهد، كما حدث في أبريل 1985م وأبريل 2019م.

كما ذكرتُ في موضع سابق، فإنَّ حالة التصدُّعات والتشرذم وسط قُوى الثورة، وفقدان أي فرص أو بارقة أمل في وحدتها التنظيميَّة أو البرامجيَّة، أو التنسيق الميداني في ظل أجواء التربُّص والتخوين، قوَّض الدُّعامة الأساسيَّة لتحقيق هذا السيناريو، وهذا بدوره أنتج إرتباك إقليمي ودولي حيال مستقبل الأوضاع بالبلاد، أمَّا مسألة انحياز القُوَّات النظاميَّة، ونتيجة لأجواء الاستقطاب والاستقطاب المُضاد قبل 25 أكتوبر وسط تلك القُوَّات، وتعدُّد وجود الجُيُوش ومراكز قياداتها، كان يشير إلى أنَّ الإنحياز الجزئي في حال حُدُوثه يترتب عليه إندلاع حربٍ أو حُروبٍ مُسلحة بين أكثر من طرف، قابلة للتمدُّد والانتشار حسب حجم وعدد القُوَّات التي إتخذت قرار الإنحياز في مواجهة قُوَّات أخرى ترى ذلك الإنحياز تمرُّداً أو خيانة.

إذا في ظل التفتت وانعدام فرص الوحدة وتراجع فرضيات إنحياز أطراف من القوات النظامية دون أن يترتب على ذلك حدوث مواجهة مسلحة بحيث ينتهي الأمر بشكل سلس فإن هذا السيناريو كان فعلياً يبتعد رويداً رويداً وفق معطيات الواقع.

السيناريو الثالث: السلاح يحسم المعركة
هذا السيناريو يمكن حُدُوثه كنتيجة لفشل السيناريو الأوَّل وسط الإنقلابيين، أو السيناريو الثاني بالنسبة لقُوى الثورة المقاومة للإنقلاب، وفق افتراضين، أولهُما، نتيجة للصِّراع بين أطراف المكون الإنقلابي العسكري، خاصة الجيش والدعم السريع، في ما سيكون بقيَّة الأطراف المسلحة الموقعة على إتفاق جوبا للسَّلام عامل دعم لأي من الطرفين.

أما الافتراض الثاني، فينتج في حال اللجوء لهذا الخيار والسيناريو كردِّ فعلٍ وإحباط من تأخُّر وعدم حُدُوث عمليَّة الإنحياز من القُوَّات النظاميَّة، وتتزايد خُطوات هذا الإفتراض وجعله أمراً واقعاً في حال تزايُد وتيرة العُنف تجاه المُتظاهرين السلميين، وتزايُد الخسائر قتلاً، ومع حالة الإحباط والغضب، فإنَّ الثورة السلميَّة سيكون أمامها: إمَّا خيار الإقرار بالهزيمة، أو الانتقال لحمل السلاح لإعادة التوازُن في هذا الصراع، وقد يكون هذا التحوُّل متدرِّجاً في الانتقال من السلميَّة إلى العُنف، أو مباشراً باللجوء للسلاح لحسم المعركة، وبالتالي الانتقال لمرحلة الثورة المسلحة، ولعلَّ أبرز النماذج بالمنطقة التي تحوَّلت من ثوراتٍ سلميَّة بسبب العُنف لثوراتٍ مسلحة، هُما تجربتي سوريا وليبيا عام 2011م.

حدوث هذا السيناريو هو تطبيقٌ عملي لمقولة شمشون الجبَّار، وهُو يَهِدُّ المعبد على رأسه والجميع "عليَّ وعلى أعدائي".. فالكل خاسرٌ فيه بكُل تأكيد، مع عدم إغفال التكلفة الانسانيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة وعدم إمكانيَّة التنبُّؤ بالميقات الزمني لتجاوز هذه الحالة التي ستختلف عن الحُروب السابقة التي شهدتها البلاد الحافلة بالحُروب قبل الإستقلال، لأنَّ اندلاع الحرب وفق هذا السيناريو لن يكون الأطراف كما حدث في تاريخ الحُروب الأهليَّة المسلحة السابقة بالبلاد، ولكن سيكون مركزها العاصمة نفسها، على عكس التجارب السابقة التي تأثرت بها العاصمة بشكلٍ غير مباشر– فيما عدا محاولتي الهُجُوم عليها في يوليو 1976م ومايو 2008م – نسبة لوجود الأطراف المتصارعة المسلحة داخلها، سواء من المُكونات العسكريَّة المُنخرطة في الانقلاب، أو الأطراف السلميَّة التي ستختار الانتقال لخانة العمل المُسلح.

