٭ لقد عوَّل المفاوض الحكومي في اتفاقية نيفاشا على نقطتين أساسيتين:- الاولى اختيار الجنوبيين للوحدة والثانية اكتشاف البترول بالشمال خلال الفترة الانتقالية، فالنقطة الاولى بنى عليها كل حساباته واعتمد في تحقيقها على حسابات تفتقر للموضوعية والمنهجية إستناداً لتجارب سابقة في تعامله مع الجنوبيين، اعتقاداً بأن التركية الاثنية والطوبغرافية ستمكنه من إحداث بعض التوازنات، واللعب على المتناقضات المتعددة واستعمال سلاح المال والسلطة سيضمن له إختيار الجنوبيين للوحدة، إلا أن كل هذه الحسابات والتنظيرات اصطدمت بواقع لم يكن في الحساب والحسبان، فكل المؤشرات تشير لاختيار الجنوبيين للإنفصال حال إجراء الإستفتاء، فالعقلية التي يتعامل معها المفاوض الحكومي عرفت بالخبرة والتمرس والصبر والتحمل في سبيل تحقيق أهدافها، مرتكزة على واقع نضالي مرير وخبرات ونصائح تمدها بها الدوائر الغربية التي طالما بذلت لها النصائح والمواقف التكتيكية والتكنيكية التي أدت بها لكسب معظم المعارك التي خاضتها مع السلطة! ووفقاً لهذه الخلفية فقد تفاجأ المفاوض الشمالي بأن كل الطرق تؤدي للإنفصال، ونتيجة لذلك حاول تقديم بعض التنازلات التي أتت في توقيت جعلها تكون اقرب للرشوة منها لسياسة مؤسسة تجاه الحركة الشعبية التي لم تحفل بها ولم تعطها ما تستحق من وزن وتقييم، وإنما اعتبرتها واحدة من الالاعيب المتعددة التي طالما عانت منها خلال الفترة الانتقالية، فقد تفاجأت وعلى سبيل المثال بمنحها لوزارة الطاقة بكل سهولة ويسر، خلافاً للتشدد الذي صاحب مطالبتها بها عند التشكيل الوزاري الذي أعقب الاتفاقية فلم تنظر الحركة الشعبية لهذه العطية على أنها عطاء من يملك لمن يستحق وإنما لم تتجاوز نظرتها اليها حدود البرود والإعتقاد بأنها لا تعدو أن تكون وسيلة لاستمالتها للسير في الطريق الذي لا تريده (طريق الوحدة) بل أخذ قادتها يتساءلون عن هذا السخاء وتوقيته وعلاقته بالإستفتاء المرتقب، بل ذهب بعضهم الى أن المؤتمر الوطني لم يتفضل عليهم بوزارة النفط إلا بعد أن غار ونضب معينه، والموافقة على تولي الجنوبيين لهذه الوزارة الحساسة وفي هذا التوقيت وبالنظر للمواقف المصاحبة لرغبة الجنوبيين في توليها عند التشكيل الوزاري الاول يعطي إشارات سالبة ولا يفي بالغرض، وحسابات المؤتمر الوطني عند اتفاقية نيفاشا وتضمينها للدستور الانتقالي 5002م ترتكز على الوحدة، ووافقت الحركة الشعبية على رفع شعار الوحدة الجاذبة وهذا الشعار له دلالاته ومطلوباته، ولكن المؤتمر الوطني إن لم يكن قد نفر من هذه الوحدة فلم يقدم لها من الجاذبية ما يجعلها تبدو كذلك، ولن يشفع له الخطوات المتسارعة التي اتخذها مؤخراً، حيث تم تشكيل الرأى العام الجنوبي وتهيئته تجاه الإنفصال، وقد ساعد المؤتمر الوطني في تقوية وتدعيم هذا التوجه في الذهنية الجنوبية، عندما اوحى لبعض عضويته بتشكيل منبر ظل يجأر بالحقد والكراهية وينفث السموم ويعبيء الرجرجة والدهماء والعوام في اتجاه الإنفصال، دون بحوث عميقة أو رؤية فكرية وتحليلية أو دراسات استراتيجية توضيحاً لعواقب هذا الإنفصال الذي يمثل الكارثة الحقيقية التي تحدق بالوطن، فهذه المسألة تستحق أن تؤسس لها المعاهد الاكاديمية، وتوضع من أجلها الدراسات العلمية العميقة من اساتذة الجامعات والاكاديميين المشهود لهم بغزارة العلم وسعة الأفق، دون أن تترك لأناس لم يعرف عنهم ثاب علم أو عميق فهم أو دراية، وإنما تحركهم الأحداث وتسيطر عليهم الاحقاد الشخصية أو الإنفعالات الوقتية! وكانت النتيجة هذه التعبئة غير المسبوقة لشرائح العوام وانصاف المتعلمين. فلا يعقل ان تجد الدعوى بتقطيع أوصال الوطن وتمزيقه وصوملته وبلغنته كل هذا القبول! فلأول مرة في التاريخ يشهد قطر من الاقطار المتوحدة مثل هذا الطرح، اللهم إلا من الحركات الإنفصالية، وهذا المنبر وليد شرعي للسلطة الحاكمة وها هى الآن تدفع ثمن دعمها ومؤازرتها له، فمن يزرع الرياح يحصد العواصف، وقد جاء قرار تحجيم هذا المنبر متأخراً كثيراً ولن يؤدي لإزالة ما ترتب على الحمم والكراهية التي ظل ينفثها طوال الحقبة الماضية. النقطة الثانية التي