عند أى حديث عن فكرة المسرح، أو تعريفه، دائما استدعى كلمات «وليام شكسبير» وهو يستنطق «هاملت» فى كلمته التى ألقاها أمام الممثلين وهو يفصح عن حاجتنا الدائمة إلى تقليد الحياة البشرية والسلوك الإنسانى على خشبة المسرح قائلا: «كان الغرض من التمثيل فى الماضى ولا يزال غرضه فى الحاضر، أن يجلو المرآة للواقع، فيظهر الفضيلة على ملامحها، ويطلع الحقارة على صورتها، ويجلو لأهل العصر عمرهم وجرمهم، وظاهرهم وباطنهم»... وما يشير إليه شكسبير هو أن المسرح فى مجمله يعنى تمثيل تجربتنا الحياتية، لاستنباط المفاهيم والدلالات القيمية لسلوكنا، ومن ثم توصيل تلك المعارف إلى آخرين، عن طريق التجربة المستعادة حركيا، أى أن يفعل الإنسان ويتأمل فعله «وهى مفارقة وجود الإنسان داخل التجربة وخارجها فى آن واحد». المسرح يصنع تأريخ الإنسانية، وهو الفن الأكثر حضورا والتصاقا بالتأريخ والفلسفة، وحقيقته تتجاوز مناهج البحث العلمى وتنتمى الى العلوم الإنسانية، أو إلى ما يسميه بعض النقاد «علوم الروح». فعندما نتحدث عن المسرح، نتحدث عن عملية عرض للحياة الإنسانية المشتركة، والعلاقات المترابطة بين الفرد والمجتمع من جهة، وبين الفرد والواقع الموضوعى من جهة أخرى. والعرض المسرحى هو صورة الوجود الإنسانى الذي يتم به خلق التضامن حول الهموم والقلق المشترك بين الناس من خلال تجسيد توازن الفرد مع المجتمع، ارتكازا على القيم التى تعبر عما هو اجتماعى. وتكمن خطورة المسرح فى وظيفته التعليمية فى رأى العديد من الفلاسفة، وكان ذلك هو السبب الحقيقى وراء الجدل الدينى والأخلاقى الذى أثير ومازال يثار حوله، وإن دل هذا الجدل على شيء إنما يدل على الاعتراف ضمنا بفاعلية المسرح وقوة تأثيره، حيث نجد أن أكثر المذاهب والمعتقدات، تلك التى حرمته عادت واستثمرته واستغلته أعلى استغلال.. وابتدعت نظريات فى الفن المسرحى تؤكد فاعليته الجوهرية فى تطهير النفوس وإصلاح الأخلاق، وقدرته على تزويدنا بالحقائق العليا والمبادئ الأخلاقية الراسخة. ومعلوم أنه فى العصور الوسطى اعتمد رجال الكنيسة فى أوروبا على مسرحيات الأسرار والأخلاق وسيلةً لإدماج رسالة الكتاب المقدس فى الممارسات والمتع المسرحية. ولذات السبب احتل النشاط المسرحى المدرسى مكانا رئيسا فى مناهج التعليم فى عصر النهضة الأوروبى. والدارس المتأمل لتأريخ المسرح منذ نشأته، يجد أنه وفى سنوات تشَكله مرَّ بثلاث فترات عظيمة، أولها هى الفترة التى تسمى عند بعض الأكاديميين «عصر الحضور الدينى المتسامى» وعندها كان التمثيل الدرامى فيها ليس سوى عرض ثانوى فى الطقوس الدينية التى ولد منها المسرح اليونانى. أما الفترة الثانية، فهى التى تعد جزءا من ميراثنا الثقافى المعاصر، عصر «مسرح العرض الدائم» أو فترة «الجلال الخلقى» عند الناقد الألمانى «هانز جيورج جادامر» فى مقالته «الطابع الاحتفالى للمسرح» وما يميز هذه الفترة عن الأولى، هو ذلك التوتر الذى