شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    شاهد بالصورة والفيديو.. ناشط مصري معروف يقتحم حفل "زنق" للفنانة ريان الساتة بالقاهرة ويقدم فواصل من الرقص معها والمطربة تغي له وتردد أسمه خلال الحفل    شاهد بالصورة والفيديو.. ناشط مصري معروف يقتحم حفل "زنق" للفنانة ريان الساتة بالقاهرة ويقدم فواصل من الرقص معها والمطربة تغي له وتردد أسمه خلال الحفل    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء أثيوبية تخطف قلوب جمهور مواقع التواصل بالسودان بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها مع إبنها على أنغام أغنية وردي (عمر الزهور عمر الغرام)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    خريجي الطبلية من الأوائل    لم يعد سراً أن مليشيا التمرد السريع قد استشعرت الهزيمة النكراء علي المدي الطويل    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    عائشة الماجدي: (الحساب ولد)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    تحديد زمان ومكان مباراتي صقور الجديان في تصفيات كاس العالم    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باسكال كينيارد: الرواية والتاريخ
نشر في الراكوبة يوم 01 - 11 - 2012

كثيرا ما تثير الرواية التاريخية الغبار في وجه الدارسين، والنقاد، وتتناسل الأسئلة بعضها من بعض، فما هي الرواية التاريخية؟ وما علاقتها بالتاريخ ؟
وما الأسلوب النموذجي الذي ينبغي للمؤلف اتباعه في كتابة رواية تتخذ من التاريخ فضاءً تحل فيه؟ وما موقف القارئ من الحوادث التاريخية المندرجة في سياق المحكيّ الخيالي؟ وهل عليه أن يعود من حين لآخر لما يتوافر لدية من وثائق ليتأكد من صحة ما يروى، أم عليه أن يتخطى ذلك، ويعدُّ المحكيّ الخيالي شيئا لا علاقة له بالتاريخ؟ هذه الأسئلة قلما تظهر في أثناء قراءتنا لرواية باسكال كينيارد Pascal Quignard الذي يقدم لنا فيها نموذجا يجيب فيه عن بعض هاتيك الأسئلة إجابات جديدة تمثل موقفا معرفيا من علاقة الرواية من حيث هي متخيل سردي بالتاريخ من حيث هو بناء معرفي.
وكاتب هذه الرواية شاعرٌ، وقاصّ، وروائيّ، وقد نشر روايات عدة، وفاز بجائزة غونكور 2002وهي ابرز جوائز الأدب بباريس، وترجمت روايته فيلا آماليا للعربية، ترجمها محمد المزيودي وصدرت عن المجلس الوطني للثقافة في الكويت في سلسلة الإبداعات(2012) ونشر منها فصلان اثنان في العدد 66 من مجلة نزوى العمانية في ربيع 2011 وله من الروايات : (كارس) و( أقراص شمشاد ) و( صالون ورتمبورغ) و( أدراج شامبورد) أما روايته هذه ' كل أصباح العالم ' Tous les matins du monde أو All the Worlds Mornings فكانت قد فازت بجائزة لانغ دو فرانس 1991 وترجمتها إلى اللغة العربية هالة صلاح الدين لولو، وصدرت عن دار ورد للنشر في دمشق. وهي رواية شقت طريقها إلى الشاشة الكبيرة بفضل المخرج الفرنسي آلان كورنو Alain Corneau فازدادت شعبية الكاتب، وارتفعت أرقام مبيعات رواياته على الرغم من صعوبتها، وتدني مبيعاتها، إذا قيست بروايات أخرى أكثر رواجًا، وأكثر سيرورة.
والرواية التي نحن بصدد الحديث عنها - ها هنا- يمكن أن توصَفَ بأنها رواية تاريخية على الرغم من أن التاريخ لم يفرض عليها فرضًا مثلما هي الحالُ في روايات أخرى. ومما يشجع على إدراجها في عداد الروايات التاريخية أن بطل هذه الرواية، وهو دو سانت كولمب إنسان حقيقيّ، له حضورهُ التاريخي، فهو المنسنيور دو سانت كولمب de sainte- colembe الذي عاش في موطنه فرنسا بين عامي 1640 و 1700 وهو موسيقي وعازفُ فيولين violist وكان قد عاصر الحقبة الذهبية من حكم لويس الرابع عشر الذي نيف عهدُه على الخمسين عاما من 1661- 1715 وورد ذكرُه في متن الرواية غيْر مرة (ص16و19).
