عام 1967م كان عام (النكسة) فى مصر. وهو اللفظ المهذب الذى اخترعه الصحفيون المصريون بدلا عن لفظ (الهزيمة)، لتخفيف الأثر على الجمهور المصدوم. الذى كان ينتظر من جيشه رمى اليهود فى البحر، ولكن النتيجة كانت معاكسة لأكاذيب الإعلام المضلل، هزيمة ساحقة بكل المقاييس العسكرية. انهار فيها الجيش المصرى تماما..! كنت آنذاك طالبا صغيرا فى الصف الثانى الثانوى. وقد سببت الهزيمة صدمة عظيمة لنا، فقد كنا ناصريون حتى النخاع، أسرتنا شخصية عبد الناصر بما تحمله من صفات (كاريزمية) لا يمكن مقاومتها. وكنا ننتظر خطاباته على أحر من الجمر. وكنا نتساءل – كطلبة صغار فى مناقشاتنا معا قبل الحرب- كيف سيعوم اليهود عندما يرمى بهم الجيش المصرى فى البحر؟ وهل سيعوم من عاش منهم إلى قبرص أم إلى الجزر اليونانية ؟ وقد بُنى الاستعداد للحرب على أكذوبة صدقها المصريون والعرب، أن لدى العرب ثلاثة جيوش جرارة لا يشق لهم غبار، كنا نشاهدها فى العروض العسكرية، ومعها مئات الدبابات والمدفعية. ويسيطر الطيران الحربى بحركاته البهلوانية على جو الاستعراضات. والجماهير منتشية بما ترى، مفعمة بالمشاعر الجياشة، تُلهب أياديها بالتصفيق، وتُبح حناجرها بالهتاف ناصر..ناصر..! وبعد الإفاقة من صدمة الهزيمة ومن كذب الإعلام بنصر مزيف، اتضح لنا أن الأسلحة التى كنا نشاهدها فى الاستعراضات العسكرية، هى أسلحة قديمة من بقايا الحرب العالمية الثانية استوردها الجيش المصرى بصفقة الأسلحة التشيكية المشهورة عام 1955، والتى هلل لها الإعلام وقتها بأنها من أحدث الأسلحة التى سوف تقضى على العصابات الإسرائيلية فى لمح البصر، والذين قد لايتمكنوا من الوصول للبحر ..! وعلمنا بعد ذلك أيضا عندما تكشفت الحقائق، أن ضباط الجيش المصرى الكبار كانوا يعيشون عيشة الأمراء. أما حالة الجنود فكانت تعيسة ورثة بماتحمل هذه الكلمة من معنى، ويخدم بعضهم فى بيوت الضباط الكبار. أما جهازالمخابرات فقد كان نشطا وعبقريا فيما يخص المعارضين من أبناء الشعب. كما تبين أن المعلومات عن الجيش الاسرائيلى كانت صفرا كبيرا، ولذلك حاربت إسرائيل ثلاثة جيوش عربية على جبهات ثلاث وهزمتهم جميعا. وأعتقد أن هذه الجيوش العربية قد هزمت نفسها بأكاذيبها وخداع شعوبها بأنها القوة التى لا تقهر، وبعدم جاهزيتها فى الإعداد للحرب، وبعدم معرفتها بحقائق وإمكانات جيش عدوها، قبل أن تهزم بواسطة جيش اسرائيل. فهل درس ضباط الكلية الحربية فى بلادنا أسباب هذه الهزيمة واستفادوا من دروسها؟ أم أنهم يكررون أخطاء الجيش المصرى ببراعة يحسدون عليها ؟ ولأنى أنظر للمشهد الآن كمحلل مستقل، بعد أكثر من نصف قرن من هذه الأحداث، وقد ذوت انفعالات مرحلة الشباب المبكر آنذاك، أقول بأن النكسة لم تكن كلها سلبيات، فمن النواحى الإيجابية التى كنت شاهدا عليها ومشاركا فيها أيضا رغم عمرى الصغير وقتها، كان تماسك المجتمع المصرى بقوة ورفضه للهزيمة رفضا تاما لإحساسه القوى بأن الوطن فى خطر، ولهذا هرع آلالاف من الضباط الوطنيين (المبعدون من الجيش سياسيا) إلى معسكراتهم طالبين إعطائهم الزى العسكرى، لفتح مراكز التطوع فى المقاومة الشعبية لتدريب الشباب على استخدام السلاح، والوقوف ضد إنهيار المجتمع والذى هو أخطر من انهيار الجيوش، وفى أشهر قليلة كان أكثر من عشرة ملايين شاب، من أسوان حتى الإسكندرية يحملون أسلحة حديثة للدفاع عن وطنهم، وكان لبعضهم اشتباك مباشر مع العدو الصهيونى شرق قناة السويس، عندما حاولت مدرعات العدو الاتجاه شمالا لاحتلال مدينة بور فؤاد المتحكمة فى مدخل قناة السويس الشمالى، وقد أوقف شباب المقاومة هناك تلك