في هذا الحوار تتحدث الناقدة لمياء شمت عن الحراك الثقافي في محيطه العام وتتطرق لهاجسها الخاص في تناول النصوص وعلاقته بالوجودية والبحث عن القيم في العوالم غير البشرية.. ولأهمية هذا الحديث الذي ادلت به للصحافة السعودية نعيد نشره تعميماً للفائدة. على أي أساس اخترت نصوصك؟ كيف جمعت بين التشكيلي والكتابي والموسيقي والسينمائي والمسرحي؟ السوداني وخارج السوداني؟ إختيار النصوص لا يكون عادة بقصدية واعية،الأمر أشبه ما يكون بسياحة قرائية وتذوقية مفتوحة على كل المنجز الإبداعي الإنساني ،وهو كما أسلفت نوع من التنزه الطليق،الذي يتيح تذوق ثمار متنوعة من التشكيل والسرد والموسيقى والسينما والمسرح.وكما تعلمين فالنص الجميل المكتنز له كيمياء تلقي خاصة ، تنتج بدورها تفاعلاً حافزاً للأفكار، ولمعاينة الوجود، وكر البصر وتوليد الأسئلة.أظن أن لا شيء يحرض على الكتابة أكثر من سماع أغنية أو قطعة موسيقية عذبة،أو حتى مطالعة لوحة أو مشاهدة فيلم/مسرحية ، أو قراءة نص مُغوي يتوامض ويرسل إشاراته وإلماحاته، أتذكر هنا مقولة كولن ولسون عن ذلك المخاض حيث يقول «عندما تتحاشد الأفكار وتشتعل الأسئلة، فليس هناك إلا منفذ واحد ضيق لإخراجها هو رأس القلم». الحدود بين الأنواع الفنية؟ كيف رؤيتك لها في النصوص، وفي عملك عليها؟ الحدود في الأصل معنية بالتصنيف وتحديد الخصائص والسمات، ويخرج الأمر عن مقصده عندما يتحول إلى حالة جبرية رهابية تتهوس بضرب الحدود والأسيجة،ورفع الأسوار العازلة ،إلى درجة تعيق التواصل والتداخل والتلاقح. فالإبداع بطبعه إرتحال واستقصاء واكتشاف ،وبالتالي تجاوز وقفز فوق الأسيجة . لذا أرى أن حراسة البوابات الإبداعية لعنة كاسرة تحرص على حشر الإبداع في قناني وقوالب ومواعين ضيقة ،وفي ذلك كبح للطاقة الإبداعية ،ولجم لتدفقها وسحتها.فالأصل في المطلق أن تتجاور الأشياء وتتحاور وتتساكن وتتداخل ، ولا بأس أن تتناقض وتتقاطب وتتقاطع ،فذلك نوع من التكامل المضمر في حيوية ديالكتيك الوجود.أنظري مثلاً لإهدار الطاقات واستفراغ الجهد ،والشقوة الاصطلاحية والنقع الكثيف الذي أثارته مساءلة تصنيف الشعر الحر في قالب شعر منثور أو نثر مشعور أو ..أو..، والإنشغال الذي اقتصر في أغلبه على لصق ديباجة على المنتج الإبداعي ،بدلاً عن تأمله ودراسته وتحري ملامحه ودوافعه.وقد تناولت في كتاباتي عدداً من النصوص العابرة للأجناس، وأدهشني التبادل الطاقوي الخلاق الذي تنتجه التقاطعات الإجناسية الإبداعية. كيف ترين علاقة الفن العربي الحديث بالواقع وبصمته على التاريخ؟ الفن والإبداع لا جنس له ولا تؤطره الجغرافيا ،وذلك لا يمنع بالضرورة الحديث عن خصوصية الواقع الثقافي لمنطقة ما، فأنا أنظر للفن العربي في محيط الصورة الكلية، كرافد من جريانات متعددة، وكلبنة في بناء تشترك في رفعه وتماسكه كل الثقافات الإنسانية، التي تتمظهر بأشكال وألوان ونكهات مختلفة.لكنها تتجوهر أكثر عندما نراها تجتمع في مصهر هائل يلتئم فيه الفني بالفكري والجمالي بالرؤيوي والعرفاني، فكلها محاولات لتأويل العالم وتفسيره ،وكلها ذات عطر وخصوصية وأثر.