سُرق الأمان، فأضحت نيالا لا تنام. الصراخ والأنين يغطي قرى ومدن الحرب، ولكن لا حياة لمن تنادي. والملاريا والفئران تقض مضاجع الجزيرة! والشباب، عقول وسواعد التغيير، يتركون السياسي المباشر ويذهبون إلى ما فيه فعل ملموس يمسح دمعة من طفل محروم، رغم أن أعدادا كبيرة من هولاء الشباب رفعت الشراع وأعلنت الرحيل عن البلاد. أما الخرطوم، فلا جديد فيها رغم التذمر والإنهيار البادي في كل مناحي الحياة. المؤتمر الوطني لا يزال يحكم، والمعارضة لا تزال تعارض، والشارع يواصل الأسئلة، رغم أنه لا يطيق تكرار الأسئلة في كل الأوقات. صحيح أن صبر الشعب السوداني ليس له حدود، لكنه، أيضا، لا يطيق أن يتلقى نفس الردود والإجابات. وإذا كان تاريخ السودان حتى العام 2005، ساده تنظير مقبول للجميع، تنظير “الحلقة الشريرة": ديمقراطية..إنقلاب..ديمقراطية...إنقلاب ديكتاتورية، فإن تاريخ ما بعد 2005، أيضا لم يخرج من تداعيات تلك الحلقة، راسما حلقة حرب..مفاوضات...حرب..مفاوضات. وأعتقد أن هذه الحلقة الجديدة تفرض على أي حزب سياسي، وكذلك على أي ناشط سياسي، أن يقيم حجم دوره وأدائه، الخاص به هو تحديدا وليس غيره، بالنسبة لفعله ومردود فعله تجاه مفردات هذه الحلقة الجديدة، حتى يكون موقفه واضحا أمام الشعب. الحراك في البلاد، تحدثه مجموعات متفرقة في بقع متفرقة، الرابط بينها على المستوى القاعدي إما ضعيف أو معدوم. أما على المستوى القيادي، أو الفوقي، فهناك الحكومة جناح القمع والكنكشة، وهو الجناح المسيطر، مقابل جناح الإصلاح الذي لا يزال صوته خافتا. وهناك المعارضة جناح الوسائل المسلحة، والمعارضة جناح الوسائل السلمية، والغايات والأهداف المرجوة لم تتحقق بعد. الحكومة عاجزة عن الحكم، ولكنها تدافع عن سلطتها بكل العنف والشراسة، الحرب وإنعدام الأمن يطآن كل يوم بقعة جديدة في البلاد، والقوى السياسية المعارضة لم تنجح حتى الآن، بسبب القمع والضعف الذاتي، في تحريك الشارع في صفوف إلى القصر حتى النصر، و....و....و....! وفي الساحة السياسية المعتمة، والمفتوحة على كافة الإحتمالات، تحركت أيادي، ليست خفية، ظلت تتحرك في الفضاء السوداني منذ فترة ليست قصيرة، وبعلم وموافقة الجميع. ونحن هنا نقصد أيادي المجتمع الدولي. وبما إن أيا منا، نحن اللاعبين الداخليين، لن يستطع التحكم في حركة جسم مستقل عنه تماما إلا بالتصادم، فلا داعي للفرار والإنعزال، بل أفترض أن الفعل الثوري في هذه الحالة هو أن نحدد مبتغانا بدقة، وننخرط في اللعبة دون التفريط في أي من مصالح الوطن والشعب. وتاريخيا، يدخل الفرسان ساحة المبارزة بعد حوار وشروط. المؤتمر الوطني، بالتعاون مع المجتمع الدولي، لن يستطيع جرنا على الطريق، ثم وضعنا حول طاولة التفاوض. ذلك لم يحدث، ولن يحدث. والأفضل لأي متخوف من التعامل مع المجتمع الدولي، أن يستعيد ثقته في نفسه، ويبحث عن كل ما يساعده على مسابقة الخطوات الحيوية للفاعلين السياسيين. والإستجابة لصافرة هذه الدعوة أو تلك من دعوات المجتمع الدولي، مثلا التفاكر حول مبدأ الحوار، لا تعني إيقاف أي قاطرة تتجه في أي اتجاه آخر، تصعيد العمل الجماهيري الإنتفاضي، مثلا. إي أن أي حراك في أي طريق، لا يعني بالضرورة وقف التحركات الأخرى في الاتجاهات الأخرى. والذي يفكر بهذه الطريقة، عليه مراجعة وإستذكار دفاتره في مبادئ علم السياسة. بعد هذه المقدمة، ندخل إلى قصة ندوة مركز الحوار الإنساني: مركز الحوار الإنساني، ومقره جنيف، يعرف نفسه بأنه منظمة عالمية غير حكومية تعمل من أجل منع وحل النزاعات والحروب عبر الحوار والطرق الدبلوماسية، كما