الكل يسأل عن السودان بعد ميلاد دولة الجنوب، والكل يعيد تقييم فرضياته التي بنى عليها رؤيته ونظرته الى مآلات الحال والأحوال. كانت الدهشة مترعة في 9 يوليو الماضي: رفرف علم الدولة الجديدة في جوبا، وحل محل علم السودان الموحد. في ذلك اليوم، وفي ساعات المخاض الأليم/المفرح، شعر رئيس الدولة الجديدة سلفاكير ميارديت بالخجل من تسليم العلم لرئيسه السابق عمر البشير. وتقديرا لمشاعره، فضل أن يحتفظ به في مكتبه للذكرى، للتاريخ! دع عنك الجنوب وأفراحه، فالعيد كان عيده! ولكن في الشمال، كانت الخيبة رغم محاولة النظام إيهام الشعب والترويج بأن ما حدث كان خيرا، والذين كانوا على قدر من الحياء قالوا: كنا نفضل خيار الوحدة، ولكننا نحترم خيار الشعب الجنوبي بالانفصال. أجواء غائمة في الطرف الآخر، هناك الحادبون الغيارى على مصير بلدهم، الذين ظلوا حيارى، ولا فعل لهم غير الحزن الدفين، والخوف من المستقبل، ولا عزاء لهم. في هذه الأجواء الغائمة ولدت ما أطلق عليها «الجمهورية الثانية»، والتسمية من لدن مهندس مفاوضات السلام في نيفاشا، النائب الأول للرئيس علي عثمان محمد طه. والنظرة آحادية طبعا منذ الوهلة الأولى من قبل أصحاب النظام، باعتبارهم هم الغالبون، والمفوضون، من قبل الشعب في انتخابات ابريل2011، المبنية على المحاصصة بين طرفي المعادلة في الشمال والجنوب. ولا مكان، نتيجة لذلك الكسب، لحكومة قومية انتقالية تؤسس لنظام ديموقراطي مؤطر بدستور يتوافق عليه أهل السودان، ويقوم على الحريات وحقوق الإنسان والتعددية والتنمية المتوازنة والمستدامة. إذا، كل ما قدمه نظام الإنقاذ لأحزاب المعارضة هو طرح المشاركة بالحكومة العريضة لمن أراد. والأحزاب في عرف المؤتمر الحاكم هي مجرد فلول من الزمان الغابر، لا تحرك ساكنا، ولا تستطيع أن تحرك أقدامها، ناهيك عن تحرك الشارع لإسقاط النظام. وقال قائل منهم: «وإن نمنا نومة أهل الكهف». وقال رائدهم: «إن من ينتظر الربيع العربي ليمر في السودان سيطول به الانتظار». وترد المعارضة بان إصرار الحزب الحاكم على إقصاء الآخرين سيقود الى تقسيم السودان الى دويلات. وقد شكل المؤتمر الوطني حكومته العريضة المترهلة على مستوى القمة، ويعتبرها نجاحا باختراق الحزبين الكبيرين، وعين نجلي زعيمي حزب الأمة العقيد الصادق المهدي، وجعفر محمد عثمان الميرغني كمساعدين للرئيس. والبعض يرى في هذا التعيين «محاولة توريث من نوع جديد» فتشكيل حكومة من الوجوه السابقة، ومن دون خطة واضحة، يعني توالي زرع وحصد خيباتها السابقة. الحروب لا تزال مشتعلة أمنياً، لم تستطيع الحكومة حلحلة أزمة دارفور، إلا بما أتاحت لها وثيقة الدوحة،. وقد حدث عكس ما كان متوقعا، وما زال السلاح مرفوعا في دارفور،. وفي جنوب كردفان، اندلعت حرب شرسة في يونيو الماضي ولا تزال مستعرة هناك بين القوات الحكومية وقوات الحركة بقيادة عبد العزيز الحلو، على انقاض عملية انتخابية لم يكتب لها النجاح، بدأها الطرفان بحرب كلامية تبادلا فيها التهديد والوعد والوعيد. وقد خلفت الحرب مآسي إنسانية وتنموية كبيرة. وعقب هذه الحرب بقليل اندلعت أخرى في النيل الأزرق، بعد أن رفضت قيادة المؤتمر الوطني الاتفاق الإطاري الموقع في أديس أبابا، بحضور رئيس الوساطة الأفريقية ثامبو أمبيكي، ورئيس الحكومة الأثيوبية مليس زيناوي. وتبادل الطرفان، كالعادة، مسؤولية بدء الحرب، ولكنهما لم يكونا على قدر من المسؤولية للمحافظة على السلام. والسؤال: ما كان يضر بالحكومة لو استجابت للمبادرات العديدة للجلوس مع الحركة الشعبية قطاع الشمال (عقار والحلو)، لوضع حدٍّ لحرائق «الجمهورية الثانية»، وهي ما زالت في شهورها الأولى؟ ما ضرها لو جلست مع المتمردين الجدد في اي مكان في العالم، وبحضور طرف ثالث، أو وسيط؟ أزمة اقتصادية إن عدم المرونة في التعامل مع الأزمات قد يؤدي الى تعقيدات جديدة، مثل «الجبهة الثورية» التي شكلت في مدينة «كاودا» بين الحركات المسلحة الدارفورية والحركة الشعبية قطاع الشمال، وإعلانها الحرب لإسقاط النظام. هذا الوضع المأزوم سياسيا وأمنيا تكتنفه وتلفه أزمة اقتصادية طاحنة يمر بها السودان بعد خروج نفط الجنوب من المعادلة، وفقدان الموازنة لحوالي %70 من الإيرادات، وانعكاس ذلك سلبا على احتياطيات البلاد من العملة الصعبة، وتدهور أسعار العملة المحلية، وزيادة معدلات التضخم، والارتفاع المطرد للأسعار، وتآكل الدخول، وغلاء المعيشة. وبالتالي سيؤدي ذلك الى تدهور الخدمات. وتزيد الحرب في الولايتين من الأزمة الاقتصادية. وقد تلجأ الحكومة لمواجهة هذه الصعوبات الاقتصادية، بزيادة الضرائب ووقف البرامج التنموية والخدماتية. وفي ظل الوضع الاقتصادي الحرج يتحدث الناس عن الثراء الفاحش لدى النخبة الحاكمة، نتيجة للفساد المستشري في أوصال النظام. وبحسب التقرير الدولي الأخير لمناسبة «اليوم الدولي لمحاربة الفساد»، حصل السودان من بين أكثر عشر دول تعاني من الفساد، على المركز 177 بحصوله على 1.6نقطة. «الجنائية» والعصا الأميركية ومن جهة أخرى، ما تزال لعنة المحكمة الجنائية الدولية تلاحق قادة النظام. وما زالت مذكرة التوقيف تلاحق الرئيس عمر البشير، والأزمة الأخيرة مع الحكومة الكينية من بعض تداعياتها، وامتدت لعنة المحكمة الجنائية الدولية الى وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين، وهو الرجل المقرب من الرئيس البشير، عندما طلب المدعي العام مورينو أوكامبو من المحكمة إصدار مذكرة بتوقيفه لجرائم ارتكبها في دارفور. وقد تصدر مذكرات أخرى ضد مسؤولين آخرين، مما يثير تساؤلات عدة عما تسببه هذه الملاحقات من إعاقة لأداء «الجمهورية الثانية»، خاصة على الصعيد الدبلوماسي والعلاقات الخارجية، بل في إدارة الدولة بأكملها. ماذا سيكون رد الخرطوم لو طالت أيدي الجنائية أحد المسؤولين على حين غرة؟ افترض أن إحدى الدول المعادية فعلت ذلك. قل إن إسرائيل قد فعلت ذلك، وقد ضربت هدفين من قبل في ولاية البحر الأحمر، ولم تفعل الحكومة شيئاً. أما الإدارة الأميركية، التي وعدت الخرطوم بالجزرة شرط المضي قدما باتفاقية {نيفاشا} لم تف بوعدها، بحجة عدم حل القضايا العالقة بين الدولتين، واستمرار الأزمة في دارفور ومستجدات الأوضاع في جنوب كردفان والنيل الأزرق، ومنطقة أبيي. العصا الأميركية باقية: فلا حديث عن رفع العقوبات الاقتصادية، ولا عن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وليس هناك تطبيع للعلاقات. فواشنطن، مع استمرار الوضع على ما هو عليه، وليس في أجندتها إسقاطه بقوة السلاح، حسب أمنيات الحركات المسلحة في «الجبهة الثورية تحالف كاودا»، ولا حتى إسقاطه سلميا ب«ربيع عربي»، كما تنادي بذلك أحزاب المعارضة. القبس