وكما أسلفت فالخطاب الإنساني تزيد من حيويته وتجدده دينامية التحاور والمثاقفة.ولا يجدي أبداً إعتساف الأمر إلى محض حذر وريبة، وغارات بدائية لحز الرؤوس ،وسحق (الآخر) تحت سنابك خيل (القبيلة)، فتلك أساطير عتيقة ،وأوهام رهابية مثيرة للشفقة ظلت تنوس دهراً بين (نحن) و(هم)..فكلنا في سفينة واحدة، فلك يمخر للأمام شئنا أم أبينا. شكل المكان زاوية رؤية أساسية في معالجتك للنصوص المختارة، فكيف تمثل الاغتراب عن الوطن في كتابات السودانيين وبخاصة بوصفه مكونا وجوديا، وكيف عمل كخلفية لقراءاتك لها؟ عادة لا أنشغل بالمكان بمعناه الفيزيقي الجامد ،بل أتدبره كرحلة في صميم أطلس الذاكرة، تستبطن حالات شعورية ونفسية عميقة. تماماً كما في السرد الجيد السبك ،حينما لا يكون المكان محض ماعون للشخوص والأحداث ،بقدر ما هو إسقاط للحس والذاكرة على اللحظة والمكان ،ورصد للإجتياحات الذهنية والوجدانية ،ولتفاعلات الذوات مع أحوالها ومحيطها الوجودي.وهكذا فالأغتراب أيضاً هو حالة ذهنية أكثر منها جغرافية. وهي تجربة وجودية تتشكل كما نشاء لها ،فإما توجس وانغلاق، أو تفاعل حافز ومنتج، يتحرى الإفادة من سانحة الإطلال من شرفة تتيح فرجة متأملة، وأستكناه ورؤية أوسع وأهدأ.بحيث يمكن للأمر أن يتحول إلى رحلة إستكشاف ماتعة،هذا بالطبع اذا خضنا التجربة بسوية إنسانية بريئة من التحاملات ،والأفكار الجاهزة عن الذات والآخر. فاذا نظرنا لمجمل العالم نجده يتجه بميل أكبر نحو التداخل والتمازج ،الذي لا يشيح عن حقوق الإنسان وقدسية كرامته.فلننظر حولنا ملياً لنرى قوة تلك السيرورة الحتمية ،الا يبدو أن كل بلد تقريباً هو رقعة تتجاور وتتساكن فيها أقوام عديدة؟ وأننا في زمن المواطن العالمي، والأرض البراح التي تتيح المساكنة والتمازج الثقافي والأثني،وإنتاج تركيبات ديمغرافية مدمجة.مما يحتم مراجعة الأفكار الموصدة عن تصنيم فكرة الوطن، والخروج بالأمر إلى سعة (لتعارفوا ) كسُنة ماضية.. لا ريب فيها. عودة للحدود، الهاجس الوجودي شغل الناقدة في اختياراتها لنصوص منشغلة بذات الهاجس، لدرجة البحث عن القيم في عوالم غير بشرية، حدثينا تجربتك مع تلك النصوص؟ لقد وضعت يدك على الأمر تماماً ،فأنا مهجوسة بالمشترك الإنساني في مجمل رصيدي الكتابي.فالإنسانية كقيمة قد تتمظهر في كائنات أخرى،لها أيضاً كرامة وجودها وحقها المقدس في الحياة ،فهي تشاركنا الرحلة ،وقد نجد فيها أحياناً ما لا نجده في آدمية بعض البشر بنوازعهم الوحشية للتدمير والجور والأذى. وذلك مقرون بروح الإبداع ،الذي هو ،كما أسلفت، تجاوز لا بد له ان يبدأ بالكدح للخروج عن شرنقة الوصاية، وخطل الأفكار الجامدة ،والأسيجة المصنوعة، التي تعبّر في الغالب عن محض رهابات وتهوسات وفصامات ولوثات شك ،تضيق بهبات الهواء الطلق في مساحات وفلوات الإنسانية الواسعة ،فتحاول أن تختزل الأمر عسفاً وتصوره في تلك المقولات المكرورة الهرئة عن (فقدان الخصوصية) و(تهديد الهوية ) و(محو الذاكرة) ،وغيرها من رؤى تعبر عن إطلالة من حدقة عمشاء مريضة، مغطاة بالقذى.لا يسعها إلا أن تتجاهل حقيقة ان الإبداع يجسر، ويفتح قوس قزحي أوسع ،منصوب على الأفق، لتتجاور فيه كل الألوان الصاخبة والهادئة والمشعة والخابية.