من المهم أن ندرك أنَّ حجم الخسائر الحاليَّة لثورة ديسمبر 2018م، وحتى مقاومة الانقلاب، لم يتجاوز الألف شهيد، وهو كرقمٍ أحدث صدمة شديدة وسط السُّودانيات والسُّودانيين، فما بالهم إذا اندلعت الحرب الشاملة، فإنَّ الخسائر البشريَّة مُرشَّحة لتجاوُز عشرات الآلاف إذا لم يُقدَّر لها أن تبلُغ مئات الآلاف، وربما الملايين، حسب الحقبة الزمنية لامتداد هذه الحرب، بخلاف الآثار النفسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة المترتبة على نوعيَّة مثل هذا الصراع.

السيناريو الرابع: الإنهيار التلقائي
ينتُج هذا السيناريو نتيجة لسُلوك الأطراف الفاعلة، الذي سيقود للإنهيار التلقائي للدولة كمُؤسَّسة تراكمت أزماتها الهيكليَّة، واختلطت بحالة عجزها الإقتصادي وشللها السياسي، التي تفاقمت بسبب ممارسة ثلاثة عُقودٍ من التمكين السياسي والحزبي، يُضافُ لذلك، انهاكها بمُؤسَّساتٍ موازية في شتى المجالات، خلقها النظام المُباد لتعزيز سيطرته وهيمنته على البلاد، ما أرهق خزينة البلاد وجعلت أولويَّة الصَّرف عليها، ولما كانت من المظاهر غير الصحيحة الواجب تصويبها، فإن هذا الأمر أنتج تراخي مُؤسَّسات الدَّولة الفعليَّة بشكلٍ جعلها غير قادرة على السيطرة بشكلٍ إجمالي، وقاد لإنحسار سُلطتها، ليس في أطراف البلاد، وإنما حتى في العاصمة نفسها.

يتفاقم ما ذُكر سابقاً نتيجة لواقع السُّلطة ومُؤسَّساتها عُزلتها الشعبيَّة بسبب الرَّفض السياسي لنظام حُكمها الناتج عن إنقلاب 25 أكتوبر، وصولاً لمرحلة مقاطعتها وحرمانها من عوائدها من ضرائب ورسوم وغيرها، وهو ما يقود لتراجُع دورها ومسئوليتها ونطاق سيطرتها وبدايتها في التحلل فعلياً.. الانهيار التدريجي وصولاً لاقتصار بسط السُّلطة في ما يُشبه "المنطقة الخضراء"، لتتضمَّن المواقع السياديَّة والوزارات، فيما تختفي وتتلاشى وتنحسر خارجها، ويصبح جُلَّ هَمِّ السُّلطة الحاكمة الدفاع وإحكام تحصينات منطقتها الخضراء.

غياب وجود السُّلطة المادي والمعنوي، الذي سيفاقمه تنامي القطيعة الشعبيَّة مع القُوَّات النظاميَّة بسبب معارك الكرِّ والفرِّ مع شعبها المُناهض للسُّلطة التي يُدافع عنها، وشيخوخة الخدمة المدنيَّة وانحسار المساهمة في الإنتاج، ثمَّ التراجُع الاقتصادي للدَّولة بسبب الضَّعف في تحصيل الرسوم والعائدات، وخروج الدولة من دائرة التأثير بمناطق الإنتاج سيُفضي إلى خلق أوضاع أكثر ارتباكاً للمُؤسَّسات العسكريَّة والمدنيَّة للدَّولة، وفي هذا الإطار، فإنَّ بعض مظاهر الفوضى المُصطنعة بغرض إرباك المشهد قد تجد نفسها جرَّاء الفراغ قد انتقلت فعلياً بحُكم هذه الظروف من مرحلة "الأداة" أو "الكومبارس" لتصبح بحُكم هذا الواقع هي فعلياً "الحاكم" أو "البطل والمُخرج والمُنتج"، ويشمل ذلك الظواهر السياسيَّة أو الإجراميَّة أو الاقتصاديَّة على حدٍ سواء، انطلاقاً من أن الطبيعة لا تقبل الفراغ.

