بحلول الثلاثين من شهر يونيو القادم يكون النظام الحالي قد بلغ من العمر ربع قرن إلا عاماً، وتكون المعارضة في أصدق تجلياتها قد بلغت أيضاً من العمر ربع قرن إلا عاماً، وبين طويلي العمر وئدت أحلام كثيرة منها الصغير بحجم طابع البريد كما تقول غادة السمان، ومنها ما هو بحجم جبل أحد. ويبدو أن الحكام من غير المنتخبين في عالمنا الثالث لا يشكل لهم بقاؤهم في السلطة عقوداً حرجاً، حيث لا اعتداد بدستور يقنن ويقيد فترة بقائهم باعتبارهم مصدر ذلك الدستور مقارنة بالدساتير الديمقراطية التي تمنح الرئيس المنتخب دورتين فقط لا يحق له تجاوزهما بأي حال ولن يستطيع. عندما وقع انقلاب الإنقاذ في عام 89م كان جورج بوش الأب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وذهب بوش الأب وانتخب بيل كلينتون لدورتين متتاليتين وفقاً للدستور شهدت الولاياتالمتحدة خلالهما طفرة اقتصادية كبرى، ثم جاءت الانتخابات ليتولى جورج بوش الابن إدارة الولاياتالمتحدة لدورتين أيضاً، ثم ذهب بوش بخيره وشره وتولى باراك أوباما رئاسة الولاياتالمتحدة في مشهد تاريخي، وانقضت فترة أوباما وأعيد انتخابه من جديد. وعبر كل هذه السنوات التي قاربت ربع قرن ظل الكثيرون عندنا هنا في مواقعهم في مقابل خمس دورات انتخابية أميركية وخمس رؤساء أميركيين، مع ملاحظة صغيرة هي أن هؤلاء الرؤساء تم انتخابهم ولم يتولوا السلطة عبر انقلاب عسكري. أما المعارضة فتشاء الأقدار أن تكون الوجه الآخر لهذا العمر الطويل على غير ما ترغب أو تهوى، إلا أن المعارضين أنفسهم إزاء هذا العمر الطويل في المعارضة طرأت عليهم متغيرات وتقلبات وتحولات، فمنهم من التحق بمركب الحكم، ومنهم استعصى على شهوة السلطة، ومنهم من أعاد حساباته، ومنهم من تشابه عليه البقر، ومنهم من بقي ممسكاً على جمر المعاناة. وما بين النظام ومعارضيه تشردت أطياف من شرائح المجتمع، ووئدت أحلام، وابتلعت الغربة مئات الآلاف منهم من اندمج في مجتمعه الجديد ومنهم من استعصم بخصوصيته الثقافية مستعصياً على الاندماج، فبات يجتر سنوات عمره في موطنه الذي لم يعد كما تركه أو أجبر على تركه، يقلب في صفحات الانترنت بحثاً عن أحلامه وتطلعاته الموءودة، ويتابع في حزن مجيد أنباء الحروب والتشرد والنزوح داخل موطنه، ويقارن في أسى بالغ بين وضع المواطن في بلاد الديمقراطيات التي يسودها حكم القانون وبين حال المواطن في بلاده الذي يغني عن السؤال. وإزاء هذا المشهد الدرامي ينطلق سؤال من بين هذه اللعنة العمرية السياسية التي أصابت البلاد والعباد: ترى ما هو سر بقاء هذه الحالة المعمرة لطويلي العمر النظام في عرشه والمعارضة في قلة حيلتها في زمن تنتفض فيه الشعوب طلباً للحرية وسيادة حكم القانون؟ والإجابة عن هذا السؤال في تقديري تكمن في حالة الضعف المتبادل بين النظام ومعارضيه، وليس في ضعف الإرادة الشعبية التي تجاوزت المتحدثين باسمها في تونس ومصر وحتى في اليمن السعيد. فسر ضعف النظام أنه يعتقد أن القوة في قدرته على قمع معارضيه ومصادرة حقوقهم السياسية والتضييق على أنشطتهم وممارسة أكبر قدر من الهيمنة السياسية بإقصاء الآخرين، فضلاً عن الحسم العسكري لحملة السلاح، دون الانتباه إلى مخارج سلمية تستجيب للمشروع من المطالب العادلة التي يرفعونها دون مبالغة. والحقيقة أن القوة