الدور الكبير الذي يلعبه نادي القصة السوداني في التوثيق للحياة السودانية عبر شخصيات كانت لعبت دورا كبيراً في تشكيلة الحياة الثقافية والسياسية في السودان، لا يختلف عليه اثنان، وقد عمدت جريدة «الصحافة» عبر ملحقها الثقافي لرصد تلك الأمسيات بكاملها دعما لمسيرة التوثيق، ولم تقتصر على تلخيص تلك الاوراق الحياتية. بل نشرتها بكاملها لتستفيد منها الاجيال الحاضرة واللاحقة، وتقف على اهم ملامح الفترات التي شكلت ملامحنا الآن. وفي تلك المذكرات او الشهادات عبر ودروس ومواقف جديرة بأن تسجل، وتتواصل حلقات شاهد على العصر مع د. حيدر ابراهيم الذي وصفه مقدم الامسية الناقد مجذوب عيدروس، بأن له مساهمات متعددة، وكتبه معروفة، تناول فيها العديد من القضايا الثقافية والسياسية والفكرية، ومركز الدراسات السودانية واحد من اهم الانجازات التي عرفتها الساحة السودانية في العقدين الاخيرين، وبدأ بعد ذلك د. حيدر حديثه قائلا: شاهد على العصر هي قصة حياة خاصة وعامة، والتعامل مع التاريخ كما كتب في بعض النقاط يتطلب واحدا من ادوار ثلاثة، اما ان تكون شاهد عصر او بطلا او ضحية. وفي هذه الحالة اريد ان اكون بين بين لكل هذه، مشاهدا رأي الكثير، وكان محظوظا لأنني ولدت في فترة تشكل فيها تاريخ العالم كله، ولدت عام 1943م، وتلك الفترة كما كنت اسمع من والدتي واهلي ان اسمها سنة القنابل وسنة التمويت، في هذه السنة ضربت الخرطوم بالقنابل، وكان الأفندية يتغنون بذلك في جلساتهم الخاصة، ولدت في قلب الحرب التي انتهت عام 1945م، وفي ذات العام نشأت الاحزاب السودانية، وقد كان حزب الامة اول حزب نشأ، وعام 1948م كانت الجمعية التشريعية، وأهم من ذلك كانت نشأة الحركة العمالية في عطبرة، وعام 1946م شهد ميلاد الحزب الشيوعي في السودان، هذه كلها احداث شكلت العصر الذي نحن فيه الآن، وبالصدفة الجميلة شاهدت بطريقة او اخرى رغم طفولتي ولكنها كانت سنوات ناضجة، لأن والدي كان يعمل في الشرطة ونحن من القبيلة التي يطارد بعضها البعض الآخر.. وكنا نسكن في نقطة البوليس، هذه النقطة كانت عششا دمرت، ثم اطلقوا عليها نقطة العشش، وشهدت اضراب البوليس الشهير، ونقطة العشش، هي النقطة التي انطلق منها اضراب البوليس، لأن اكبر عدد من البوليس كان في عطبرة، وشهدت ايضا في هذه النقطة صداما بين الشرطة واول مجموعة بدأت تكوين اول نقابة، ورأيت سليمان موسى وكنت معجبا جدا بهذه الشخصية وقد ترسخت ملامحه في دواخلي منذ تلك الفترة المبكرة، وعندما جاء للعمل في النقل الميكانيكي مفتش عربات، وقتها كنت استاذا بمدرسة بحري الثانوية، فشكله الذي كان راسخا في ذهني منذ الاربعينيات لم يتغير هو ومن معه من الذين شكلوا الحركة العمالية، بالاضافة لسليمان موسى، محمد السيد سلام، الشفيع احمد الشفيع، وقاسم امين، كلهم كانوا يمثلون رموزا في مدينة عطبرة، بالصدفة شاهدت بروز حركة عمالية في السودان بهذه القوة نسبة لوجودي في عطبرة، فوجدت نفسي بصورة فطرية منحازا للعمال، ولم احتج لقراءة ماركس او بيان من الشوعية، فالعمال كانوا يمثلون لي وجدانيا شيئا معينا، فهم الناس الذين ينظمون الاضرابات ويهاجمون البوليس، والبوليس