بالنظر لجميع تلك المُعطيات، ومظاهرها التي باتت واضحة للعيان، ومع استصحاب تنامي العُزلة الشعبيَّة لمُؤسَّسات إنقلاب 25 أكتوبر، فإنَّ ملامح تحلل الدَّولة وتلاشي وجودها وسُلطتها بدأت ملامحه تظهر رُويداً رودا، وتمدَّد كمشهد الغياب التدريجي لضُوء الشمس قبل المغيب، وعند اكتماله دون تشغيل مصابيح الإضاءة، فإنَّ الظلام الدامس قادمٌ لا محالة!

السيناريو الخامس: حالة اللاحسم
يفترض هذا السيناريو استمرار الانقلاب في الاستحواذ على السُّلطة واحتكار القُوَّة الماديَّة المسلحة، والاقتصادية المملوكة للدَّولة، مع استمرار المقاومة الشعبيَّة في مناهضتها، ويستمر الطرفين في صراع مُمتد يستخدم فيها كل طرف الأدوات المُتاحة لكُلٍ منهُما دون تمتُّع أي منهما بالقُدرة على حسم المُواجهة لصالحه، وتجنُّب الطرفين بشكلٍ عقلاني أي انزلاقٍ للبلاد في أتون الصراع المُسلح، باعتباره سيناريو غير محبَّذ، وليس في مصلحة أي طرف من الأطراف، وبالتالي، دخول هذا الصراع في رحلة "اللاحسم".

في تقديري، أنَّ هذا السيناريو يتناقض مع قاعدة ديناميكيَّة العمل السياسي، فبكل تأكيد أن استمرار الانقلاب مع استمرار المقاومة، وفي ظل فشله العام، سيقود لتحلل الانقلاب، وبذات القدر فإن افتراض استمرار المقاومة بذات عنفوانها دون تأثر بتطاول أمد الصِّراع، وغياب مؤشرات تظهر ترجمة هذا الفعل لنتائج، وبالنظر لفرضيَّة استمرار العُنف والقمع، وبافتراض أن ردَّة الفعل ستكون "باردة"، هو أيضاً إفتراضٌ سيكون غير دقيق، فلا بد أن يقود هذا الواقع إمَّا إلى اندثار وتراجُع المقاومة، وبالتالي هذا سيُفضي لتعزيز وضعيَّة الانقلاب باعتبار أنَّ الخيار سيكون مبنيٌ من الأطراف الإقليميَّة والدوليَّة، ليس النموذجي أو الأصوب، وإنما أفضل الخيارات السيِّئة، أما ردَّة الفعل الثانية، فهي الانتقال لمجابهة العُنف بعُنف آخر، وهذا سيقودنا رويداً رويداً صوب إندلاع الحرب، مع ضرورة إغفال عدم وحدة وتماسُك المُكون العسكري المُنفذ للانقلاب بداية، أو تحلل وتفتت الدَّولة نفسها وانهيارها.

توازن "الضَّعف":
السيناريوهات المذكورة سابقاً أفضت فعلياً لإيصال كل الأطراف لمرحلة "ضعف" مع وجود سيناريوهات قد تقود المشهد برُمَّته صوب سيناريوهات الإنزلاق نحو أتون المُواجهات المُسلحة، أو الإنهيار التلقائي للدولة وتحللها، كأحد نتائج إستمرار الأطراف في الصراع، وعدم مقدرة أي طرف من الأطراف من حسمه، بسبب حالة الضَّعف التي تعتري كل الأطراف. تُعرَفُ هذه النقطة التي يصل إليها أطراف الصراع ب"مرحلة توازُن الضَّعف".