تعمل في مجال العون الإنساني لضحايا النزاعات. بالنسبة للسودان، يصف المركز نفسه بأنه من اللاعبين الأساسيين في تقديم المساعدة لفض النزاع الدموي في كل من دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وأنه يتبنى خطة لتنشيط الحوار السوداني السوداني، بمشاركة السياسيين ونشطاء المجتمع المدني، حول أسباب تجدد النزاعات في السودان وكيفية الوصول إلى حلول ناجعة لها. ويشير سجل المركز إلى أنه رعى عددا من اللقاءات في جنيف ضمت ممثلين لأطراف المعارضة المسلحة وممثلين عن المجتمع الدولي، كما نظم في سبتمبر الماضي، بالمشاركة مع وزارة الخارجية البريطانية، ندوة في القاهرة حول سيناريوهات الخروج من الأزمة السودانية، شارك فيها لفيف من الأكاديميين السودانيين ونشطاء المجتمع المدني السوداني. وفي الثاني من مارس الجاري شاركت في ندوة نظمها المركز، بعنوان “نحو حوار وطني بناء". وشارك في الندوة عدد من الأكاديميين والناشطين السياسيين من الحكومة والمعارضة، ونشطاء المجتمع المدني، وهم: فاروق أبوعيسى، محجوب محمد صالح، آمنة ضرار، محمد وداعة، ريفي سابو جامونا، إبراهيم الأمين، مريم الصادق، عمر شمينا، السماني الوسيلة، عبدالله حسن أحمد، محمد العالم، حامد جمال الدين، محمد محجوب هارون، الزهاوي ابراهيم، عبد الفتاح محد الطاهر، إبراهيم غندور، مريم تكس، بدرية سليمان، عائشة الكارب، عبد الغفار محمد أحمد، حسن حاج علي، بلقيس بدري، عفاف تاور، أميرة أبو طويلة، عبد المتعال قرشاب، وليم زكريا، إبراهيم أبوخليل، ساتي سوركتي، تاج السر محمد صالح، مصطفى محمود، صديق التوم، إضافة إلى السيد ثيو ميرفي، ممثلا للجهة المنظمة، أي مركز الحوار الإنساني، والسفير نور الدين ساتي، مستشار المركز. وفي بداية الندوة تم التأكيد على أن جميع المشاركين يشاركون بصفتهم الشخصية وليس كممثلين عن الكيانات السياسية أو المنظمات التي ينتمون إليها. أما القضية الرئيسية التي طرحت في الندوة فكانت: ما هي الشروط المطلوبة لقيام حوار وطني سوداني؟ وأدار النقاش الأساتذة: محجوب محمد صالح، عمر الفاروق شمينا، نور الدين ساتي، وعبد الغفار محمد أحمد. كل الحضور ساهم في النقاش، وبالطبع، وكما هو متوقع، برزت آراء ووجهات نظر متباينة، بل ومتعارضة. ولكن، وبحسب التلخيص الذي قدم في ختام الندوة، اتفق الجميع على صعوبة إبتدار حوار وطني بناء، ما لم: أولا، يشارك فيه الجميع، وخاصة القوى التي تحمل السلاح، دون إقصاء لأي أحد، وثانيا، ما لم يوفر له المناخ الملائم والمتمثل في إشاعة الحريات وإلغاء القوانين المقيدة لها، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وإطلاق حرية التعبير وإعادة صدور الصحف الموقوفة...الخ. ولقد لفت نظري ما جاء في مداخلة السيد ثيو ميرفي في بداية الندوة، حيث أكد على أن مجهود مركز الحوار الإنساني يصب في فكرة إنهاء وصفة الإتفاقات التي تطبخ في الخارج وتفرض على السودان، ويصب في إنهاء نبذ الحلول القائمة على القتال والاحتراب، ويصب في نبذ فكرة الحلول الجزئية لصالح البحث عن حل شامل للأزمة السودانية وبمشاركة الجميع، وأن الندوة، وآخريات سينظمها المركز، بمثابة عصف ذهني بحثا عن أفكار جديدة حول الحوار والحلول السلمية. هذا بمثابة تقرير أقدمه للشعب السوداني، وهو نسخة طبق الأصل من التقرير الذي قدمته للحزب الذي أنتمي إليه. وعموما، أقول: إنتهى عهد المشاهدة الصامتة، ومسلسل الساعة الثامنة، فنحن نعيش في عالم عاصف متغير، لا يصمد فيه إلا المتحرك المنفتح الذي يعرف مبتغاه، وبوصلته الهادية هي مصلحة الشعب والوطن. الميدان