يستشعره الجمهور المتلقى بين الصور السائدة للحياة الواقعية والحدث المسرحى الذى يعرض على خشبة المسرح. وعن هذا عبر «شيلر» أحد الذين تمثلت فيهم روح هذه الفترة، فقال إن مهمة المسرحية هى أن توسع رؤيتنا للعالم، وأن تجعل تدبير العناية الإلهية بالأشياء جليا على نحو كلى، وبمعنى آخر أن المسرح يجعلنا نرى بوضوح الانسجام الأخلاقى للحياة الذى لم يعد من الممكن رؤيته فى الحياة ذاتها. وهنا يكمن الجلال الخلقي، حيث أننا جميعاً نعرف أن الأحداث الرائعة التى تقدم على خشبة المسرح تظهر لنا الحياة على النحو الذى ينبغى أن تكون عليه الحياة حقا. وكما هو معروف فإن «شيلر» قد نظر إلى المسرح بوصفه مؤسسة أخلاقية. أما الفترة الثالثة من تأريخ المسرح، فهي ما يعبر عنه حاضرنا الذى ينبئ بالتطور والقوة الحقيقية للمسرح والذى يكاد فى فعله أن يردنا الى المنابع الدينية القديمة.. وذلك من خلال احتفاليته بالحياة وأسرارها استنادا على التكنلوجيا وبإمكاناتها الفنية المكثفة التى تستحضرها أمامنا بكثافة لم تشاهد أبدا من قبل. فلم يعد المسرح مجرد خدع سيكولوجية، أو رمزا مبينا، أو قولا ناطقا فحسب، بقدرما هو الآن وفى أوضح تجليات الجمال عنده هو التجلى الروحى الذى يقدمه. كما أنه يستشف الجمهور باعتباره ظاهرة اجتماعية ثقافية، ومن ثم يقوم باستحواذه.. وهذا المعنى يتجلى حتى فى أشكال الدراما الأولى عند الأغريق، إذ أن المسرح عندهم لم يكن منفصلا عن مجموع البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وتتضح لنا الأهمية الاجتماعية للمسرح آنذاك من سعة قاعة المشاهدة، فمن بين «14000» شخص كانوا يحضرون احتفالات المدينة الدينية، كان جمهور المسرح يمثل الأغلبية. وفى السودان كذلك، نجد أن المسرح الحديث وبتقاليده الغربية قد ولد استجابة لشرط تأريخى دقيق الحساسية وعميق المغزى، فى حركته وانسجامه مع المقاومة الوطنية ضد المستعمرين الإنجليز. ومرتبطا بالقضايا الكلية للبلاد وقتذاك ... وما تلاها من قضايا بعد جلاء الإنجليز عن السودان. والمعروف أنه أبان الحكم العسكرى الأول «حكم الرئيس عبود» قد تم تشييد مبنى المسرح القومى السودانى «فى نوفمبر 1958م، وتم افتتاحه فى نوفمبر1959م» وهنا برزت الى الوجود المؤسسة الرسمية القادرة على المواجهة والصمود بالمسرح المستجيب لمتطلبات الجمهور بتركيبته الاجتماعية وشخصيته الثقافية. إلا أن المسرح القومى السودانى وبعد كل ذلك العمر من المجالدة والإسهام الكبير لا سيما فى فترة السبعينيات «العصر الذهبى للمسرح السودانى»، يجد المراقب أنه الآن قد تردى فى مظهره وجوهره، مما أفقده خاصيته وميزته، بسبب الأولويات والأوضاع الاقتصادية التى جعلته لا على هامش الحياة السودانية فحسب، بل على هامش دائرة الفعل الثقافى نفسه، وتهالك المسرح القومى «المبنى» وفقد شروطه ومقاييسه الفنية المسرحية، مما جعله لا يتوافق أصلا مع شروط مسرح عصر الحداثة. وظللنا ننادى