تكمن في العكس من ذلك تماماً، لأن هذا المسلك يفتح المزيد من أبواب التدخلات الخارجية التي لا يقوى النظام على منعها أو عدم الاستجابة لضغوطها، وقد ثبت ذلك عملياً في كل تفاصيل الممارسة السياسية للنظام، ولم يتبق له إلا بضعة أغنيات حماسية وطبول لن تعصم مجلس الأمن من فرض إرادته على السلطة الحاكمة.. فلو كان النظام متصالحاً مع شعبه ومعبراً عنه ويلتمس شرعيته من انتخابات حرة نزيهة، لما تجرأ أحد على فرض إرادته عليه وذلك مكمن القوة. أما المعارضة فقد فشلت في تغيير الواقع السياسي مكتفية بإطلاق البيانات من عواصم الجوار، لأن ضعفها يكمن في بنيتها التنظيمية وآلياتها السياسية، وفي عدم قدرتها على تعبئة الجماهير وإقناعها بالنزول إلى ميادين التغيير. ورغم درجات الاختلاف في ما بينها إلا أنها مطالبة بالإجابة عن السؤال الملح: لماذا فشلت لعقدين في إحداث هذا التغيير المطلوب نحو واقع ديمقراطي جديد أسوة بشعوب الربيع العربي؟ عقدان من عمر جيل الحالمين بالديمقراطية والتنمية لبلادهم ليست بثمن بخس تتراجع أمامه أسئلة حقيقية للاعبين السياسيين في الساحة السودانية، فالحرب التي تتمدد في جنوب كردفان ودارفور والنيل الأزرق بطرفيها لن تمكن طرفاً من فرض شروطه على الآخر حتى لو استثنينا التدخلات الخارجية. وسياسة القمع والإقصاء والهيمنة وإطلاق يد الأجهزة للتضييق على الحريات بأنواعها لن تضيف رصيداً إيجابياً للسلطة بقدر ما تعزز قائمة اتهامها أمام شعبها وأمام المجتمع الحر. ولا سبيل أو مخرج غير المثال الجنوب إفريقي الذي يعيد الحقوق ويحاسب المتجاوزين ويضمد الجراح ويفشي المصالحة الإنسانية، لأن المنتصر الحقيقي حينها سيكون الوطن يومها، وأيضاً ربما تخضر أحلام جيل جديد وتقوى على التحقق، وليس بالضرورة أن تكون أحلامنا نحن التي طوتها برودة المنافي. ٭ صحافي وكاتب يقيم في واشنطن ............................................................. تقييم تجربتي محاولات انضمام السودان للتجارة العالمية (2) د. أحمد شريف عثمان في الحلقة الأولى التي نشرتها بالصفحة السابعة بالصحافة العدد رقم (9207) بتاريخ الاثنين 52 فبراير تعرضت للتطورات الادارية لتجربتي محاولات انضمام السودان لمنظمة التجارة العالمية على مدى (91) عاما منذ 5991م عندما ارسل اليه بروتكول مراكش للتوقيع عليه وتلكأ في التوقيع وأضاع فرصة الانضمام بالتوقيع وأدخله بعض أبنائه عن جهل أو عن قصد في مرحلة البحث عن الانضمام عن طريق التفاوض مع ما يقارب المائة وخمسين دولة من بينهم الاصدقاء والاشقاء والذين يصنفون بأصحاب العلاقات السالبة مع بلادنا ثم الاعداء؟!! وكما أوضحت في الحلقة الأولى فإن المرحلة الاولى بدأت بإعداد اللجنة القومية لاعداد السودان للانضمام لمنظمة التجارة العالمية تحت مظلة وزارة التجارة الخارجية واشراف اللجنة العليا للاشراف على انضمام السودان لتلك المنظمة المكونة بالقرار السياسي رقم (47) لسنة 8991م والتي أجازها مجلس الوزراء بإشادة في عام 9991م وقدمت للمنظمة في يوليو 9991م حيث جاء رد الفعل عليها سريعا خلال نفس العام حيث بلغت الاسئلة في المرحلة الاولى (711) سؤالاً تمت الاجابة عليها تلتها في المرحلة الثانية (181) سؤالا قامت اللجنة القومية بالرد ايضا وحتى صدور القرار السيادي رقم (4) لسنة 2002م بالغاء اللجنة العليا للاشراف على انضمام السودان لمنظمة التجارة العالمية بلغت الاسئلة الاساسية والفرعية لها حوالى (562) سؤالا؟!!. وخلال هذه الفترة قامت ايضا اللجنة القومية تحت اشراف اللجنة العليا بوزارة التجارة بتكوين لجنتين قامتا بإعداد مسودتي قانوني مكافحة الاغراق وقواعد المنشأ وهاتان المسودتان تمت اجازتهما في سنوات لاحقة من الجهازين التنفيذي والتشريعي. كما قامت خلال فترة توليها لملف الانضمام بإعداد العديد من الوثائق لمساعدة متخذي القرار منها باختصار الآتي: تصور مبدئي لخطة شاملة ومحددة بجداول زمنية لخطوات انضمام السودان لمنظمة التجارة العالمية والخطوات الرئيسية المطلوبة للانضمام. وثيقة توضح تجارب الدول النامية التي انضمت حديثا في السنوات الاخيرة للمنظمة والتزاماتها في مجال السلع مثل الاردن وسلطنة عمان وجورجيا والبانيا.. الخ. وثيقة تتعلق بالدعم المحلي ودعم الصادرات في إطار اتفاقية الزراعة. وثيقة تتعلق بتوفير المعلومات عن السياسات التي تؤثر على التجارة في الخدمات وفروعها المتعددة ومقترحات حول التعامل معها. وثيقة تتعلق بتوفير المعلومات عن السياسات التي تؤثر على التجارة في الخدمات وفروعها المتعددة ومقترحات حول التعامل معها. وثيقة تتعلق بتوفير المعلومات او القوائم التوضيحية لاتفاقيتي الحواجز الفنية امام التجارة واتفاقية الصحة والصحة النباتية. وثيقة تتعلق بتوفير المعلومات عن التجارة المرتبطة بحقوق الملكية الفكرية. وثيقة بقوائم شملت 056.6 سلعة ومنتج صناعي (عرض مبدئي للسلع) مصحوباً بمؤشرات بدائل تكتيك للتفاوض في حدود (82) ثمانية وعشرين نوعا للبدائل لكل مجموعة من السلع حسب توزيعها القطاعي وأوزانها في الرسوم الجمركية وتأثيراتها المتوقعة على الايرادات زيادة أو نقصاناً..؟!! وبحكم تمثيلي لوزارة الصناعة القومية منذ تكوين هذه اللجنة في عام 8991م ثم لوزارة الصناعة والاستثمار بعد تعديل اسمها لوزارة الصناعة والاستثمار بعد عام 0002م فلقد كنت مشرفا ورئيسا للجنة اعداد العرض المبدئي للسلع وهي من أهم لجان الاعداد للمفاوضات مع الدول المنضوية كأعضاء بمنظمة التجارة العالمية خلال مرحلة المفاوضات الثنائية مع الشركاء التجاريين الراغبين في التجارة مع السودان والتي من بينها الدول العربية والدول المنضوية للكوميسا اضافة للولايات المتحدةالامريكية وبريطانيا والاتحاد الأوربي وكندا واليابان واستراليا والبرازيل وسويسرا والهند وماليزيا وباكستان واندونيسيا كأمثلة قابلة للزيادة او النقصان؟! اللجنة القومية انجزت هذا العمل الذي امتد تحت مظلة الامانة العامة للاعداد لانضمام السودان لمنظمة التجارة العالية حتى صدور القرار السيادي رقم (4) لسنة 2002م بايلولة الامانة العامة لمنظمة التجارة العالمية بوزارة التجارة الخارجية بكافة اصولها ووظائفها ولجانها واختصاصاتها الى المفاوض القومي لانضمام السودان لمنظمة التجارة العالمية والذي بموجبه الغيت اللجنة العليا للاشراف لمنظمة التجارة العالمية والتي انجزت وثيقة طلب الانضمام وتلقت مئات الاسئلة وارسلت الاجابات عليها وأعدت مجموعة من الدراسات والوثائق استعدادا للتفاوض وقامت بكل ذلك العمل دون ميزانية وبالتطوع مجاناً دون مكافآت او حوافز وهذه نقطة هامة جدا مقارنة بما حدث