علاوة على هذا، ثمَّة إشارات متعدِّدة لمدرسة تربوية، وفلسفية عقلانية، عرفت باسم بور- رويال (ص22) أي نبلاء البلاط Port Royal ومن أشهر علمائها المهتمين بالجوانب التربوية والعقلية أنطوان آرنولد، وبيير نيكول. وتأثر بهذه المدرسة، بلْ التحق بها- بكلمة أدق - الشاعر المسرحي الكلاسيكي جان راسين Racine (1639- 1699) الذي نبغ في كتابة المسرحيات التراجيدية، والكوميدية، وكان منافسًا لموليير Moliere وكورني Corneille ومن أشهر أعماله التراجيدية فيدرا، وأندروماك، وبيرنيس، ومن الكوميديا مهزلة' المتخاصمون' وبسبب مسرحيته ' فيدرا ' اتُّهم بالفجور، واعتزل المسرح، ولقب بمؤرخ البلاط. وقد ورد ذكره في الرواية مرارا(ص64). وباستثناء هذه الإشارات لا نجد في الرواية ما يوحي بأنها رواية تاريخية، بمعنى أن الحوادث التي تقع فيها، وتجري، ويسردها للمرويّ له ساردٌ عليمٌ، ليست مما يمكن العثور عليه في أحد المراجع التاريخية، ليتأكد القارئُ من صدق الحكاية، ومن أن الزمن الذي وقعت فيه، وجرت، تم تحديده تحديدًا غير مشكوك فيه. لهذا تحوَّلَ التاريخ في هذه الرواية إلى مُتخيّل سردي لا علاقة له بالمدونات التي ينبغي للكاتب أو للقارئ كليهما التأكد من صحّة حدوثها، ومن سلامة الروايات التي تحدثت عنها، أو سردت ما فيها من مجرياتٍ، ووقائع.
ومعنى ذلك أنَّ باسكال كينيارد اتخذ من التاريخ (القرن السابع عشر) فضاءً، وإطارًا، يكتنفان الحوادث، ويحيطان بالوقائع. فهو يشيرُ، مَثلا، في مَسْعاهُ لتحرير التاريخ من تاريخيَّته، لوفاة السيّدة دو سانت كولمب، زوجة البطل الموسيقي، فيذكر أنها كانت سنة 1650 تاركة وراءها طفلتين هما مادلين الكبرى، وتوانيت. مع أنّ كولمب فيما تذكر أخبارُهُ عاش بين سنتي 1640 و1700 أي أنه لم يكن قد تجاوز عام 1650 السنة العاشرة من عمره. وهذا شيءٌ يلقي الضوء على تحكم الكاتب المبدع بالتاريخ، فهو لا يُذْعِنُ لأحكامه الصارمة، لا سيما فيما يتعلق بالزمن. أي أنّ بطل الرواية لا حظّ له من شخصية المنسنيور المذكور سوى الاسم، وأنه موسيقي، عدا عن ذلك فهو من اخْتراع الكاتب.
