تونس بعد أكثر من عامين على انتفاضة 14يناير/ كانون الثاني 2011 والإطاحة بنظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، لم يجن التونسيون من ثورتهم سوى المزيد من الحرمان أسهمت في تأجيج الاحتقان الاجتماعي وسط تخوفات من انزلاق البلاد إلى "ثورة ثانية". ويعيش التونسيون اليوم وضعا اقتصاديا واجتماعيا صعبا، رغم أن الانتفاضة قامت ضد تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وازداد هذا الوضع تأزما وتعقدا، بعد أن تراجع الإنتاج في مختلف القطاعات الاقتصادية، وانتشرت مظاهر البؤس في غالبية جهات البلاد بما في ذلك تونس العاصمة، والتهبت الأسعار وتدهورت القدرة الشرائية للمواطن الأمر الذي بات ينذر بانفجار الوضع في أي لحظة. منذ حوالي شهرين، خفتت حدة الاحتجاجات الاجتماعية التي تطالب بتشغيل العاطلين وتوفير مقومات الحياة الكريمة التي تليق بالبشر في محافظات تونس الداخلية والغربية المحرومة كما في أحزمة الأحياء الشعبية، غير أن التونسيين يصفون هذا "الخفوت" ب"الهدوء الذي يسبق العاصفة"، في مؤشر على أنهم "مستعدون للقيام بثورة ثانية" تفتح أمامهم أملا تبخر في ظل حكومة لم تقدم لهم سوى وعود لا يثقون فيها. وإذا ما تحدثت إلى الفئات الأشد احتكاكا بالناس مثل التجار وسائقي سيارات الأجرة، تكتشف أن الجميع يرددون جملة واحدة كما لو أنهم اتفقوا عليها "وضع البلاد ما يطمنش (لا يطمئن).. ربي يستر" في تعبير تونسي يؤشر على تخوف من المستقبل ممزوج بالحذر والخوف. ويقول خبراء التنمية البشرية إن المطروح على تونس اليوم "اعتماد نموذج تنموي جديد" يخرج البلاد من أزمتها وينأى بها عن الاقتصاد المتوحش ليعتمد على "استراتيجية تنموية عملية وواضحة"، قادرة على تنشيط مؤسسات الإنتاج وفي مقدمتها المؤسسات الاقتصادية الصغرى والمتوسطة واستيعاب أكثر من 900 ألف عاطل عن العمل. ويضيف الخبراء أن "الاحتقان الاجتماعي الذي اشتد خلال العامين الماضيين نتيجة سياسية حكومية هشة وغير واضحة ستدفع لا فقط بالفئات التي قادت انتفاضة 14 يناير 2011 للانتفاض من جديد ضد حكومة علي لعريض، وإنما أيضا بالفئات الوسطى التي صبرت كثيرا على فشل الحكام الجدد في معالجة المشاغل الحياتية للتونسيين. ويبدو أن الطريقة التي تدير بها الحكومة الشأن العام لم تنجح في وقف النزيف الاقتصادي إذ توقفت أكثر من 700 مؤسسة اقتصادية عن الإنتاج لتلفظ أكثر من 3 آلاف شخص إلى عالم البطالة، كما أن "سياسة المعونات الاجتماعية" لم تؤد سوى إلى ظهور فئات متسولة. ولعله من الدلالة بمكان أن أصبح التسول ظاهرة منتشرة في المجتمع التونسي، إذ يقدر عدد المتسولين بأكثر من ألفين و750 متسولا من الأطفال والكهول والشيوخ والنساء. إزاء حالة الغرق في أزمة قد تهدد الاستقرار النسبي للمجتمع، أطلق الخبراء صيحة فزع من أجل إنقاذ البلاد. الخبير الاقتصادي بوجمعة الرميلي دعا الحكومة إلى "اعتماد نموذج اقتصادي تضامني وعادل تتقاسم فيه مختلف فئات المجتمع عائدات الخيرات بنفس الحظوظ ويولي الأولوية للجهات المحرومة والفئات الهشة ويقطع مع الاستبداد الاقتصادي والتهميش الاجتماعي". ويرى الرميلي أن "الثورة لم تنته كما يخيل لمن هم في السلطة، الثورة مسار طويل يستوجب استراتيجيات تنموية وسياسية عملية تستجيب لتطلعات التونسيين وتحقق مطالبهم في الشغل وفي التنمية وفي الحرية، وهذه الإستراتيجيات لا تعبر بالضرورة عن أجندات سياسيوية للحزب الحاكم". غير أن حكومة الإسلاميين التي تشكلت منذ فوزهم في انتخابات 23 تشرين الأول/أكتوبر 2011 اكتفت ب"ترقيع" السياسة التنموية التي انتهجتها حكومة الرئيس السابق بن علي وفشلت في تقديم "بديل تنموي وسياسي يرقى إلى مستوى أهداف ثورة بلد يقود الربيع العربي. وتقول حكومة العريض إنها تعمل على دفع الإنتاج والتخفيض في نسبة