عند بلوغ أطرف الصراع نقطة "توازُن الضَّعف"، عندها تصل هذه الأطراف بحُكم المُعطيات لعدم إمكانيَّة حسمها الصراع والمُواجهة لصالحه، وعندها يشرع كل طرف في الشُّروع في حصد أكبر قدرٍ من المكاسب وتقليل الخسائر ويكون مفهوم هذه العمليَّة قائم على مُعادلة وقاعدة مفادها بأنه سيُحقق مكاسب ولكنه لن يخرج دون خسائر.. لذلك، عليه أن يجعل المُحصِّلة النهائيَّة لقيمة المكاسب تعلو على الخسائر، أو بشكلٍ رياضي أن يكون حاصل عملية خصم الخسائر من المكاسب أكبر. أمَّا القاعدة الثانية لهذه القاعدة، ومفادها أن المُحصلة النهائيَّة للعمليَّة يترتب عليها خسائر مهما تحققت من مكاسب، ولذلك فإن الخسائر – أو التنازُلات – هو شرطٌ مصاحب ولازم للمكاسب.

مثَّل "توازُن الضَّعف" الأرضيَّة التي جعلت القُوى الدوليَّة والإقليميَّة تشرع فعلياً في اتخاذ قرارها بضرورة إحداث اختراقٍ بين الأطراف، وصولاً لمرحلة "المفاوضات"، وهذه الفترة نفسها لم تكن بالسُّهُولة بمكان.. الإقناع والوصول إليها، بداية من تحديد الأطراف وتقسيمها لأطرافٍ "فاعلة" و"ثانويَّة"، وأخرى خارج العمليَّة برُمَّتها. وما زاد من التعقيد، أنَّ جميع تلك الأطراف، بما في ذلك النظام المُباد، ومن خلال صلاته ببعض عناصر وقيادات الانقلاب، كانوا قادرين على التحرُّك السياسي والإعلامي، برعاية وحماية كاملتين من بعض أطراف السُّلطة التي تتحدَّث أنها جاءت لاستكمال أهداف الثورة! وفي ذات الوقت، فإنَّ الطرف المُقاوم للانقلاب نفسه يعيش تصدُّعاتٍ عميقة، وينقسم بين معسكراتٍ مُتعدِّدة مُتباينة ومُتقاطعة في بعض المواضع. وفي خاتمة المطاف، فإنَّ التحليل الواقعي أفضى للوصول لحقيقة أنَّ الطرفين الفاعلين في المشهد فعلياً هُما: تحالُف قُوى الحُريَّة والتغيير والمُكوِّن العسكري الانقلابي، مع وجود تبايُناتٍ داخليَّة في كليهما.

شهدت الفترة من يونيو وحتى أغسطس 2022م ذروة التحرُّكات والمناورات السياسيَّة بين الأطراف، بداية بأوَّل لقاءٍ مُباشر علنيٍ يُعقد بين الحُريَّة والتغيير ومُمثلين للمُكوِّن العسكري في يونيو 2022م، بعد فشل الجولة الأولى للحوار، الذي رعته الآليَّة الثلاثيَّة وقاطعته الحُريَّة والتغيير، ثم عقد الحُريَّة والتغيير لورشة تقييم الأداء (يوليو 2022م)، وتنظيم اللجنة التسييريَّة للمحامين لورشة صناعة الدُّستور (أغسطس 2022م)، وهذه الورشة تمخَّض عنها تحوُّلين أساسيين: أولهُما، وثيقة دستور تسييريَّة المُحامين لسنة 2022م، الذي نقل النقاش من الأهداف للقضايا وأسَّس رؤية دُستوريَّة لا تقتصر على الحُريَّة والتغيير، وإنما أطرافٌ أخرى، وحظيت هذه المُسودَّة بموافقةٍ وترحيبٍ إقليمي ودولي. أمَّا التحوُّل الثاني، فهو استقطاب أطراف جديدة لموقف الحُريَّة والتغيير من خارج المجموعات المُكوِّنة لها، أبرزها المُؤتمر الشَّعبي والحزب الجُمهوري وأطرافٌ داخل الاتحادي الأصل.