بعدها؟!. خلال الفترة من ابريل 2002م وحتى نوفمبر 3002م ونتيجة للخلافات حول مهام الامين العام للتجارة العالمية ترك اثنان كانا قد شغلا هذا المنصب موقعهما وهما من الكوادر الجامعية بالقوات النظامية وتبع ذلك في نوفمبر 3002م تعيين الامين العام الثالث وهو من الكوادر المؤهلة أكاديمياً ولديه خبرات متنوعة بالداخل والخارج وكان الهدف من تعيينه اعطاء عملية الانضمام دفعة للامام لكن هذا الامين العام الثالث ظل مجمدا رغم المكاتبات العديدة الصادرة من جهات عليا توضح مهامه واختصاصاته مع صاحب الايلولة وظل مجمدا لحوالى سبع سنوات دون ان يسمح له بممارسة عمله كأعلى سلطة مدنية تنفيذية بالمفوضية؟!! في جانب آخر جرى في ابريل 4002م تعيين العديد من الاشخاص في الدرجة الاولى للخبراء الوطنيين استمروا لثماني سنوات (يعملون محلك سر)؟!! والغريب جدا ان التعيينات للخبراء الوطنيين لم تشمل ولا واحدا من فريق التفاوض الذي سبق ان ارسل في عام 0002م للتدريب لدى سكرتارية المنظمة بجنيف وكان من بينهم وزير اتحادي سابق لأهم وزارة في قطاع الخدمات لسنوات طويلة في عهد الانقاذ اضافة لحوالى عشرة من وكلاء الوزارات كالزراعة والغابات والثروة الحيوانية والعدل ومديرين لشركات قطاع عام وسفراء من الخارجية وهذا التصرف في ابعادهم من تلك التعيينات يتماشى تماما مع منهجية (سياسات المسح بالاستيكة) الشهيرة لانجازات الآخرين والتي بدأت بالهجوم الجارح على وثيقة الطلب المقدم من السودان للانضمام للمنظمة والذي يتناقض بوضوح مع شخص يفترض فيه الدفاع عن وثيقة الطلب وبالتالي لم يكن هنالك داع لاستعمال التكتيك المعروف منذ عهد مايو في 4791م؟!! ومثل هذه التصرفات اضرت كثيرا جدا بعملية الاستمرارية المطلوبة في متابعة وثيقة طلب الانضمام التي يجب ابعادها نهائياً من أصحاب (الشخصنة) لان هذا عمل قومي كان من المفترض أن يتم انجازه في حدود عام 5002م والاستفادة القصوى من مناخ توقيع وتنفيذ اتفاقيات السلام في مشاكوس ونيفاشا دون مطاولات استمرت لسبع سنوات بعد ذلك دون فائدة وهي تحقيق عملية الانضمام لمنظمة التجارة العالمية بالرغم من صرف عشرات المليارات من الجنيهات من الخزينة العامة ومن الدعم من الوزارات والشركات العامة وخلافهم؟!!. بالتالي فان الخطأ الثاني الذي ارتكب في تعطيل انضمام السودان لمنظمة التجارة العالمية بعد رفض التوقيع على بروتوكول مراكش في عام 5991م في عهد وزارة التجارة والصناعة هو ضياع فرصة الاستفادة من فترة تنفيذ اتفاقيات السلام بعد عام 5002م حتى 1102م بواسطة مفوضية شؤون منظمة التجارة العالمية؟! وبالتالي فان أي عمل جديد يفكر فيه لمواصلة عملية انضمام السودان لهذه المنظمة يجب ان يبدأ بالاستفادة من تقييم لماذا حدث الخطأ الاول والخطأ الثاني وتحليل أبعادهما حتى لا نقع في نفس الاخطاء مرة ثالثة أو ربما رابعة؟!.. المطلوب حالياً بعد (91) تسعة عشر عاما من التجارب الفاشلة في عملية الانضمام والتي صرف عليها الكثير من المليارات من الجنيهات بعد عام 2002م وضع خارطة طريق واضحة المعالم وملزمة لجميع الاجهزة والمرافق ذات الصلة بعملية الانضمام للمنظمة وما بعدها.. لأن عملية الانضمام في حد ذاتها ليست غاية بل الهدف الاستفادة من المزايا المتعددة بعد عملية الانضمام في ظل المتغيرات