التداين من 50 بالمئة إلى حوالي 45 بالمئة من أجل تحسين المناخ المالي وتشجيع الاستثمارات والرفع من إحداث مواطن شغل. غير أن المحللين يؤكدون أن "عمليات الترقيع عاجزة عن تقديم الحلول الجذرية" في ظل ارتفاع نسبة الفقر إلى أكثر من 25 بالمئة وارتفاع نسبة البطالة إلى أكثر من 22 بالمئة ويطالبون الحكومة ب"نموج تنموي ناجع يجعل مشاغل التونسيين الاجتماعية في سلم أولوياته". وإذا لم تبادر الحكومة بوضع استراتيجية عملية وواضحة تكفل الضمانات الاقتصادية والمالية والاجتماعية لن تتمكن من تخفيض نسبة التضخم التي قفزت من 3 إلى6 بالمائة حسب تقديرات المعهد الوطني للإحصاء (مؤسسة حكومية) الشيء الذي دفع بها إلى الترفيع في أسعار المواد الأساسية والمحروقات ما زاد في تعميق أزمة تدهور القدرة الشرائية. ويقول الخبير في السياسات التنموية وأستاذ التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الجامعة التونسية وحيد كمون "خلال عامين من الحكم يشعر التونسيون، الفقراء والفئات الوسطى وحتى الطبقة الميسورة بأنهم يتقاسمون نفس التخوفات من إمكانية تحسن الوضع العام للبلاد"، مضيفا "إنه لأمر لافت أن يشعر الجميع بأن تونس تسير نحو المجهول في ظل الركود الاقتصادي والتهميش الاجتماعي والانفلات الأمني". ويرى المحلل السياسي كمال بن يونس أن أهداف الحكومة على تواضعها "قد لا تتحقق بسهولة بسبب مناخ اقتصادي واجتماعي وطني وإقليمي ودولي يتسم بالتأزم والكساد خاصة في أوروبا". وتستحوذ السوق الأوروبية، التي تبدو غير مجدية في ظل الأزمة التي تمر بها، على أكثر من 70 في المئة من مبادلات تونس الخارجية. من جهته يقول أستاذ العلوم الاقتصادية في الجامعة التونسية عبد المجيد البدوي إن "حبل الثقة بين مختلف فئات المجتمع والحكومة تقطع، فالفقراء ازدادوا فقرا، وعدد العاطلين ناهز المليون عاطل، والطبقة الوسطى تم تفقيرها وتدهورت قدرتها الشرائية، والطبقة الميسورة باتت تخشى على وضعها نتيجة الانهيار الكارثي لمؤسسات الإنتاج والتجارة". وخلال الأشهر الأخيرة، اضطر حوالي 3 آلاف رجل أعمال للهجرة إلى المغرب بحثا عن مناخ استثماري ملائم. ويضيف البدوي "إن الحكومة تعتمد على نويا استثمار دول الخليج وهو رهان غير مضمون كما تعتمد على دعم بلدان الاتحاد الأوروبي التي تخنقها أزمة حادة"، مشددا على ضرورة "وضع خطط تنموية اجتماعية تقوم على أساس تشخيص دقيق للواقع التونسي لا على أساس سياسة الاقتراض"... ويرى بن يونس أن "صورة تونس في الخارج تدهورت كثيرا بعد الثورة وخاصة بعد انتخابات 23 أكتوبر التي فازت فيها قائمات إسلامية بالأغلبية.. ثم تدهورت أكثر بسبب التقارير الصحفية الغربية التي أصبحت تخصص مساحات كبيرة لتزايد خطر دور السلفيين والمجموعات السلفية. ويشدد على أن "المناخ المشحون داخليا وخارجيا كانت له انعكاسات سلبية على الاستثمار الداخلي والخارجي، بينما يخشى بعض الخبراء من تمديد مرحلة الانتظار والحذر وتهريب أموال المستثمرين من البلاد إذا لم تصدر عن الحكومة رسائل تطمينات واضحة لأصحاب رؤوس الأموال". وتواجه الحكومة في هذا السياق، تحديات اقتصادية عملية منها عودة 500 شركة التي تشكو نوعا من التجميد إلى سالف نشاطها واستئناف حوالي 3 آلاف من الشركات المرتبطة بها اقتصاديا عملها. ويحاول محافظ البنك المركزي الشاذلي العياري، الذي تم تعيينه بتزكية من حركة النهضة الحاكمة خلفا لمصطفى كمال النابلي، التخفيف من أزمة الاقتصاد مشددا على أن "الوضع صعب لكنه ليس بالكارثي". ويقول المراقبون إن عجز الحكومة على تنشيط الاقتصاد الذي لا تتعدى نسبة نموه 2 بالمئة في أحسن الحالات، وفشلها في انتهاج سياسات اجتماعية تتعاطى بنجاعة مع المشكلات الحقيقية للتونسيين، كل ذلك يهدد لا فقط بعودة الاحتجاجات بل ب"انفجار الوضع" في شكل "ثورة ثانية".