لماذا لا يتسع ( ماعون البطولة الوطنية ) لدينا ليشمل اولئك الاكاديميين المبدعين امثال المهندس حامد الخواض ؟ فالرجل كما قلنا بالامس كان مهموماً ب ( عمارة الفقراء ) .. وأنفق جل ذاك الهم في شأن المدارس والمؤسسات التعليمية التي بناها في السودان والصومال واليمن وموريتانيا وغيرها ، وبتكلفة زهيدة مستخدماً مكونات بسيطة ورخيصة من البيئة ، وفي هذا الشأن كتب المهندس عوض الكريم محمد احمد يقول ( اتاح مشروع الرهد الزراعي الممول من البنك الدولي في بداية السبعينيات من القرن الماضي فرصة ذهبية للخواض ليقود مهندسى وزارة الاشغال العامة في تخطيط وتصميم عاصمة وقرى المشروع بما فيها من مباني عامة ادارية وتعليمية وصحية وسكنية حيث تمكن من توفير 40% من تكلفة تنفيذها ) . اما في شأن حامد الخواض الانسان وملابسات اغتياله .. كتب الاديب الراحل الطيب صالح يقول : تركت حامد الخواض رحمه الله حياً ممتلئاً حياة ، ضاحكاً ابداً كعادته . كنت امر عليه في مكتبه الصباح ، واشرب معه قهوة ( الكاسنجر ) وهي قهوة تركية يضاف اليها اللبن المغلي ، اول مرة قدمها لي قلت له انها تذكرني بالقهوة التي كنا نشربها في محطة الكاسنجر ، ونحن في طريقنا بالقطار من الخرطوم الى كريمة . فاطلق حامد الاسم عليها ، واصبح كل الموظفين يطلبون من ( عم شعبان ) صاحب البوفيه قهوة ( الكاسنجر ) . ( ابو طارق ) القاتل كان يزورني كثيراً في مكتبي يقبل مني سيجارة . وأحيانا يشرب معي الشاي بالنعناع وكان يذهب من عندي ضاحكاً في اغلب الاحيان ، اب لثمانية اطفال ، ويسكن في مخيم من مخيمات اللاجئين . كنت اعلم مما يقص علي أنه يعاني من اضطرابات نفسية . وكآبة تنتابه دون سبب واضح . الا انني لم اتصور انه سوف يكون قاتلا . سوف يقتل ، دون سائر الناس ، حامد الخواض ، الذي اكرمه وعامله بلطف لعله لم يجده في اي انسان صادفه في حياته . وعجيب ايضاً أن يحدث هذا في مكتب اليونسكو في عمان . لا نقل أن الموت يضفي على بعض الناس هالة لم تكن لهم في الحقيقة . ابداً كان حامد الخواض انساناً نبيلاً نادر المثال بحق . كان عذباً مثل ماء السلسبيل فيه تواضع اهل السودان ، ودماثة طبعهم وسماحتهم وزهدهم حين يكونون في احسن حالاتهم . من آل الخواض الكرام ، من كبوشية في ديار الجعليين . كان محباً للناس ، ليس في قلبه ذرة من الحقد . كان مهندساً معمارياً وكان مشغولاً ببناء مدارس قليلة التكلفة من مواد محلية بسيطة . يظل الى الخامسة والسادسة دون طعام ويعمل ايام العطل.. يعمل في صمت وفي زهد . كان ( أبو طارق ) القاتل يعمل سائقاً مؤقتاً وكان يمرض ويتغيب كثيراً عن العمل . وفي كل مناسبة يجمعون له التبرعات . اذا ولد له طفل . اذا مات له قريب . اذا احتاج للعلاج ، وقد رفضت ادارة المنظمة في باريس أن تضمه الى الخدمة المستديمة ، فبذل حامد رحمه الله جهداً عظيماً بل ذهب الى باريس وأقنع الادارة أن يثبتوه ويمنحوه عدة علاوات استثنائية دفعة واحدة . كيف اذاً تحول الحب الى الحقد . والسرور الى حزن .. وحفل الغداء الى مأتم . أطلق عليه اربع رصاصات في الجنب .. رصاصة نظير كل حقد من الاحقاد المبهمة التي أثقلت كاهله لماذا ؟ ومن المسؤول ؟ ومن أعزي في حامد الخواض ؟ هل أعزي اسرته وعشيرته الاقربين ؟ هل أعزي السودان الذي أحبه حامد وأسرف في حبه ؟ هل أعزي منظمة اليونكسو التي لن تجد احداً مثله ؟ هل أعزي ( أبو طارق ) البائس .. القاتل المقتول .. الظالم المظلوم ؟ لعله إذا افاق من الكابوس المرعب الذي يعيش فيه .. لعله يدرك أنه قتل ( أباه ) وخسر سنده بعد الله .