يتحدث عن اختفائهم وتوزيعهم للمنشورات، هذه الاشياء كانت تولد فيَّ العكس، ومن جانب آخر وهذه شهادة للعصر، فإن تلك الفترة شهدت مدا يساريا واضحا جدا، وحديثا عن مسألة اليسار، فشهدت لها اغاني البنات التي كانت مهتمة بالحرب الكورية: «الله لي كوريا يا شباب كوريا» لذلك المناخ العام كان يفرض اختيارات معينة، واهم من ذلك قشلاق البوليس كان يمثل «كمونة» قبل كمونة باريس، وكان فيه نوع من الحياة الجماعية، اذكر كنت عند عودتي من المدرسة ادخل اي منزل واطلب الغداء ولا أحد يسأل وقد استكين للراحة والنوم بعض الشئ، لذلك مبكرا انتزعت منا كلمة «حقي»، وهذه واحدة من انواع التربية غير المقصودة، وكلنا كنا مثل بعض لأنه ما في حق اصلا في ندرة، لذلك دائماً ما نجد الفقراء أكثر ميلاً للعيش الجماعي والتكافلي، كان ذلك في بداية الخمسينيات، وفي هذه الفترة دخلت المدرسة، وقد كانت بالنسبة لي تجربة ممتعة جدا، ففي تلك الفترة لم يكن لدي اخوة لذلك لم يكن لدي منافسون داخل الاسرة، لذلك بدأت اهتم بالقراءة، وقد كنت أقرأ كتب دار النشر لوالدتي التي مازالت تذكر العملاق وطائر الرهو ومشروع السدرة (لعبد الله الطيب). وعندما انتقلت للصف الرابع نقل والدي الى دنقلا العرضي، وقد صادف ذلك انقلاب 23 يوليو في مصر، ودنقلا وقتها كانت مقسمة الى مجموعة الدناقلة والفلاليح، وقد كانت للفلاليح ميول لمصر، ووقتها كانت تأتي الينا من مصر في مكتبة سيد احمد ابو عوف مجلة المصور والاثنين والدنيا، فاشترك لي والدي في هذه المكتبة بعد ان طلبت منه ذلك، وعندما قامت الثورة بدأت اهتم جدا بمحمد نجيب، وصرت اقرأ كل حرف يكتب عن محمد نجيب، وكان التجار في السوق يطلقون على اسم محمد نجيب لشدة اهتمامي باخباره التي كنت اقرأها مبكرة، وقد شجعني على ذلك عدم ميلي للعب. وفي عام 1954م دخلت المدرسة الوسطى في مروي وبدأت اقرأ الجرائد الأيام، الميدان، والصراحة التي كانت عنصرية كما كان يسميها عبد الله رجب.. ومن الاشياء التي رسخت في ذهني في تلك الفترة حوادث مارس 1954م، لأن والدي دخل وقتها كلية البوليس «السودنة»، ولسوء الحظ حضر احداث مارس في ام درمان، لذلك كنا متابعين لتلك الاحداث، وكانت الاذاعة ترسل موسيقى حزينة كان يعزفها محمد حامد العربي. وقد كان ذلك اليوم يوم فارقا، فأصبح لدينا موقف من حزب الأمة والأنصار، موقف غير ايجابي، زد على ذلك نحن شايقية الخليفة عبدالله اخذ ارضنا وسواقينا، ولما جاءت احداث مارس اصبح الموقف واضحا، واستمر هذا الموقف، واذكر عندما جئنا مدرسة ام درمان الاميرية وكانت بالقرب من دار حزب الامة كانوا يقولوا لنا (لا لا دي دار حزب الامة) وقد قلت للصادق المهدي ذلك عندما جمعتنا المعارضة في القاهرة قلت له يا سيد الصادق نحن الآن بصعوبة (بنجي) نجلس معك فما تقوموا (تبوظوا) الحكاية..! المهم نجح والدي في امتحان الكلية ورقي الى ضابط بوليس ونقل الى ام درمان في نهاية عام 1954م، وجئت الى ام درمان وهذه ايضا شهادة للتاريخ، فمع صعود الحركة الوطنية استلم الازهري السلطة ووقتها كنت في ام درمان الاميرية، وفي احد الايام نقل الينا خبر سقوط الازهري في البرلمان، فجئنا