بضرورة انتباه الدولة لهذه المؤسسة الثقافية، التى ندرك دورها الفاعل فى إحداث التغيير الاجتماعى وأهميته القصوى للإسهام فى إنجاح الجهود الرامية الى تحقيق التنمية الشاملة، ونقصد بها التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وظلت كتاباتنا ومنذ سنوات، ومازالت، تحمل فى مركز خطاباتها الجوهرية أن فى المسرح قولا وأى قول، سيما فى وطن مثل وطننا، لا يزال كل أمر من الأمور فيه، هو مشروع تخلق لم يكتمل بعد. حدثنا وشرحنا، حتى بلغنا مراحل التأتأة واللجلجة، والتعثر فى الكلام، والحياء والسؤال فى القول، ورغم ذلك لم نيأس فى الرجاء والطلب، حتى رشح الى مسامعنا هذه الأيام ومن داخل أروقة وزارة الثقافة نبأ مفاده بأن الرئيس عمر البشير قد أصدر حزمة من التوجيهات فى جملتها تعمل على دفع الثقافة والفنون الى مراحل متقدمة جدا فى السودان، والتى تتمثل أولا فى توجيه خاص الى وزارة المالية بمنح وزارة الثقافة الأولوية فى التمويل ودفع الميزانية، كما أشار التوجيه الرئاسى الى أهمية العمل لبناء مبنى وزارة الثقافة بصورة تشرفها، ولعل أخطر تلك التوجيهات التى رشحت الى مسامع الوسط المسرحى، هو مقالة رئيس الجمهورية التى وجهت جهات الاختصاص بالنظر إلى إمكانية تحويل سجن أم درمان الى مكان آخر لبناء مسرح قومى متكامل فى قوامه الفنى فى مكان سجن أم درمان بعد أن تتم أزالته وترحيله. وهذا لعمرى أعنف توجيه رئاسى فى تقديرى يحدث فى السودان، هذا التوجيه عندى قد لامس سقوف الحقيقة، والحقيقة فى كل وجوهها لا يمكن أن تكون إلا قوية وعنيفة ومرعبة ومخلخلة ومدمرة، كما قال بذلك الكاتب المسرحى المغربى عبد الكريم برشيد، إن الحقيقة هى التى فقأت عينى أوديب، وقتلت جوكاستا، وما مسرحية أوديب ملكا لسوفوكليس إلا محاولة مجنونة للبحث عن هذه الحقيقة العنيفة والمدمرة. إن الرئيس عمر البشير بتوجيهه الخاص بالنظر إلى إمكانية بناء المسرح القومى الجديد فى مكان سجن أم درمان، هو تأسيس لفكرة جديدة فى منهج الدولة الكلى، ومن طبيعة الأفكار الجديدة دائما أنها تدمر القناعات القديمة، وتتحدى الواقع، والطبيعة، وتعيد تركيب الأشياء السائدة بشكل آخر. إن بقراءتنا لما وراء هذا التوجيه، يمكن أن نستجلى بأن هناك موقفا جديدا بدأ يتشكل داخل مؤسسة الحكم، هو بالأساس موقف يعمل للبحث عن أدوات جديدة وآليات أخرى لإحداث التغيير المطلوب على جميع المستويات «الاجتماعى والسياسى والمعرفى والجمالى والأخلاقى». إن توصيات الرئيس عمر البشير الدافعة لحركة الإبداع الثقافى فى السودان بهذا العنفوان تستوجب منا الوقوف عندها بقدر كبير من الصدق.. فإن قال الشاعر الإنجليزى «ت. س. إليوت» قديما فى مقالته عن « دانتى»: «إن اتساع الموضوع فى ذاته قمين بأن يمكن المرء من قول شيء يستحق أن يقال» فإننى أقول مقتبسا الجملة بتصرف.. إن قيمة توصية الرئيس فى ذاتها قمينة بأن تمكن المرء من قول شيء يستحق أن يقال .. وما