على أنّ الأجواء التي تحيطُ بكولمب، من حيث هو بطل للرواية، ترجع بالقارئ إلى زمن موغل في الماضي، عندما لم تكنْ الطرقاتُ مرْصوفة في باريس، ولا مُعبّدة، ويتنقل الناس بين القرى، والمُدن، مشيًا على الأقدام، إذ لم تكن تتوافر العربات المجرورة إلا للبورجوازيين. أمّا تقصي الكاتب لطقوس الحياة اليومية في الكوخ الذي يقيم فيه على ضفة نهر بييفر، غير بعيد من جسر دوفين، فهو يؤكد أنها تمثلُ، على الأرجح، حياة إنسان أقرب إلى الفقر منه إلى الغنى، يُمْضي الوقت بالعزف، وتعليم الموسيقى لليافعين، والتسلية بلعِبِ الوَرَق، ومن حين لآخر يتمشى تحت أشْجار الصفصاف، أو في القارب العتيق الذي يحتفظ بهِ منْذ أمَدْ بعيدٍ. ولأنَّ كولمب هذا يؤلفُ مقطوعاتٍ موسيقية مؤثرة فيمن يتذوقون الموسيقى، لا سيما بعد وفاة زوجته التي هي الحبُّ الأول، والوحيد في حياته، ومن تلك المقطوعات مقطوعة ' مثوى الحَسَرات ' فقد لمَعَ صيته، وطبقت شهرته الآفاق، ووصل ذِكرُهُ إلى مسامع لويس الرابع عشر، فأحب أن يصغي إليه في القصر، وأن يكون واحدا من موسيقيّي البلاط ليغدق عليه من المال ما يرتقي به إلى مستوى الميسورين. فأنفذ إليه اثنين من موظفي القصر لاستحضاره، وهنا تتجلى المفارقة؛ فالموسيقي (الأيّم) لم يستقبلْ موفدي الملك لويس الرابع عشر بما يليق، بل أحمرَّ وجهُه عند سماعه العرض، كما لو أنه أهين، ورفض رفضًا قاطعًا أنْ يكون مُهرِّجًا في البلاط، فالموسيقى في نظرهِ أسْمى، وأجلّ، من أن تُمْتَهَنْ، وتتخذ وسيلة كسْبٍ رخيص، كالذي عرَضاه، ' فألواح الخشب الرماديّة- إشارة للكوخ والمرْكَب وشجرة التوت، ورنين الأوتار السبعة المشدودة على الفيولين، وابنتاه، وموْضعُ الذكريات، واشجار الحور والصفصاف، والماء الرقراق، هذا هو بلاطه، وهو لا يستبدل به البلاط الذي في قصر فرساي. ' ص 17
تلك الزيارة، وما جرى فيها من حوار، حفزت الملك لويس الرابع عشر لتكرار المحاولة، ولكنه في هذه المرة أنفذ إليه مع الموسيقيّ أحد رجال الدين، وهو الكاهن ماتيو ظنا منه أن للكاهن من التأثير فيه ما ليس لغيره. وتكرَّرَ عنادُ الموسقي، وخاطب الموفدَيْن بالقول: ' إن قصركم المنيف لا يضاهي كوخيَ الحقيرَ هذا '. وشبه الكاهن ومن معه من رجالات البلاط ' بالغرقى الذين يريدون جرَّ الآخرين معهم للغرق '. ص 21 وراجت إشاعة بعد ذلك أن الموسيقي من العُصاة المتمرّدين، وقد يكون من جماعة البور- رويال . وإذًا، يقف الفنان على مسافة كبيرة من السلطة، فمصدر شهرته هو موسيقاه لا دعم الملك، أو البلاط، ومقطوعة ' مثوى الحسرات ' هي التي تذكره بالماضي عندما كان ينعم بدفء الزوجة التي تظهر له فجأة وهو يداعب أوتار الفيولين، وتجلسُ على مقربة من المائدة التي وضعتْ عليْها قارورة نبيذ، وقطْعَة منَ الحَلوى. وتطلبُ منه أن يستمرَّ في العزف، وهي تُصْغي لصَوْت الموسيقى، وعندما ينتهي ويمدّ يدهُ لتناول الكأس يكتشف أنه نصف فارغ، وأنّ الحلوى قد قُضِمَ منها شَطْر. أكانتْ حيَّة ؟ سؤال يطنُّ في أذنيه طنين الأجراس. تتكرر زيارة الزوجة المتوفاة مرارًا (ص35)، وفي كل مرة تستثير شجونه، وأحزانه، ثم تختفي، فهو، إذًا، يعيشُ معَ زوْجتهِ المتوفّاة، وابنتيه المراهقتين.