الدبابات، وأغلقوا الطريق تماما أمام أى زحف آخر للعدو باستخدام أسلحة ال(آر بى جى)، وبفضل شباب المقاومة الشعبية، تم إنقاذ مدينة بورسعيد الجميلة والواقعة على الضفة الغربية لمدخل القناة من التدمير..! لقد حافظ المدنيون من الشباب على حرية وكرامة وطنهم لعامين، قال فيها قادة العدو، أنهم لم يحاولوا عبور قناة السويس إلى الضفة الغربية لاحتلال بعض المدن المصرية، خوفا من الدخول فى حرب عصابات مع شباب المقاومة التى ظلت تحمى وطنها، حتى استطاع عبد الناصر إعادة تكوين الجيش المصرى من جديد، بعقيدة وطنية خالصة. وتم سحب السلاح من شباب المقاومة الشعبية، والتركيز بعد ذلك على إعادة هيكلة وتنظيم الجيش المصرى الذى نجح نجاحا باهرا فيما سمى وقتذاك حرب الأستنزاف. ومن عيوب حكم العسكر، أن صفحة المقاومة الشعبية المشرفة والبطولية التى قام بها الشعب المصرى والتى كنت شاهدا على أحداثها، قد أغلقت تماما، وحُذفت من التاريخ العسكرى والمدنى فى مصر وكأنها لم تحدث، فمنذ ذلك الزمن وحتى الآن، لم يُذكر مطلقا فى أية مناسبة أن المدنيين من أبناء الشعب المصرى قد حافظوا على دولتهم سليمة ومتماسكة عندما انهار الجيش تماما..! وأتساءل: لماذا هذه الحساسية الزائدة من العسكر فى بلادنا تجاه المدنيين، ولماذا يعتبر العسكر أنفسهم هم الوحيدون المخول لهم حماية الدولة والشعب، فالطبيب فى حرب مستعرة مع المرض، والمعلم وأستاذ الجامعة فى حرب مستمرة ضد الجهل، والمحاسب فى حرب لا تتوقف ضد الفساد المالى، والمهندس فى حرب دائمة ضد الأخطاء الهندسية التى تؤدى إلى الكوارث..! وهكذا.. كل مواطن محارب فى ميدانه..! بشرط أن يكون (الوطن) هو المهدد، وليس كرسى الحكم، أو التنافس على سرقة خيرات البلاد..! والايجابية الثانية فى حرب 67 رغم صدمة الهزيمة المرة، هى الحفاظ على الأمن الداخلى، حيث قامت الشرطة بواجبها فى حماية المدن، فلم يُكسر بنك أو يُحرق مصنع، ولم تتأثر الإمدادات التموينية بندرة أو غلاء أسعار، ولم تتوقف إمدادات الماء والكهرباء، ولم يُحرم المواطنون العاملون بالدولة من رواتبهم أو معاشاتهم..! أما الحرب الثانية التى عشتها بكل تداعياتها أيضا، فهى حرب الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب عام 1994، حيث كنا وقتذاك معارين من حكومة السودان لمعاهد المعلمين فى اليمن للإشراف على تدريب المعلمين اليمنيين. وهى حرب بين جنرالين على عبد الله صالح وعلى سالم البيض، وهى تشبه إلى حد كبير حربنا الحالية فى السودان، ولكنها لم تكن لهدف العودة إلى الحكم أو الصراع على الثروات المنهوبة كما هى حربنا الآن، ولكن كان هدفها الأسمى، إعادة الوحدة التى حلم بها اليمنيون طويلا إلى الوطن، والتى تمت فى إبريل 1990م. ولما هدد الانفصاليون فى جيش الجنوب هذه الوحدة، رفع الرئيس على عبد الله صالح (رحمه الله) شعار (الوحدة أو الموت) والتفت حوله جموع الشعب اليمنى المحبة للوحدة بكل قوة، وقد نجح الوحدويون فى الجيش اليمنى من الشماليين والجنوبيين فى دحر جيش الإنفصاليين، وإعادة البلاد إلى الوحدة مرة ثانية. والملاحظ فى هذه الحرب الطاحنة أيضا، عدم تأثر إمداد المواد التموينية مطلقا وعدم انقطاع التيار الكهربائي أو الماء. وقد انتشرت جحافل الشرطة فى طول البلاد وعرضها للحفاظ على الأمن الداخلى فلم يُقتل مدنيون، ولم تُقتحم بنوك ولم تُحرق مصانع ولم يتم تشريد الشعب إلى الدول المجاورة. ولم تتوقف مرتبات العاملين بالدولة. وكانت المحلات التجارية مفتوحة طوال اليوم، ولاتغلق الا عندما تدوى صفارات الانذار. ثم تعود للعمل بعد انتهاء الغارة..! (يتبع) [email protected]