إني حقيقة أتعجب من هؤلاء الصحفيين أمثال عثمان ميرغني (عثمان المقصود هنا ذلك الذي يسبق اسمه لقب الباشمهندس). فعثمان هذا لا يجد سانحة والا استغلها في ذم السياسيين وتقريعهم. فالسياسيين لدى عثمان هم وحدهم سبب شقاء السودان واس البلاء. عندما يركل جنرال متعطش للسلطة والنفوذ والثروة الديموقراطية ببوته، ويحرك الدبابات ويذيع البيان رقم واحد، وعندما يتقاتل الجنرالات بالطائرات والمدفعية الثقيلة، وعندما تضيق المعيشة والجيش يحتكر القرار السياسي وأكثر من 80% من النشاط الاقتصادي، لا يرى عثمان غير السياسيين ليوجه لهم سهامه، وان كانوا خلف القضبان. اسأل عثمان ميرغني وهو الصحفي الضليع الذي تستضيفه كل القنوات الفضائية لتستأنس بآرائه، وهو أيضا مالك ورئيس تحرير صحيفة مرموقة في السودان عن دور الصحافة والصحفيون في المساهمة في تنمية المجتمع وترسيخ الحكم الرشيد، والصحفيون طليعة المجتمع. ماذا قدم عثمان ميرغني تحديدا؟ نعرف ان الصحافة هي السلطة الرابعة. وصف الصحافة بالسلطة ليس عبطا او اعتباطا. بل لان الصحافة هي بالفعل قوة وجبروت، تكشف الحقائق وتسلط الضوء الكاشف على كل مناحي الحياة، خاصة أداء الحكومات وفضح اخطاءها وزيف أصحاب النفوذ. الصحافة هي القوة الفاحصة لضمان ان الحكومات تخدم مواطنيها بعدل وتساوي. الصحافة الحرة المستقلة تسأل الأسئلة الصعبة وتلح للحصول على الأجوبة الحقيقة، وتفضح المسكوت عنه. كما ان نقد الصحافة هو وسيلة الحكومة المسئولة لتحسين وتجويد اداءها. هناك وظيفتان جليلتان للصحافة: رصد ومراقبة أداء الأجهزة الحكومية، وتثقيف المجتمع. الصحافة الحرة المستقلة هي حجر الزاوية في بناء المجتمع الديمقراطي. أهميتها تتجاوز كثيرا أهمية أي عنصر اخر بما فيها الانتخابات. لان الانتخابات دون صحافة حرة مستقله مجرد نكتة. ظهر الإعلام والصحافة كأكثر العوامل قوة في الصراع نحو تغير النظم السلطوية في أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية الى ديمقراطيات أكثر انفتاحا وانتاجا. مهمة الصحفي في جوهرها تمليك الحقيقة للمواطنين، وأقدسها هي اخراج إخفاقات الحكومة للعلن. لا ان يكون صديقا للحاكم. يتم ذلك من خلال البحث عن الحقيقة والمعلومة الصحيحة، بطرق أبواب المسئولين ووضعهم على الكرسي الساخن ومواجهتهم بجرأة بالأسئلة الصعبة والمحرجة. بهذا التعريف، نتساءل هل كانت صحافتنا بقدر الواجب المنوط بها؟ هل تحمل الصحفيون مسئولياتهم باقتدار؟ هل تصدى الصحفيون للحكام وأصحاب النفوذ؟ ترعرع معظم صحافينا تحت كنف الامن الكيزاني. كان هذا الامن يخط الخطوط الحمراء وبيده العصاة الغليظة. يدرك الصحفي منذ تخرجه وتعينه في أي منشأة صحفية ان عليه مراعاة الرقيب لتنشر اعماله. أقدس هذه الخطوط الحمراء التي لا يحق لاحد تخطيها هي رأس الدولة والجيش وقادته. وعليه نشأ وشب الصحفي على الا يتجاوز هذه الخطوط. ومن شب على شيء شاب عليه. صار السياسيون واحزابهم هم الهدف السهل اللين الذي يمكن التجرؤ والتعدي وبل التجني عليه دون خوف من عاقبة او خسارة. طول الحكم الوطني لم يتمكن أي حزب سياسي ان يكمل دورة انتخابية كاملة حتى يمكن الحكم عليه. هل يعقل ان يلام سياسي أمضى معظم أوقات عمله في الشأن العام مطاردا او في السجون! هل من العدل صب جام الغضب على حزب يحل بفرمان عسكري, بينما لا ينقد الجيش الذي ظل متحكم في مقادير هذه البلاد لما يقارب الستة عقود. كمثال: لم يجر عثمان ميرغني البتة او صحيفته لقاء صحفي مع البرهان او دقلو ومواجهتهم بأسئلة الشارع، وهمومهم، ومعرفة خططهم، ونواياهم. لو قام بدوره المرجو منه في دعم الديمقراطية، لتمكن من كشف نيات جنرالات الحرب وحزرنا منهم كما فعل السياسيون. عثمان ميرغني فعل النقيض بالترويج ان دمج الدعم السريع في الجيش موضوع منتهي، وانه أصبح من الماضي وتم حله بصورة جزرية، وتمت تسويته بصورة كاملة (اَفاق الخروج من الازمة، المنبر الثقافي بجنوب كاليفورنيا). لذلك أرى ان أداء، بل عجز الصحافة والصحفيين من أمثال عثمان ميرغني خلال فترة الانتقال هو العامل الأساسي الذي يلى شبق الكيزان للسلطة والتسلط الذي قاد الى افشال المرحلة الانتقالية. [email protected]