الى بيته باعداد كبيرة ونظمنا مظاهرة وهتافات فجة جدا واساءات للناس وكذا، واذكر الذين (سقطوا) الازهري كانوا ميرغني حمزة وخلف الله خالد واحمد جلي، فهذه الاصوات عندما ذهبت لمنافس ازهري كانت النتيجة «48 - 51» لذلك فقد رسخ في ذهني منذ تلك الفترة أننا نحن كنخبة بدأنا الفشل مبكرا، هذا فشل للنخبة، رجل يفوز في الانتخابات وقبل أن يتم ستة شهور يسقط بنوع من التآمر.. وقد رجع بعد يومين من المظاهرات. وفي عام 1955م حدث التمرد في توريت، والشئ الآخر كان يوم الجلاء، واذكر ان العساكر الانجليز كانوا في حوش الخليفة، الفرقة الغربية وعساكر ابو ريشة ، فرأيت الجلاء تماما، وتابعنا بعض الأشياء لاكمال الجلاء، وقد رحلوا تحت هتاف الناس يسقط الاستعمار. ولا انسى أن مدير السجون قذف كسكتته بالشباك على الناس. وفي تلك الفترة كان التمرد قد خلق جوا حزينا جدا بالذات وسط الشباب، ووثقت لذلك اغاني البنات ايضا: في الجنوب ماتوا شباب بالكوكاب والسودانيون عندهم نوع من التسييس ظل معهم حتى الآن، وهو الذي «غطس حجرهم»، فأي واحد عامل خبير استراتيجي وسياسي، ولحسن الحظ حضرنا الاستقلال، ومن الاحداث التي لا تنسى ان انتحر احد القضاة واسمه أحمد الشيخ البشير اثناء الاحتفال على النيل، لأنه لم يصدق أن يأخذ السودان استقلاله من مصر، فكان ذلك حدثا حزينا. وفي عام 1958م ذهبت القضارف وكنت محظوظا في القضارف، حيث درست على يد الاستاذ محمد زين عطية، وقد كان أستاذا للغة العربية، والرشيد ابو بديري وقد كان شيوعياً ملتزماً، والاستاذ عثمان رجب. واذكر انه في تلك الفترة حدث العدوان الثلاثي على مصر، فنظم الموظفون والأساتذة مظاهرة، وقد دعوني لها فوصل هذا الخبر الى البوليس الذي استعد لتفرقة المظاهرة بالمطافئ، فذهبت للمنظمين بالمظاهرة ونقلت لهم ما خطط لهم البوليس لأن والدي كان «بوليس»، وهذا يعني انني على صلة به، وهذا يعني انني كنت طابورا خامسا لهم، وفعلا سرت في تلك المظاهرة وكانت تتكون من 13 نفرا، والدي صعق عندما رآني وسط المظاهرة، فكان عقابي اضافة لرشة (موية) المطافئ جلدة في البيت، ووفق ذلك كون والدي عني فكرة غريبة، ومحمد زين قال له ولدك شيوعي، فبدأ يفكر في الكيفية التي يبعدني بها عنها .. ففكر في ادخالي للبوليس، ولكني كنت سعيداً لأني قصير ولا يمكن قبولي فيه، المهم جلست لامتحان الشهادة، واذكر ان مدير المدرسة كان عبد القادر المرضي وهو من ابناء الابيض، وكان جمهوريا لطيفا جدا نقل من مدرستنا واتى بعده عبد الخالق حمدتو وكان وقتها أستاذاً في أم درمان وهو غاضب مثل الام درمانيين كلهم، بنقله الى القضارف، فجاء في اول اجتماع نظمته المدرسة وبعد الترحيب به قام وخاطب الطلبة قائلا: ولم يبدأنا بالسلام فقال: «يا أولاد القضارف يا «..... » أنا أخباركم عندي في أم درمان وجابوني افلفلكم بتعرفوا الرز بفلفلوا كيف...؟!» فقلنا: «الحلبي ده شنو الجابوه لينا» وبدأنا من تلك اللحظة نتحدى فيه، وفي ذات يوم ذهبنا السينما وإذا به وقف استاذاً في جانب خفي قرب باب السينما ليسجل اسماء الطلبة الذين يدخلون السينما، وفي صباح اليوم الثاني جلدنا في الطابور بالملابس الداخلية.