اتفاق إطاري أم نهائي؟!
دون الخوض في كثير من التفاصيل، حول ظروف وملابسات حواراتٍ ونقاشاتٍ دارت بين الطرفين الأساسيين في العمليَّة السياسيَّة، وهمُا الحُريَّة والتغيير والمُكون العسكري، ولحظات الصُّعُود والهُبُوط التي صاحبت هذه العمليَّة، والتعقيدات المصاحبة لها، كان أبرز ملامحها في الحُريَّة والتغيير محاولة تلافي التصدُّعات الداخليَّة بسبب ارتفاع صوت حزب البعث العربي الاشتراكي (الأصل) الرَّافض لأي اتفاقٍ يتضمَّن استمرار "البُرهان" في أي موقع من المواقع السياسيَّة أو العسكريَّة، ورغم تمكن الحُريَّة والتغيير من تجاوُز واقع الانقسام في قرار المجلس المركزي المُنعقد في نوفمبر 2022م، والصَّادر بالإجماع، بإقرار مراحل العمليَّة السياسيَّة على مرحلتين: الأولي، اتفاقٌ إطاري، والثاني اتفاقٌ نهائي، لكن عند التوقيع على الاتفاق الإطاري حدثت "المُفارقة"، وغادر البعث الأصل الحُريَّة والتغيير.

خلُصَت تلك المُباحثات الطويلة للاتفاق على مسار العمليَّة السياسيَّة وتقسيمها على مرحلتين الأولى: "التوقيع على الاتفاق الإطاري"، وثانيها: "الاتفاق النهائي"، والغرض الأساسي لتقسيم الاتفاق على مرحلتين، هو تأكيد جديَّة الأطراف في إنهاء الوضع المأزوم، والانتقال لوضع جديد. وثانيهما، إشراك قطاعات أوسع في قضايا أساسيَّة تكتسب حساسيَّة وأهميَّة تتمثل في قضايا تفكيك تمكين نظام الثلاثين من يونيو 1989م، والإصلاح الأمني والعسكري والعدالة الإنتقاليَّة ومراجعة اتفاق سلام جوبا وقضايا شرق السودان، وتمَّ التوقيع على الاتفاق في الخامس من ديسمبر 2022م، وسط حُضُور إقليمي ودولي كبيرين. مع عدم إغفال مقصد آخر، يتمثل في التأكيد على التزام القُوَّات النظاميَّة والمُؤسَّسة العسكريَّة بالخُرُوج من الحياة السياسيَّة بشكلٍ نهائي، والوارد في بيان الرَّابع من يوليو 2022م، عبر النص عليه في نُصُوص اتفاقٍ سياسي مع القُوى السياسيَّة المدنيَّة، عوضاً عن جعله إعلان من طرف واحد يمكن التراجُع عنه أو تقديم تأويلات مُختلفة حول كيفيَّة تحقيقه.

تقييم الاتفاق كخارطة طريق وتمهيد لاتفاق شامل
قبل الإجابة على هذا السؤال، من الضَّروري التنبيه إلى أنَّ الاتفاق الإطاري هو فعلياً جزءٌ من كُلٍ، إذ يليه إتفاقٌ نهائي، ثمَّ إطارٌ دستوري، وبالتالي إذا قرَّرنا النظر لنتائج الاتفاق الإطاري، فمن الضَّروري استصحاب بقيَّة المرجعيَّات اللاحقة وما سينتُج بعدها.

للإجابة على هذا السؤال، تلازمنا بالعودة بشكلٍ أساسي لتطبيق القاعدة الرياضيَّة التي أشرتُ إليها سابقاً، بأنَّ معرفة مُحصِّلة أي عمليَّة تفاوُض يتم احتسابها رياضياً بالفارق بين حصيلة المكاسب، مخصُومٌ منها الخسائر، وهُنا قد يطرح سؤال أساسي: ما هي القاعدة التي يمكن على أساسها احتساب هذا الأمر؟ وللإجابة، سنعود للشعارات الأساسيَّة المرفوعة من الثوار المُقاومين للانقلاب، والتي ألخِّصُها في شعارين خفيفين على اللسان، ثقيلين في ميزان السياسة، أولهُما: (السُّلطة سُلطة شعب.. والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل).. أما الشعار الثاني فهو: المُنادي يشكل إجمالي بالقصاص ومُحاسبة ومُحاكمة قادة الإنقلاب على جرائمهم التي اقترفوها وسجنهم وإعدامهم.