ارتكز عليها المفاوض الشمالي عند توقيع نيفاشا والتي تمثل أسوأ الإحتمالات في حالة إختيار الجنوبيين للإنفصال هى استخراج بترول الشمال، وقد تفاجأ المراقبون والشعب السوداني بعدم اكتشاف حقول نفط جديدة يمكن الإعتماد على ما تنتجه من بترول عند إستئثار الجنوب بنفطه، فقد استيقظ المواطن البسيط على حقيقة مؤداها فشل الحكومة في استخراج البترول بالشمال، الامر الذي يعني العودة لذكريات أليمة ما زالت عالقة بالذاكرة، صفوف البنزين والمبيت عند محطات الوقود للحصول على جالونين منه، وصفوف الرغيف الممتدة والمعاناة الكبيرة في إستيفاء الأمور الحياتية، هذا المشهد يمكن ان يتكرر وبصورة أكبر بالنظر للزيادة التي طرأت على اعداد السكان وتمدد العاصمة وترهلها. والدعوات التي ظل يطلقها السيد مدير البنك المركزي من حين لآخر بوجوب تمليك المواطنين للحقائق، وتمكينهم من الإلمام بحقيقة الوضع الاقتصادي المتردي، والذي يتوقع له الأسوأ في حالة الإنفصال، هذه النداءات لن تؤدي لمعالجة الازمة أو الحد من آثارها فالموقف لا يدعو للتفاؤل والواقع الاقتصادي معقد يكتنفه الغموض، وفترة الرخاء القصيرة التي شهدتها البلد بعد استخراج البترول مهددة بالزوال. فقد كانت أخطاء المفاوض الشمالي قاتلة وقد كان افدحها قبوله بأيلولة بترول الجنوب للجنوب بمجرد الإنفصال، فكان عليه ان يشترط عدم ايلولة البترول للجنوب مباشرة، وأن يظل الوضع على ما هو عليه لمدة عشر سنوات أو خمس عشرة سنة على الاقل، واتفاقية فينا للمعاهدات الدولية 9691 تعطيه هذا الحق، بالنظر للهزة الكبيرة التي يحدثها التحويل الفجائي لموارد البترول للجنوب خاصة وأن جميع الاوضاع الاقتصادية للدولة قد تم ترتيبها وبرمجتها على موارد هذا البترول، وقد فشلت السلطة السياسية في الإستفادة من أموال البترول بتنمية القطاع الزراعي والحيواني وتنويع مصادر الدخل القومي، اعتمدت كلياً على البترول، والآن تشخص أمامها الحقيقة المرة بأن هذا البترول سيؤول لاصحابه بموجب اتفاقية دولية لا يمكنها الانسحاب منها أو تعديلها ناهيك عن إلغائها. وتدور المحادثات بين الشريكين لمناقشة ترتيبات ما بعد الإستفتاء، والصحيح هو مناقشة ترتيبات ما بعد الإنفصال، فالاستفتاء أما أن تترتب عليه الوحدة، وكل الشواهد تشير الى غير ذلك وبالتالي فهذه لا تحتاج لترتيبات، فاختيار الوحدة إنما يمثل تكريساً لواقع موجود أصلاً ولديه الأجهزة التي تسير دولاب العمل بالدولة ولا يحتاج لترتيبات معينة، وإنما الترتيبات يحتاجها الإنفصال في حالة حدوثه، وكل الدلائل تشير لأرجحية وليس إحتمالية اختياره، فالتركيز على الوحدة وفي هذه اللحظات الحرجة لن تؤدي لنتائج ملموسة، فالمنطق والعقل يقتضي بذل هذا الزمن الثمين والقصير في نفس الوقت بالتركيز على قيام دولة تحترم المعاهدات والمواثيق الدولية، وبناء علاقة جيدة تقوم على الإحترام المتبادل، ونزع كل الاسباب التي يمكن ان تؤدي لإشتعال العلاقة بين الدولتين، وبناء أسس قوية ومتينة لعلاقة جيدة راشدة تعتمد على الثقة والإحترام المتبادل واحترام خيارات الآخر، فالدولة الوليدة دولة تتمتع بالموارد البشرية، والثروة النفطية والموارد الطبيعية والدعم الغربي اللا محدود، والدخول معها في حروب ومناوشات سيكون ثمنه فادحاً ناهيك عن أن وجودها في الاصل يمثل جرحاً نازفاً لن يندمل أبداً. المرحلة القادمة تلزم المفاوض الشمالي بالتعامل بالحكمة والتعقل وقبول الأمر الواقع، بعيداً عن التعجل والجري وراء السراب، تحقيقاً لعلاقة موضوعية وهادئة مع الدولة الوليدة المرتقبة تقديماً لانموذج يمكن ان يؤدي لعودة طوعية لاحضان الدولة الام في يوم من الايام مثلما حدث في المانيا وليس كالذي حدث في اليمن! المفاوضات التي يقودها الشريكان، ترتيباً لمرحلة ما بعد الاستفتاء وفقاً لما هو معلن كان يجب ألا تقتصر على الشريكين ويجب توسعتها لتشمل كافة القوى السياسية لأهمية وخطورة المواضيع المطروحة والتي يتوقف عليها مستقبل البلد، ومثل هذه المواضيع يجب الا تترك للمباحثات الثنائية التي طالما أفرزت اوضاعاً مأساوية سيدفع الشعب السوداني ثمنها باهظاً. * محامي وكاتب وصحفي