أقوله، ليس انحيازا أيديولوجيا لأطروحة سياسية، بقدرما أننى وجدت فى هذا النبأ تجلياً من تجليات الجمال له مشاهدات ما ورائية فى زمن اختلطت فيه الأوراق بشكل فظيع، وتماهت فى أغلب الأحيان أسئلة النقد الثقافى مع خطوط الأيديولوجيا. وبوصف أكثر دقة، ما يعنينى هو حالة المسرحيين أنفسهم الآن، إذ تأتى هذه الأنباء المزلزلة والمفجرة للتفاؤل، وللأسف الشديد أغلبهم خارج دائرة الفعل الموضوعى إلا من رحم ربى، فقد أخذتهم لجج بحور الذات فغرقوا فيها وغاصوا، غير مبالين بمصالح البلاد العليا، ولا لفكرة المسرح ومهنيته، ويتزايد الحضور العدوانى على بعضهم البعض، ورفض الآخر بحدة لا نجد لها نظيرا فى ثقافتنا السودانية المتسامحة، هدامين لكل جميل، فما من مؤشر لخير البلاد والعباد، إلا وهرولوا إلى داخل ذواتهم ونرجسيتهم.. فالأسئلة عندهم هى ذات الأسئلة «من زمن حفروا البحر» والاتهامات نفسها، ما من قضية إلا ودخلوا إليها من أبواب النفس الأمارة بالسوء على حساب ما هو موضوعى وفكرى وجمالى... وهذا لعمرى مفارقة يصعب قبولها. إن المسرح كما نعرفه، هو قضايا الناس وأسئلتهم، هو نبض قلوبهم وتفكيرهم ولغتهم.. المسرح هو هذا الوطن وأحلامه وتطلعاته، أن يكون وكيف يكون، ارتباط عضوى به، وعلاقة حية ومتحركة به... إن منظورات المثقف التقليدى، الآحادى الرؤى «ما أريكم إلا ما أرى» ما عادت مجدية فى حركة الثقافة والفنون الوطنية والنهضوية. إن المهم، إذن، هو نقفز فوق ذواتنا، متجاوزين حدودها، بأن نعود الى المسرح ووظيفته الحقيقية فى سلوكه وإبداعه، أن نعيش الوقائع كما هى، دون تحريف أو انحراف عن مهمة المسرح وفكرته الأساسية. تعالوا نوجد المسرح نفسه فى المقام الأول، بحيويته وشفافيته، فى مبناه وفى معناه. وتعالوا جميعا نقرأ، وبقدر من المسؤولية، هذا الخبر: «رئيس الجمهورية يوجه بالنظر الى إمكانية بناء المسرح القومى فى مكان السجن» تصوروا أو تخيلوا لو مثل هذا الخبر صدر في أى بلد غير السودان.. ولكن «عين السخط تبدى المساويا». وجملة قولي هنا، إن وراء هذه المقالة الرئاسية شيء من الصور المتسامية، جاءت تتوج حاضرنا، والمطلوب من المسرحيين فقط قدر من السلوك المسؤول تجاه البلاد والناس، وذلك بالتعزيز المعنوى أقله لجهات الاختصاص بالنظر الشفيف لهذه التوجيهات التى تعنى على ما أظن وزارة المالية، وزارة الداخلية، وزارة الثقافة والجهات المعنية بالأراضى «والله أعلم» حتى تحيل هذا التوجيه المجرد الى واقع محسوس. وضعت مقالتى هذه، منطلقا من إحساسى الخاص، بأنه ومن خلال واقعنا الثقافى العام، ومشهدنا المسرحى الخاص القاتم الرؤية، فى وقت أرى فيه أن الدولة قد فتحت أبوابا للأمل، فقد أصبح لزاما علينا أن نسهم بصدق ملتفين ومساندين لكل ما من شأنه يعمل على دفع مصالح البلاد العليا، والتى أرى أن المسرحيين ركيزة أساسية فى ذلك، إذا استطاعوا الاتفاق على الحد الأدنى.. وإلا فإن فاقد الشيء لا يعطيه .