بالنظر للشعار الأوَّل: (السُّلطة سُلطة شعب.. والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل)، فهو في تقديري يُلخِّص الهدف السياسي لمقاومة انقلاب 25 أكتوبر، ويعني تشكيل سُلطة مدنيَّة كاملة بدون وجود أي شراكة دستوريَّة مع المُكوِّن العسكري من خلال عودة الجيش والقُوَّات النظاميَّة للثكنات، وتفرُّغها لمهامها العسكريَّة والأمنيَّة، وحلَّ قُوَّات الدَّعم السَّريع المُستقلة بحيث تصبح قُوَّة خاضعة في إطار الجيش الواحد، بما يُنهي مسألة وظاهرة تعدُّد الجُيُوش والقُوَّات والمليشيات التي ورثتها البلاد من النظام المُباد.

نجد أنَّ الاتفاق الإطاري والمرجعيَّات اللاحقة نصَّت بشكلٍ لا لبس فيه على تكوين مُؤسَّسات حُكمٍ مدنيَّة كاملة، دون أن يشارك فيها العسكريين، أو يتدخَّلوا في تكوينها، وبالتالي هذا يُعتبر مساراً مُختلفاً من الاتفاق السياسي، الذي تمَّ في يوليو 2019م، والوثيقة الدستوريَّة (أغسطس 2019م)، والتي أسَّست لشراكة دستوريَّة مع المُكون العسكري، ترتب عليها وجودٌ في مجلس السيادة ومشاركة في رئاسته، واختيار وزيري الدفاع والداخليَّة وسُلطاتٌ إضافيَّة في ما يتصل بسُلطة وتعيين رئيس القضاء والنائب العام، ومشاركة في سُلطة التشريع في فترة غياب المجلس التشريعي الانتقالي، واختيار ثلث أعضاء مجلس التشريعي – تقلصت النسبة لاحقاً بعد اتفاق جوبا – ولكن بالنظر للاتفاق الإطاري ومرجعياتها اللاحقة، فإنها لا تحتوي على أي سُلطاتٍ أو مُشاركة في المُؤسَّسات الدستوريَّة، ويقتصر وجود العسكريين على عملهم العسكري.

بشكلٍ مباشر، فإنَّ النتيجة الأساسيَّة ل"الاتفاق الإطاري" ومرجعياته تُفضي لإرجاع المُؤسَّسة العسكريَّة إلي الثكنات، وتُخرجُها من العمليَّة السياسيَّة، ووجودها الأساسي في مجلس الأمن والدفاع. وبالنسبة لحلِّ الجنجويد، فنجد أنَّ الإتفاق نصَّ بشكلٍ واضح على دمج الدَّعم السَّريع في الجيش، في حين نجدُ أنَّ نُصُوص الوثيقة الدستوريَّة لسنة 2019م أغفلت الإشارة المُباشرة لمسألة دمج الدَّعم السَّريع في الجيش.

الشعار الثاني، المرتبط بتحقيق المُحاسبة والسَّجن، وحتى إعدام قادة المُكون العسكري، بسبب الجرائم التي تمَّ ارتكابها، فمن الضروري الإشارة لجزئيَّة أساسيَّة، أنَّ هذا الأمر سيُفصَلُ فيه في أعمال الورشة الخاصَّة بالعدالة الإنتقاليَّة، لكن للدقة، فإنَّ تصوُّر العدالة بهذا الشكل لن يتحقق باعتبار أنَّ جوهر العمليَّة السياسيَّة الناتجة عن ضعف الأطراف يقوم على تحقيق حدٍ أدني من المكاسب لكُلِّ الأطراف، وإذا كان هناك طرفاً سيفقد حياته، فهذا يعني خسارته للعمليَّة بشكلٍ كامل، وبالتالي سيتمسَّك بموقفه، ولن يتراجع عنه، ووقتها ستستوي في نظره كل الخيارات والسيناريوهات.

بإجراء مُقاربة بسيطة، نجد أنَّ الاتفاق يُفضي بشكلٍ مباشر إلى:
* تشكيل مؤسسات حُكم دستوريَّة مدنيَّة،
* يقود لإخراج القُوَّات النظاميَّة من العمليَّة السياسيَّة ويُعيدها إلى ثكناتها،
* ينُصُّ على دمج الدَّعم السَّريع وتكوين جيش قومي مهني واحد،
* ولا يمنع – حسب النص الحالي الموجود – أصحاب الحق الخاص من مقاضاة مرتكبي التجاوزات في حال ارتكاب الفعل المباشر.

