يا لها من أيام.. أيام الشباب بكل ما فيه من اندفاع أرعن وصخب وطني بديع.. أيام التهور الطلابي والجدل السياسي بكل حدته، وبكل ما فينا من بأس وعافية. كان الواحد فينا في تلك الأيام يظن أنه وحده يملك كل حقائق الأشياء، ويمسك بمصابيح الحق الأبلج، والآخرون في نظرنا عماة يضربون بعصيهم في عتمة ماحقة..!! كبرنا ونضجت أحلامنا لندرك أن الدنيا يجب أن تؤخذ باستحياء، وأن بعض الأشياء ما عادت بعض الأشياء. في الأسطر التالية نتصفح بعض أيام شبابنا بكل ما فيها من صخب سياسي وتهور بديع. مطلع السبعينيات كانت العلاقة فاترة بين نظام مايو بقيادة جعفر نميري وسلطة البعث الحاكمة في بغداد بقيادة أحمد حسن البكر وصدام حسين. ويعود هذا الفتور إلى تداعيات انقلاب المرحوم هاشم العطا، فقد اتهم النميري البعثيين بمساندة الشيوعيين في ذلك الانقلاب. مستدلاً في دمغهم بهذا الاتهام بسقوط الطائرة العراقية الخاصة القادمة من بغداد إلى الخرطوم لمؤازرة الانقلابيين على تلال المملكة العربية السعودية. واستشهد في تلك الطائرة المرحوم محمد سليمان الخليفة حفيد الخليفة عبد الله خليفة الإمام المهدي وعضو القيادة القومية لحزب البعث، وهو واحد من تلاميذ وحواري ميشيل عفلق مؤسس الحزب ومفكره الأول. وظل هذا الفتور مخيماً على العلاقة بين بغداد والخرطوم حتى عام 1975م، حينما قرر النميري كسر هذا الفتور بزيارة العراق منتصف ذاك العام. وكان وقتها عددنا نحن الطلاب الدارسون بجامعات العراق يربو على المائة طالب، يتناثرون بين مختلف جامعاته ومدنه. وكنا يومها في زهو الشباب ورعونة التهور الذي لا يأبه بأية عواقب، تتجاذبنا شتى الإنتماءات السياسية، ولكننا نتفق جميعاً على مخاصمة نظام مايو. وعقدنا اجتماعاً عاجلاً قرر فيه بعض منا أن نستغل زيارة نميري بعملٍ مدوٍ يفضح نظام مايو وتكبيله للحريات وتغييبه للديمقراطية، فكان أن قررنا احتلال السفارة السودانية ببغداد واحتجاز السفير وطاقم السفارة، وعدم تمكينهم من استقبال النميري. وكان عددنا في حدود الخمسين، إذ تخلف زملاؤنا من الطلاب البعثيين اتقاءً للحرج الذي سيوقعون فيه الحكومة العراقية بمشاركتهم. وتوجهنا منذ الصباح الباكر إلى السفارة، إذ كان موعد وصول طائرة النميري المعلن هو الحادية عشرة قبل الظهر. وكانت السفارة السودانية تقع في حي المسبح وهو واحد من أرقى أحياء بغداد، ولم نجد صعوبة في دخول السفارة. إذ كان الجندي العراقي المكلف بحراستها يغط على كرسيه في نوم عميق..!! ولعل السفير على ما أذكر كان السيد/ عباس موسى، والقائم بالأعمال الأخ الصديق الأستاذ/ محمد عبد الكريم. وجمعنا طاقم السفارة بقيادة السفير في غرفة واحدة، وتلونا عليهم بياناً فيه من السياسة شيء ومن الكلمات الرنانة الكثير، وكان في مجمله يندد بدكتاتورية النظام وغياب الديمقراطية. وأغلقنا باب مكتب السفير بالمفتاح عليه وعلى من معه، وشرعنا نستخدم تلفون السفارة في الاتصال بهيئة الإذاعة البريطانية عبر مكتبها في بغداد، وكذلك وكالة الأنباء الفرنسية، وسرعان ما تناقل النبأ عبر الأثير من معظم الإذاعات العالمية مع مقتطفات من البيان الذي تلوناه عليهم بالتلفون «للأسف لم تكن يومها هناك فضائيات»..!! وقد تقبل طاقم السفارة بما فيهم السفير فعلتنا هذه باتزان غالبه التوتر أو بتوتر يتدثر بالإتزان. «غداً نواصل»