العديدة التي حدثت ببلادنا بعد يوليو 1102م بانفصال الجنوب وما تبعها سياسياً واقتصادياً؟!!.. هذه الخارطة تبدأ بتحديد الجهة التنفيذية المسؤولة عن متابعة عملية الانضمام وشؤون منظمة التجارة العالمية بالسودان وأرى ان تكون كما هو الحال في معظم دول العالم اذا لم يكن كلها وزارة التجارة كنقطة ارتكاز لهذا العمل وبالتالي ان تتبع الامانة العامة او المفوضية لهذه الوزارة تحت الاشراف المباشر لوزيرها دون (شخصنة) خاصة بعد ان فشلت تجربة الايلولة الممتدة لأكثر من عشر سنوات من ايصال السودان للانضمام لمنظمة التجارة العالمية بالرغم مما صرفته من مال عام الدولة بمبالغ بلغت عشرات المليارات دون فائدة حيث ينطبق عليها مثال ذهب مع الريح الشهير..؟! عدم تكرار تجربة الايلولة السابقة الفاشلة والتي أبعدت كل أعضاء فريق التفاوض الذي جرى تدريبه بواسطة المنظمة والمكون من (22) شخصا ابعاداً تاما واستبدالهم بأفراد جدد بعد ان صار العمل فيها بالمقابل بهدف ايجاد دخل سمين لبعض الاحباب بغض النظر عن تخصصاتهم وسابق خبرتهم التي لا علاقة لها بالتجارة العالمية؟! والنتيجة كانت ان قبض كل واحد منهم اكثر من مليار جنيه (بالقديم) كمرتب وبدلات وتذاكر سفر وعلاج وفوائد ما بعد الخدمة عن كل سنة هذا خلاف العربات ومصاريف تسييرها دون ان يقدموا شيئاً للسودان وانضمامه لمنظمة التجارة العالمية والدليل القاطع لذلك انه رغم كل ما صرف عليهم من مال ومخصصات وتكاليف سفر لجنيف فإن السودان مازال خارج عضوية منظمة التجارة العالمية وبالتالي يجب عدم تكرار تلك التجربة الفاشلة مرة أخرى؟!!. نواصل في الحلقة الثالثة إن شاء الله. ...................... قراءة حول مآلات السلام في جبال النوبة د.احمد عثمان خالد: أهي جبال النوبة أم جنوب كردفان؟جبال النوبة أقدم من جنوب كردفان من حيث التسمية ومن حيث التداول السياسي للمصطلح على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية، لكن كثيرين يتحفظون على تسمية جبال النوبة لاعتبارات خاصة بهم، ودائماً ما أكتب باسم جنوب كردفان باعتباره أوسع وأشمل وأرحب، لكن في هذا المقال بالذات أتحدث باسم جبال النوبة بوصفها منطقة وليست عرقاً، لأن الخطاب أقرب إلى الخصوصية باعتبار أن معظم المنتسبين للحركة الشعبية بجبال النوبة هم من أبناء النوبة، وبالتالي فإن التحليل الذي نتناوله في هذا المقال يعنيهم في المقام الأول كأصحاب قضية من الدرجة الأولى. وأود أن أشير هنا إلى أن المنهج المتبع في كتابة هذا المقال وبهذا العنوان «جبال النوبة» هو منهج مقتبس من منهج الحكومة السياسي الذي أثبت الاسم «جبال النوبة» في كل المحاضر والاتفاقيات الدولية، بل وحتى في الدستور الانتقالي الذي تضمنته اتفاقية السلا م الشامل، كما أن المؤتمر الوطني بوصفه حزباً حاكماً أطر لهذا الاسم داخل الحزب الواحد، فسمى اللجنة السياسية لإبناء النوبة التي لا يدخلها إلا من كان من القوم، وسمى المجلس الإسلامي لإبناء جبال النوبة، والهيئة الشعبية الإسلامية لإبناء النوبة، ولعل الاسمين الأخيرين من آخر اجتهادات الحركة الإسلامية التي أغلقت باب الاجتهاد، فنحن نتعامل مع واقع أملته علينا سياسات الحكومة، وما علينا إلا الاتباع والانصياع تمشياً مع المثل القائل: «راجل أمك كلو أبوك». كذلك أود أن أشير