بالتالي، وبمعاير المطالب، فهو يُحقق الأهداف السياسيَّة الأساسيَّة، ويوفر الأرضيَّة القانونيَّة لمحاكمة مرتكبي الفعل المُباشر، لكن في ذات الوقت، يُحلل القادة العسكريين من مسئوليات الفعل غير المُباشر بالتقصير وعدم اتخاذ أي إجراءات لحماية المُواطنين أو التقاعُس.. إلخ، وهو شقٌ حتى في حال عدم إثبات الفعل المُباشر، فإنَّ الإدانة بالجوانب المُرتبطة بالفعل غير المُباشر غير مُستبعدة، وفقاً لهذه الحيثيات والبيِّنات.

بخلاف القضايا التي أشرتُ إليها سابقاً، فإنَّ الاتفاق على القضايا الخمسة المُتبقية، هي التي لعبت دوراً أساسياً في تعقيد وتفجير الانتقال، ومهَّدت الطريق لانقلاب 25 أكتوبر، متمثلة في قضايا:
* تفكيك التمكين،
* شرق السودان،
* العدالة الانتقاليَّة،
* سلام جوبا،
* والإصلاح الأمني والعسكري.
ولذلك، فإنَّ الاتفاق على هذه القضايا الخمس، سيحقق نقطة مهمَّة، تتمثَّل في توطيد الاستقرار لصالح استِكمال المرحلة الانتقاليَّة، وتنفيذ القضايا الأساسيَّة المُرتبطة بها من قِبَلِ جميع الأطراف، دون اعتراضٍ أو احتجاج.

