حين كنت صغيرة، كنّا نذهب إلى دمشق بسيارة والدي، من دون الحاجة إلى أن نستقّل سيارة أجرة من بين تلك المتوقفة في ساحة شتورا كما يفعل الكثير من اللبنانيين وغيرهم من الراغبين في الذهاب إلى سوريا، لكنّا كنا نترجّل من السيارة في الساحة، بهدف الراحة و تحويل النقود من الليرة اللبنانية إلى الليرة السورية، قبل المضي في رحلتنا. ولأن والدي كان يمنعنا أحياناً من مغادرة السيارة، كنت أراقب كلّ حركة وأسمع كلّ ما يدور من حولي، غير أن أكثر ما كان يستوقفني آنذاك من وراء زجاج السيارة، صوت السائقين وهم ينادون: عالشام ..عالشام .. عالشام... وكأنها أغنية بنغمة موّحدة اتفق السائقون على أدائها بالأسلوب عينه. وفي أقل من ربع ساعة، كانت تكتمل السيارة بالركاب وتنطلق... إلى دمشق. السيناريو نفسه بعد 20 عاماًاليوم وبعد عشرين سنة، لا زالت الساحة نفسها، حتماً تغيّرت وجوه بعض السائقين، وآخرون استسلموا لريشة الزمن التي رسمت خطوطاً رفيعة على وجوههم... وأصوات السائقين ما زالت تنادي: عالشام ..عالشام .. عالشام... لكن المفارقة أن السيارة لم تمتلأ لتنطلق إلى الشام، وفي حال انطلقت فلن تكون مكتملة. ليست شتورة التي عهدتُها بضجيجها وزحمتها وطوابير الركاب في ساحتها، وبأولئك الذين يتزاحمون على مداخل محلات الصيرفة لتحويل أموالهم، أو بآخرين يتبضعون من المحال التجارية التي تبيع بضاعة بأسعار معقولة أرخص من تلك الموجودة في العاصمة. سأم الانتظار وتقاسم الهموموإن رأيت رجلاً يدخل محلاً، فلا تظنن أنه زبون...، بل هو صاحب مؤسسة أو موظف سئم الانتظار وقرر التنقّل بين المحلات المجاورة لتمضية الوقت مع جيرانه وتقاسم الهموم. موقف شتورا يعاني من ركود كبير منذ بدء الأحداث الأمنية في سوريا، لكن الأمر تفاقم خلال الأشهر الخمسة الأخيرة مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات والعمليات العسكرية بشكل يومي. كثير من السائقين، لبنانيين وسوريين أعربوا عن سخطهم من الوضع القائم، متذمرين من قلة العمل وبالتالي من قلة المدخول الذي يعتمدون عليه في لقمة عيشهم. وحين طلبت منهم التحدّث أمام الكاميرا، رفض السائقون اللبنانيون والسوريون بشدة وقالوا لي "دخيل عرضك، بدنا نأكل خبز، نحن منفوت عالشام، ما فينا نحكي، بتخربيلنا بيتنا". حاولت إقناعهم أن المقابلة ستتمحور حول الوضع الاقتصادي في شتورة وحركة الركاب من وإلى سوريا، وأنه لن نتطرق إلى الشأن السياسي، لكن محاولاتي فشلت بشدة، وساعد في ذلك قرار صاحب الموقف العمومي، الذي أصدر أوامره شبه العسكرية إلى السائقين اللبنانيين والسوريين بعدم التحدث إليّ. وحيدة.. وحديث "خارج الخطر"وبعد أن كنت محاطة بدائرة من السائقين المتذمرين، الذين يشكون لي وضعهم، فجأة وفي خلال أقل من ثانيتين، أصبحتُ وحيدة في موقف عمومي ليس فيه سوى سيارات فارغة تنتظر الخلاص من راكب قرر رغم الأوضاع الأمنية في سوريا، أن يدخل أراضيها. لكن شتورة ليست محطة للذهاب من وإلى سوريا فحسب، فهي بحكم موقعها الجغرافي (تبعد أربعة وأربعين كيلومتراً عن بيروت وتقع في محافظة البقاع) تعتبر نقطة وصل بين العديد من المناطق اللبنانية، إذ يقصدها الراغبون في الذهاب إلى مدن سورية كدمشق ودرعا والسويداء، وأخرى لبنانية كحاصبيا وراشيا وعنجر وزحلة وبعلبك والهرمل... وبيروت. علي، سائق لبناني، وافق على أن يتحدث إلي أمام الكاميرا، والسبب أن الخط الذي يعمل عليه هو شتورة – بيروت وليس شتورة – الشام، أي أنه خارج دائرة الخطر. شرح لي علي كيف أن المصيبة تقع على الجميع لأن من يأتي من الشام يذهب إلى بيروت، وبالتالي فإن عمله