هنا قبل الولوج في جوهر الموضوع، إلى أن بعض معوقات السلام تكمن في أبناء النوبة أنفسهم بسبب صراعاتهم وتنافسهم الحاد داخل الحزب الواحد، وقد يكون هذا بدافع الهوى وحظوظ النفس، وقد يكون بفعل بعض شياطين الإنس الذين يعملون بمبدأ «فرق تسد»، لكن في كل الأحوال المتضرر الأول هو إنسان المنطقة والمنطقة نفسها، لذلك يجب الانتباه إلى هذه النقطة تحديداً خاصة من بعض الشباب الذين صعدوا إلى القمة دون سند جماهيري، ويناطحون بكل السبل المشروعة وغير المشروعة من أجل البقاء في الموقع لأطول فترة ممكنة حتى ولو ظلت عشيرته في قبضة التمرد. انتهى المدخل، فإلى جوهر الموضوع: أصبحت قضية جبال النوبة من القضايا السياسية والأمنية الأكثر خطورة، وأخذت بعداً إعلامياً أشد خطورة على مستوى العالم عبر المنظمات والآليات الداعمة لهذه القضية، فهذا البعد الإعلامي كان أحد أهم أسباب تعقيد المشكلة وتدويلها وتأزيمها، حتى وصلت إلى هذه المرحلة الحرجة الضبابية التي لا تعطي أي مؤشر لحل نهائي رغم المفاوضات غير المباشرة مع حاملي السلاح من قطاع الشمال. ولكي نناقش هذه القضية بعقلانية ومنطق، نفترض افتراضاً علمياً وحوله ننسج جملة من الخيوط والسيناريوهات المتوقعة في حال صح الافتراض أم لم يصح، والافتراض هو: هب أن الحكومة تواضعت وتراجعت عن موقفها المتشدد مع قطاع الشمال وتفاوضت معه وتم الوصول إلى اتفاق سلام بالذات في جبال النوبة، هل سيكون هذا الاتفاق نهائياً ودائماً، أم سيكون مجرد خطة تكتيكية لوثبة عسكرية ثانية من الطرف الثاني؟ وربما توافق ذات التاريخ المشؤوم «ستة ستة الساعة ستة» كما تكهن بعض الكجرة في جبال النوبة. كل الدلائل تشير إلى أنه طال الزمن أم قصر فلا بد من الجلوس مع قطاع الشمال والتفاوض معه، وفي هذه الحالة لا محالة أن عبد العزيز الحلو سيكون الحاكم على جبال النوبة، وربما يأتي الاتفاق بولاية اسمها جبال النوبة، وهذا ليس بالأمر المستغرب ولا البعيد في ظل الضغوط المتزايدة على السودان، وفي ظل البحث المستمر للخروج من الأزمة بأي ثمن، ولنفترض أنه تم التوصل لاتفاق فهل يعني هذا نهاية المشكلة في جبال النوبة؟ لا أعتقد ذلك لسبب واحد رئيس، وهو العلاقة التاريخية بين الحركة الشعبية الأم والحركة الشعبية قطاع جبال النوبة، فالحركة الشعبية لتحرير السودان لها أهدافا ستراتيجية تتمثل في تحرير السودان من العرب العاربة والمستعربة، وبناء سودان جديد خالٍ من العناصر العربية، كما صرح بذلك يوري موسيفيني الرئيس اليوغندي عندما قال إن العرب خرجوا من اسبانيا بعد خمسمائة سنة من حكمها، فلا بد أن يخرجوا من إفريقيا بذات الطريقة، وبالتالي هذا هدف استراتيجي للحركة الشعبية تسعى لتحقيقه بكل الوسائل بما في ذلك الحركة الشعبية قطاع الشمال أو قطاع جبال النوبة لا فرق، ولذلك فإن أي اتفاق مع قطاع الشمال سيكون اتفاقاً مرحلياً بالنسبة للحركة الشعبية لتحقيق أهداف سياسية فشل الحلو في تحقيقها بشعار النجمة، وفشل كذلك عن طريق الهجمة، إذن فأقرب طريق للوصول إلى أهداف الحركة الشعبية ان يتم اتفاق سلام مع قطاع الشمال «أبناء النوبة» على وجه التحديد لقربهم من دولة الجنوب، ولعل الذي يؤكد ما ذهبنا إليه هو إصرار حكومة الجنوب على عدم فك الارتباط بقطاع الشمال، وإصرار المجتمع الدولي على التفاوض