تلكَ هي حبكة الرواية الرئيسَة؛ الصراع بين الفن الحقيقي والفن المُدجَّن، بين الحياة الحقيقية والحياة مع الموتى. وثمة حبكة أخرى في موازاة هذه الحبكة. فمجيءُ ماران ماريه- ابن السبعة عشرة- ليتعلم من كولمب العزف على الفيولين أثار الركود الذي ران على الكوخ من سنوات، فقد امتحن كولمب الفتى فرآه لا يصلح أنْ يكون عازفًا، أو موسيقيًا، أو تلميذًا (ص33)، لا لأنه غيْر موهوب، ولكن لأنه يتغيا من الموسيقى الاقترابَ من الملك لويس الرابع عشر، وأن يكون من موسيقيّي البلاط. وذلك ما يتنافى مع مبدأ استقلال الفنّ عن السلطة. وهو المبدأ الذي يدينُ به كولمب، ويؤمن. ومن العَجيب أنّ الأبَ يلفُظُ الفتى، ويرفضه، رفضًا باتا وقاطعًا، فيما تتمسك به ابنتاهُ، الكبرى تستلطفه لكوْنها لمْ تعْرفْ شابًا غيره، والأخرى توانيت تراوده عن نفسه مراودة امرأة العزيز لفتاها الذي شغَفَ قلبَها حبًا، وتبعا لذلك سرعان ما أصبح عشيق الأختين، فتتبادلان القبلات معه في خفيةٍ عن الأب، وفي خفيةٍ عنْ بعْضهما، وتنتهي الأمورُ بمادلين بجنين يولد ميتا(ص63). ولكيْ نرى الفارق بين الأب والفتاتين من ماران نذكر الحادثة التي كشفتْ عن أن مارييه يحاول أن يتعلم العزف من البنتين، فاستشاط الأب غضبًا، وحطَّم الفيولين (ص49) مخاطبًا الفتى في سورة انفعاله، وغضبه، الشديد: ' اسْمع يا سيد. آهات النحيب التي ينتزعها الألم انتزاعًا من صدر ابنتيّ أقرب إلى الموسيقى من الأنغام التي تعزفها أنت. اترك الساحة، ولا تعد إليها قط. فأنتَ بهْلوانٌ عظيم الشأن، لكنك موسيقيّ لا شأن له، ولا يعدو حَجْمُه حجْمَ خوخة، أو خُنفساء، ينبغي لك أن تعزف في قَصْر فرساي. ' ص50
يتنبأ دو سانت كولمب بكلماته تلك بالحدث التالي، فقد تولى ماريه، الذي لم يتجاوز العشرين بعد، منصب موسيقيّ الملك ص51 وتعليقًا على رغبة ماريه في الزواج من مادلين يقول كولمب: ' لا أدري إن كنت سأزوجك ابنتي. لا شك أنك رجل ذو مركز يدرّ دخلا جيدًا. وتعيش في قصر يحبُّ ملكُهُ الألحان. لكنْ سيّانَ عندي أن يعرض امرؤ فنه في قصر منيف، أو في كوخ حقير، تهتز فوقه أغصان شجرة التوت، وبالنسبة لي، هناك ما هو أكثر من الأنامل، والأذن، والمقطوعة الموسيقية، والفنّ.. إنه الهوى الذي أعيش. ' ص 53 هما نقيضان إذًا، عازفٌ يريد أنْ يوظف موسيقاهُ لإمتاع الملك، وموسيقار يريد التعبير عن هواه، أي عن شعوره الفياض، والمفعم، بالحب.