بجانب ما ذُكِرَ، فإنَّ الاتفاق ومرجعيَّاته تقود عند تنزيل النُصوص على الأرض لتحقيق الآتي:
* الدمج والتسريح والإصلاح لكل القوات النظاميَّة والمجموعات المُسلحة، وصولاً لجيش مهني قومي، خاضع للسُّلطة الدستوريَّة، وشُرطة قوميَّة مهنيَّة، وجهازٌ أمني ومُخابراتي قومي مهني، مُحدَّد المهام والصَّلاحيات، وعلى أن يكون تفكيك التمكين في هذه المُؤسَّسات شقٌ أساسي في عملية الإصلاح تلك.
* مُؤسسات حُكمٍ مدنيَّة تنفيذيَّة وتشريعيَّة في كافة المُستويات القوميَّة والإقليميَّة والولائيَّة والمحليَّة، يتم اختيارها وتشكيلها من قبل المكونات السياسيَّة المدنيَّة.
* ولاية وزارة الماليَّة على المال العام، ويشمل ذلك الشركات التابعة لكل القُوَّات النظاميَّة، بما في ذلك الدَّعم السَّريع، أمَّا الشركات المُرتبطة بالصِّناعات الحربيَّة، فإنها رغم إدارتها الخاصَّة، فإنها تخضع في الإجراءات الماليَّة والمُحاسبيَّة لرقابة وزارة الماليَّة وفقاً لما تقتضيه الحوكمة والسياسات الماليَّة والاقتصاديَّة للدولة.
* التبعيَّة الكاملة للشرطة وجهاز الأمن والمُخابرات لرئيس الوزراء، والذي يحق له إعفاء أو تعيين مديري الشرطة وجهاز المُخابرات دون اشتراط مُوافقة أي جهة من الجهات، نظاميَّة أو سياسيَّة.
* إعادة بناء الأجهزة العدليَّة والقضائيَّة من خلال تسمية رئيس القضاء ورئيس النيابة العامة ومساعديهم، وقُضاة المحكمة الدستوريَّة من قِبَلِ مجلسٌ عدلي، وإصلاح تلك المُؤسَّسات وتفكيك التمكين بداخلها لتجنب إتهامات ولغط التدخل السياسي في عمل المُؤسَّسات القضائيَّة، كما حدث بعد قرارات لجنة التفكيك تجاه قُضاة السُّلطة القضائيَّة والنيابة العامَّة، وتجنب الفراغ القانوني بسبب غياب المحكمة الدستوريَّة منذ فبراير 2020م، بعد انتهاء أجل قُضاة المحكمة الدستوريَّة وعدم تسمية بديلٍ لهُم منذ ذلك التاريخ، وهذه الخطوة تفتح الطريق أمام استكمال المُؤسَّسات القضائيَّة والعدليَّة للإسئنافات في العديد من القضايا التي باتت في انتظار رأي المحكمة الدستوريَّة في القضايا التي صدرت فيها أحكامٌ بإدانة قتلة الثوار، وأبرزها ملفات جرائم قتل الشهيد أحمد الخير، والشهيد حسن محمَّد عُمر، ومرتكبي مجزرتي الأبُيِّض وكسلا وغيرها.
* مراجعة اتفاق سلام جوبا دون أن يترتب على ذلك انتقاصٌ من الحُقُوق التي تحققت للأقاليم والنساء، وبشكلٍ مُباشر، فإنَّ هذا الإجراء يفتح الباب لإعادة النظر في المسارات المُرتبطة في مناطق خارج دائرة الحرب (الوسط، الشرق والشمال) والتي تسبَّب بعضها في إشعال أزماتٍ في شرق السُّودان، ومن المُؤكد أنَّ الاتفاق الإطاري بمراجعة الاتفاق سيغلق الطريق أمام منهج المُحاصصات الحزبيَّة الواضح، الذي أقرَّته ونصَّت عليه اتفاقية جوبا للسلام، ولعلَّ هذه المُراجعة ستجعل مسألة تشجيع إلحاق حركات أخرى رافضة، والتي يقودها كلٌ من الرفيقين عبدالعزيز الحلو وعبدالواحد محمد نور أقرب من أي وقت مضى.
* تفكيك تمكين نظام الثلاثين من يونيو 1989م واعتباره إلتزامٌ مُشترك بين كل أطراف الإتفاق، والتشديد على إنشاء مُؤسَّسات الاستئناف ودائرة الطُّعُون وعدم اقتصار مهام تفكيك التمكين على الأموال بالداخل وشُمُول نشاطها للأموال الموجودة بالخارج.
* استقلالية بنك السُّودان المركزي من وزارة الماليَّة والاقتصاد الوطني وتبعيته لرئاسة مجلس الوزراء، وتحديد مهامه، وبالتالي تقليل تدخل وزارة الماليَّة والاقتصاد الوطني، وتمتُّع البنك المركزي باستقلاليَّة تمكنه من أداء ومباشرة مهامه بشكل مهني.
* تحديد مواقيت لبداية المرحلة الانتقاليَّة ونهايتها خلال 24 شهراً من أداء رئيس الوزراء لليمين الدستورية، تنتهي بعقد انتخابات عامة.
* استكمال عمليَّة السَّلام ومُفاوضاتها مع حركتي الرفيقين عبدالعزيز الحلو وعبدالواحد محمد نور وصولاً لاتفاق سلامٍ نهائي.
* تحقيق العدالة فيما يتصل بالقضايا المرتبطة بحقوق الشهداء في مواجهة مرتكبي الفعل المُباشر، بجانب تصميم وتأسيس تصوُّر للعدالة الإنتقاليَّة، يضع المعالجات القائمة على الاعتراف والإقرار بالأخطاء المرتكبة تاريخياً ويفتح الطريق أمام تأسيس مستقبل متعافي دون إخلال وإسقاط للحق الخاص.
* تعديل القوانين المُقيِّدة للحُريَّات خلال ستة أشهر من بداية تكوين مُؤسَّسات الحُكم الانتقالي المُنشأة بموجب كُلٍ من الاتفاق الإطاري والنهائي والإعلان الدستوري الانتقالي الحاكم.

بشكلٍ عام، فإنَّ هذه المبادئ العامة، وعند تطبيقها وتنزيلها على الأرض بشكل صادق وجاد وأمين، تصلح لتأسيس اتفاق انتقالٍ شامل، يتجاوز بالبلاد من وضعها الرَّاهن لواقع أفضل، وفي حال التطبيق الصَّادق والالتزام الأمين بتحويل النُصُوص لواقع فعلي.

مواضع إيجابيَّة ?


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.