تأثر بشكل كبير لأن عدد الوافدين من داخل الأراضي السورية أصبح أقلّ بكثير من المعتاد. الآن يتطلب الأمر ثلاث ساعات ل"إصطياد" راكب أو اثنين، مبينا أن عدداً من السائقين غيّروا وجهة عملهم التي كانت في الأساس: المصنع أو شتورة أو بيروت وحولوها إلى وجهات أخرى أكثر ربحاً في الوقت الراهن، كمناطق مثل بعلبك وقبّ الياس وراشيا. ارتفاع التسعيرة بين العاصمتينوبسبب الأوضاع الراهنة وارتفاع أسعار المحروقات، ارتفعت تسعيرة النقل بين البلدين، أوضح حسّان وهو سائق سوري يعمل على خط شتورة- السويداء "أن تسعيرة الراكب من السويداء إلى بيروت ارتفعت لتصبح 700 ليرة سورية" أي ما يقارب ثلاثة عشر دولاراً أمريكياً ، فيما يدفع الراكب اللبناني "من شتورة إلى السويداء مبلغ خمسة وعشرين ألف ليرة لبنانية" أي ما يعادل سبعة عشر دولاراً أمريكياً. ويعتبر العامل السوري بمثابة صيد ثمين لكثير من العاملين في مجال النقل المشترك في لبنان، فهو يتنقل بسيارة الأجرة بين لبنان وسوريا ويستخدم وسائل النقل المشترك (ولاسيما الميني فان) للتنقل بين المدن اللبنانية بحسب مكان سكنه وعمله. ومن أكثر المدن السورية "المصّدرة" لليد العاملة السورية: دير الزور و درعا حيث يعاني الشباب السوري هناك من بطالة ووضع معيشي صعب، ويلجأون إلى لبنان للعمل في قطاعات عدة أبرزها البناء، إذ يفوق مدخولهم في لبنان أكثر بكثير مما قد يتقاضونه في سوريا. لكن لا يمكن إحصاء عدد العمال السوريين في لبنان إذ إن السواد الأعظم منهم يعمل من دون إجازات عمل قانونية تفرضها عادة الدولة اللبنانية على أي عامل أجنبي. وأرقام وزارة العمل لا تعكس الصورة الحقيقية للواقع، ففي العام 2010 بلغ عدد السوريين العاملين ضمن الفئة الأولى تسعة وثلاثين عاملاً (أصحاب العمل أو المستشارين) وبلغ 16عاملاً من الفئة الثانية التي تضم مهنيين، 383 عاملاً من الفئة الثالثة التي تضم عمالاً ، وجميع هذه الأرقام هي عبارة عن عمال تفرض عليهم مؤسساتهم وشركاتهم العمل بشكل قانوني. معبر المصنع: الجديدةوعلى بعد كيلومترات قليلة من شتورة، يقع المصنع أو ما يعرف أيضاً بال"جْدَيْدِة". المصنع هو المعبر الرئيسي بين لبنان وسوريا (في لبنان معابر أخرى كالعبودية والدبوسية والعريضة)، وإضافة إلى كونه معبر للمسافرين بين البلدين، وهو نقطة عبور لمئات من الشاحنات المحملّة بالمنتجات الزراعية والتجارية والصناعية، ومئات من شاحنات الترانزيت المتوجهة إلى بلدان عربية أخرى. لكن الطريق في المصنع كانت خالية سوى من بضع شاحنات انخفض عددها من مئات إلى عشرات، حتى أن الوصول إلى الحدود استغرق دقائق معدودة فيما كان يتطلب الأمر عادةً أكثر من ربع ساعة للوصول إليه. ولعلّ المحال التجارية هي خير دليل على الركود التجاري في تلك المنطقة، فمحال الأجهزة الإلكترونية المنتشرة على جانبي الطريق خالية من الزبائن وتصارع منذ أشهر عدة للصمود في وجه تحديات لم تكن متوقعة، فأصحاب المصالح في منطقة المصنع الحدودية، اعتادوا على حركة شراء يومية لم تعد متوفرة. ندى، لبنانية من بلدة مجدل عنجر، تملك محلاً لبيع البياضات المنزلية يبعد حوالي 300 متر عن الحدود، قالت إن الأوضاع تغيّرت بشكل مأساوي، فهي تنتظر منذ السابعة صباحاً وحتى التاسعة مساء لبيع أي شيء في هذا المحل ، يساعدها وعائلتها على الصمود ، لكن الزبون السوري الذي كانت تعتمد عليه أكثر من اللبناني لم يعد يأتِ ليشتري هذه الأيام .... أما رقم "ثلاثة آلاف" الذي كان يجسد عدد العابرين ذهاباً وإياباً بشكل يومي من نقطة المصنع الحدودية، فأصبح من الماضي الذي يتمنى أهله أن يعود.