وقد راوغ ماريه بدوره الذي يشبه دوْرَ سائس الخيول، وهو يهم بترويض الجواد الجامح، فيحاول أن يتسلل خفية للكوخ بعد أن علم بما لدى كولمب من مؤلفات موسيقية مثيرة لم يَسْمعْ بها أحد، إلا أن السيد كولمبْ لم يقعْ في الفخ، ومع ذلك لم يبلغ اليأس مبلغه من ماريه، وعلى الرغم من الجفْوة التي باعدَتْ بينه وبين الأسرة ردَحًا من الزمن تزوَّج فيه من امرأة أخرى، إلا أنه ظل يتحَيَّنُ الفرصة للحصول على أنواط القطع الموسيقية السرية لهذا الموسيقار العجيب. وحانت الفرصة عندما طلبت مادلين، وهي تحتضر، أنْ يأتي ليعزفَ لها قطعة ' الحالمة '، وهي القطعة التي طالما عزفها عندما كانا يخلوان ويمارسان الحب. كانت مادلينُ تحبه حبًا صادقا فيما هو يداجي، ويخادع، باحثا عن التسلية لا غير. وفي مشهد متوتر يتناول ماريه الفيولين ويعزف المقطوعة (الحالمة) لكنّ هذا العزف كانَ آخر عهدها بالحياة ، فبعد مغادرته الكوخ ماتت منتحرة بأنشوطة صنعتها بنفسها من أحزمة السرير. وما هي إلا أيام حتى كان ماريه في طريقه للكوخ بناءً على استدعاء السيد كولمب، فكان درسه الأخير له هو أن الموسيقى أكبر من الملوك، وأكبر من المَجد، وأكبر من التعبير، وأغلى من الذهب، وأرقّ من الحبّ، وأطهرُ من الحَسْرة، وأكثر ألمًا من الهَجْر، وأكثر حلاوةً من الحلوى، التي تقدَّم لشخص غير مرئي- في إشارة لزوجته المتوفاة- وإنما هي تنهُّداتٌ أولئك الذين يُعْوزُهُمُ البيان، وهي مناغاة الأطفال، وضرباتُ الإسْكافي (ص83)، وأخيرًا يدعوهُ ليُسمعَه المقطوعتين السرّيتين، وهما ' الدموع ' و ' قاربُ الموْت ' وفي اللحظات التي يعلو فيها صوتُ الموسيقى تتلاقى أنظارُهما فإذا هما يبكيان، ولم يعد ماريه لقصر فرساي إلا معَ بزوغ الفجر. في العبارة الأخيرة ' مع بزوغ الفَجْر ' غموضٌ يُسبغ على الأثر كلّهُ ما يمكن أن يوصف بطابع انعدام التحديد، أو اليقين. فهل توفي كولمب؟ ثمة ما يشير لذلك، فقد سمعه ماران وهو يهمسُ لنفْسه قبل أن يدلفَ الكوخ قائلا: ' آه. إني لا أخاطبُ إلا ظلالا غدتْ اليوم جدَّ هرمة. ولم تعد تتحوَّلُ عن مكانها. آهٍ لو أنّ في هذا العالم أحدًا غيري يتذوّق الموسيقى. إذًا لكلمته، وعهدتُ له بها، وعنئذ أستطيع أنْ ألفظ أنفاسيَ الأخيرة. ' ص 82
فبهذهِ العبارات يكون الكاتبُ قد أوحى إيحاءً غير مباشر بأنّ ماران هو منْ سيعهد إليه بأسرارهِ بوَصْفهِ آخر من يتذوَّقون الموسيقى، ويقدرونها حقَّ قدرها، بعد أن أبدى ما أبداهُ منْ حرْص شغوفٍ، وولع يصل حدّ الهوس بالألحان الخفيّة لكولمب، وفي مقدمتها مثوى الحسرات، ودموع، وقارب الموت.
إذا تخطينا سؤال العلاقة المتوترة بين الفن- الموسيقى والسلطة الملك لويس الرابع عشر، والبلاط ، وهي الفكرة الأساسيّة التي تدور حولها الرواية، وتجاوزنا الفهم الدقيق لطبيعة الفنّ، مثلما أفاض في الحديث عنها كولمب لماريه، والفارق بين الحبّ الحقيقي الذي يتمثل في عشق مادلين لموسيقيّ المَلِك، وهيام كولمب بزوْجته المتوفاة، مقابل الخداع والمُداجاة اللذين اتصف بهما ماريه في علاقته الغرامية بكل من مادلين، وتوانيت، إذا تجاوزنا ذلك كلّه، وَواجهنا السؤال الذي طرحناه عن النمط الذي تمثله الرواية في السياق النوعي لعلاقة الرواية بالتاريخ، لاحظنا أنّ الكاتب لا يتعمَّد اللجوء لمدونة تاريخيةٍ ما، يحيلنا إليها على النحو الذي نجده في ليون الأفريقي لأمين معلوف (ظلال وأصداء