مع قطاع الشمال تحت البند «ستة وأربعين عشرين»، وفي تقديري أن إصرار الحكومة على عدم التفاوض مع قطاع الشمال يأتي في إطار تخوفها من هذا الاتجاه الذي أشرنا إليه، فإن السودان في أي اتفاق سلام يعود بالحلو إلى كادوقلي يعني مزيداً من التقوية العسكرية لهذا القطاع المدعوم من حكومة الجنوب التي تعمل بالوكالة لتفتيت السودان وتمزيقه أو صوملته أو بلقنته حسبما يريد الغرب. فإذا كان عبد العزيز الحلو أثناء تنفيذ بنود اتفاقية السلام الشامل، وهو نائب الحاكم وقتها، يجند رجاله ويستعد للتمرد حال فشله في الانتخابات، فما الذي يمنعه أن يتمرد للمرة الثانية وهو رجل غير وفي ولا مخلص. ونحن لسنا على علم بما في الضمائر، لكن المنطق العقلاني والشواهد ومعطيات الواقع تؤكد أن أي اتفاق مع قطاع الشمال يعني الوثبة الثانية لعبد العزيز الحلو في إطار تنفيذ أجندة الحركة الشعبية لتحرير السودان، ونحن نعلم تماماً أن قطاع الشمال ما هو إلا آلية لتنفيذ أجندة خاصة لحكومة الجنوب، ونحن نقول هذا من باب التحليل السياسي ومن باب الافتراض العلمي للأحداث، ونريد من هذا كله أن نتعامل مع الواقع بأعين مفتوحة وبصائر واعية، فليس من الحكمة أن نلدغ من الجحر الواحد أكثر من مرة. إذن ما ذكرناه آنفاً يمثل الشق الأول من الافتراض في حال تم التوصل إلى اتفاق سلام مع قطاع الشمال وما يترتب على هذا الاتفاق من تداعيات حسبما حللنا. والشق الثاني من الافتراض هو إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق فما هو مصيرالمنطقة «جبال النوبة»؟ والذي لا شك فيه أنه إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام «مضمون العواقب» فإن منطقة جبال النوبة ربما تكون أسوأ بكثير من دارفور، وربما سمعنا عن معسكرات البرام وأم دورين وأم سردبة وكوراك وطروجي، ولات حين مندم، ولذلك يجب تسريع الخطى من أجل الخروج من هذه الأزمة بأقل التكاليف والخسائر، فإذا كنا نحن الآن في العام الثاني بعد الهجمة ونرى بأم أعيننا ما أصاب المنطقة من خراب، وما أصاب المواطن من تشريد وضياع، فماذا يكون الوضع إذا استمرت الحرب أكثر من هذا؟ وينبغي أن ندرك أن الحركة الشعبية قطاع الشمال لا تمتلك الإرادة الذاتية التي تؤهلها للجنوح للسلام، وإنما تقوم بدور مسرحي هزيل لصالح قوى إقليمية ودولية تسعى لإسقاط النظام القائم منذ بزوغ فجره الأول لأسباب سياسية وأيديولوجية معلومة، فلما استعصى عليهم الأمر لجأت إلى خيار التقسيم والتفتيت الداخلي، فكانت البداية بفصل الجنوب ليصبح القاعدة التي تنطلق منها الحركات المسلحة ضد السودان، ولذلك ضم إليه قطاع الشمال والجبهة الثورية وأخيراً ستنضم جبهة الفجرالجديد، فهذه كلها مؤشرات سالبة للوضع في جبال النوبة في حال عدم التوصل لسلام دائم يحفظ للإنسان عيشه وسلامته وكرامته الإنسانية، بعد المرارات التي ذاقها من جراء الحرب، ولذلك نتوقع أسوأ الاحتمالات في جبال النوبة مع استمرار الحرب، خاصة أن الحدود بين الجنوب وجبال النوبة حدود ممتدة ومفتوحة، وهذا يعني أيضاً إطالة أمد الحرب إذا لم يتم السلام، ولذلك كل الافتراضات المتوقعة في غير صالح المنطقة إلا في حالة واحدة، وهي إذا تغيرت عقلية المفاوضين من الطرفين ووضعت مصلحة المنطقة فوق المصالح السياسية، وهذا من الصعوبة بمكان في تقديري.