فالأدب هو نقد الحياة.لذا تجديني أنخرط بمتعة في محاولات محاورة نصوص إبداعية متنوعة، تشع بتلك الرؤية الرحبة للعالم وموجوداته. تناولت نصوصا لكتاب أجانب وتحدثت عن الفن في العقلية الأجنبية، ما هو تقييمك للبيئة الفنية في العالم العربي؟ وتعالقها مع الوسط النقدي؟ لعلي قد أجبت ضمناً على هذا السؤال فيما ذكرته سالفاً، فالمنجزات الإبداعية عبر العالم مثل خلايا ودوائر الطاقة، تشع وتسطع أكثر عندما نوصلها ببعضها.فالغاء المسافات بين الكل البشري كدح ورهق لابد منه ،للوصول لبيئات إبداعية وهابة، ومعافية بالضرورة من المفاهيم الثقافية الإقصائية المتعالية ،التي لا تأتي بغير البوار وتخفيض الأفكار. ومن جهة أخرى فأن ظاهرة غياب الموازي النقدي عموماً ،يجعل الإبداع يعرج ويحجل بقدم واحدة، ويلوح بكف وحيدة لا يمكن لها أن تصفق منفردة. من خلال تشرفنا بوجودك في المملكة كيف هي رؤيتك لمسيرة الأدب والنقد في السعودية؟ هل هناك أصوات قادرة على الخروج من المحلي للعالمي؟ كما هو الحال في أي مجتمع ،فأن هنالك مجموعة من العوامل التي تتحالف لتحدد ملامح المنتوج الإبداعي ،الذي يشي بطقس تشكُله.فالظروف غير المؤاتية والعنف المناخي المجتمعي والثقافي غالباً ما ينتج ظاهرة تهريب الأفكار عبر أقبية ومسارب الفن السرية.لتظهر بكثافة نزعات المصادمة وكشف الأغطية ومصارعة الأفكار المغلقة وتحدي التحاملات وردع الأرتياب المرضي والظن الخئون.وقد ينتج ذلك في البدء سيل من التجارب النيئة ضامرة الخيال،التي تتورط في فخاخ الإسهابات الإنشائية والفورانات الإنفعالية ،وتقريرية التنديد والوعظ.غير أن الأمر في سيرورته لا يلبث أن يتحول عبر مران التجريب والتجويد ،والرهق الإبداعي المثابر، إلى غوص عميق يعرف كيف يستخرج الدر من غياهب الأصداف.وهناك بالتأكيد أصوات بارزة لا يحصيها العد في المشهد السعودي لها مساهمتها المقدرة في موكب الإبداع المهيب ،الذي هو مناصرة صادحة وجاسرة للحق والخير والجمال. من خلال تخصصك في علم اللغة الانجليزية، هل ترين اختلافا في التجربة اللغوية والأدبية بين الحقلين؟ وما تقييمك للمعرفة العامة بهذه النقطة؟ اللغات شرفات علوية تتيح رؤية أوسع لسبر العالم، وأنا كنوبية مستعربة (عربية اللسان) ،ومتخصصة في اللغة الإنجليزية،ممتنة جداً لهذه التجربة ، التي تتيح لي ان أرفل في حقول بانورامية متنوعة الثمار والبهار والعبق.فاللغات أفق بديع لمعاينة وتأمل تجليات الحياة ،ودراما الوجود ،وديالكتيك العالم.وكم تمنيت صادقة أن يتسع وقتي لدراسة لغات اخرى تحملني لمدارات أبعد.ففي ذلك حتماً مزيد من الفرص للتدبر والعصف الرؤيوي وإسراج خيول الفكرة ورفد الخيال، واستغوار حقائق الأشياء.كذلك فأن دراسة اللغات تؤكد أن الثقافات هي حقول مفتوحة للأخذ والعطاء. فليس هناك على الإطلاق ثقافة آحادية خالصة ،أو نسيج وحدها ، وكذلك لاسترفاد اللغة الإنجليزية من الأغريقية واللاتينية القديمة، ومن اللغات الأوربية ومن الساكسون والعرب وغيرها.كل الأمر اذاً يدور ويتخلق في ذلك المصهر العظيم. -انتهى-