ص 134- 141)، أو في المخطوط القرمزي لأنطونيو غالا الإسباني( السابق ص 118- 126)، وقد أسْعفَه في هذا اعتمادُهُ القويُّ على السرد المكثف في الرواية؛ فالإفراط في الإيجاز الذي يبلغُ دَرَجَة الشحّ أغناهُ عن التطرق لحوادث تاريخية وقعت في الحقبة التي تمتد من العام 1650 إلى العام 1689 وهو العام الذي أوحى لنا فيه إيحاءً غير مُباشر بنهاية حياة الموسيقي كولمب. فالكثيرُ من الروائيّين الذين يكتبون روايات تاريخية يظنّون أنَّ من واجب الكاتب أن يُلقي الضوء على الحوادث التي جرت في الحقبة التي تشملها الرواية، فتتكدَّس المجريات وتتنوع الشخصيات، وتكثرُ الأمكنة، مما يوقع القارئ في ملابساتِ التأكد من أنّ هذا السرد التخييلي يعكس الحقيقة التاريخية أمْ لا، وما إذا كان يمثل زيادة تؤدي لانتفاخ النص، مثل بالون كبير، رغم أن الحبكة لا تتطلب مثل ذاك الانتفاخ الذي نجده في رواية البيت الأندلسي لواسيني الأعرج. وقلما يتمكن الكاتب من رصد الحوادث التاريخية رصدًا دقيقًا من غير فجوة هنا، وثغرة هناك، أما باسكال كينيارد فقد تخلص من هذا كله بفضل التكثيف الذي انماز به مُتخيّله السردي. فهو تكنيك أمْلى عليه - من جانبٍ آخر - تقليلَ عدَد الشخوص، وعدم الإسراف في رسم ملامح الشخصيات النادرة التي ظهرت على نحو أو آخر، فمعرفتنا بالشخوص معدومة، أو شبه مَعْدومة، باستثناء كولمب، وماران ماريه. فما الذي نعْرفُه عن مادلين، وتوانيت، سوى أنهما ابنتا كولمب، وتعزفان، وتحبان الموسيقى، وتولعَان بماريه. وما الذي نعرفه عن زوج البطل المتوفاة؟ لا شيء إلا ما كان منها من حبّ للموسيقى. وما الذي عرفناه في الرواية عن الكاهن ماتيو، وعن الموظف في البلاط كونيه، وعن هذا أو ذاك من الإسكافي، إلى صانع الآلالات الموسيقية، إلى الرسام الذي أنجز للبطل لوحة تظهر فيها زوجته المتوفاة؟ وهذا أضفى بصورة من الصور أهمية قصوى على شخصية كولمب، ووضعه في دائرة الاهتمام، وفي بؤرة الأضواء التي تسلط على محكيّ الرواية، فهو ضرْبٌ من التبئيرfocalization لا يشاطرُه فيه سوى ماريه الذي يعد من باب التبئير الثانوي، فكلّ ما قيل عن ماريه جاء من أجل الوضوح المطلوب في ملامح كولمب، وتعميق تلك الملامح، والخطوط، وإظهار الظلال، مع الأحوال النفسية، والعصبية، لهذا الفنان العاشق للموسيقى، أي أنَّ جُلَّ ما في الرواية من تفاصيل على ما فيها من التكثيف، وُظف في بلورة شخصية الموسيقيّ الغريب دو سانت كولمب، ونهايته المحتومة. فلم يفرضْ التاريخ على هذه الرواية إذًا، ولم يكتفِ الكاتبُ بإعادة قراءة التاريخ وتدوينه بأسلوبٍ سرْديّ يتقيد فيه بمحتواه المعْرفيّ، ولكنَّ التاريخ يمثل طيفًا يتراءى خلال قراءتنا لها من بعيدٍ، كنغمة موسيقية خافتة تظهر من حين لآخر في قطعة تحتوى عشرات، إن لم نقل، مئات النغمات، التي تصرفُ الانتباه عن تلك النغمة المتكررة الآتية من بعيد.
بهذا المفْهوم تعدّ رواية باسكال كينيارد هذه مثالا للرواية التاريخية التي لا تتناول التاريخ تناولا مُباشرًا، وإنما تكتفي منه بالقليل الذي يكفي ليُضْفيَ على النصّ صفة الإيحاء بالماضي، بدلا من الواقع، وإنْ كانتْ - في حقيقة الأمْر - روايَةً تصِفُ الواقعَ، وما فيهِ منْ توتُّر، وصراع، من خيانةٍ وخداع، من موْت وحياة، باعتبارهِ - مَجازيًا - من إرْثِ الماضي.
القدس العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.