قبل فترة وجيزة هاتفني أحد قادة حركة العدل والمساواة من تلفون ثريا مفيداً إياي أنه استمع الى مداخلة «موضوعية» لي في الإذاعة السودانية بشأن الاستراتيجية الجديدة لدارفور، وكان تعليقه جاء في صورة سؤال: هل إتسع هامش الحرية عندكم الى حد ان تقولوا ما تعتقدون أنه الصواب؟ ذلك سؤال أعاد الى ذاكرتي حجم المعاناة التي تعرض ويتعرض لها صناع الرأي من الصحفيين والكتاب والمبدعين والناشطين في حقوق الانسان، والمبادرين في صنع فرص المناصرة تحت ماكينة الاجراءات الاستثنائية غير العادلة، ولكنه في ذات الوقت أعطاني الشعور بالاطمئنان ان كلماتنا الموشحة بالحميمية وتجاوز الذات يمكن ان تسمع لدى أطراف النزاع. على ذلك فان أميز ما في رمضان اليوم ان نكرر مناشداتنا ممزوجة بدعوات المجتمع المدني ان تلبي الأطراف الدعوة الى مائدة التفاوض بنية حسنة من أجل مستقبل يبنى بالتراضي ويثبت فيه حقوق المواطنة وانهاء حالات الاستنثاء والاستعلاء. مع التهنئة للقراء بالعيد المبارك أهنئ بوجه الخصوص المستثمرين في صنع الرأي المستنير وأضيف ببعض مداخلات. (2) أثار الزميل حيدر المكاشفي موضوعاً مثيرا للجدل بعنوان (الطرد على الهوية) بالصفحة الاخيرة بصحيفة الصحافة (السبت 82 أغسطس). لقد أحسن صنعاً باشارته الى الهوية وتنبيهه الشفيف الى ضرورة معالجات انتقالية تضمن تواصل الشعب السوداني بشقيه في الجنوب والشمال في ود حتى ولو حدث الانفصال الذي بات متوقعاً. كان الايحاء قوياً في المقال وداعياً للتأمل في بناء قاعدة بديلة هي (الابقاء بالهوية). ان السودان بتاريخه الطويل (بلد تنوع)، بنيت المواطنة فيه بمن نبتت فيها من اعراق وبمن هاجر اليه برغبة الانتماء، لذا اشتهر السودان ايضا انه (دار الهدنة). انها أرض تأوي المستضعفين، والمغضوب عليهم، والمغامرين، والطموحين، وعلى ذلك فان صيغة الطرد لم تكن تاريخياً جزءا من قانون المواطنة السودانية. ان القانون السائد للانتماء في بلادنا هو القبول بالآخر واحترام ثقافات الطارئين والاعتراف لمن سبق بالفضل. على تلك القاعدة اذا ما اشهر سيف الطرد فان الطرد قد لا يبدأ بالجنوبيين وهم يمثلون اميز ركائز الهوية السودانية. في هذه الحالة الراهنة علينا تدبر الانتقال من الهواجس والشكوك الى بناء جسور التواصل ومن بقي من المجموعات الجنوبية في الشمال فذلك لأنه وطنهم وانتماؤهم التاريخي، كما ان الشماليين الذين يختارون الجنوب فذلك لانه وطنهم وانتماؤهم، كما هو الحال مع الأمين عكاشة وآل حجار ومن استثمروا حياتهم للجنوب، هذا فضلا عن ان القبائل البينية قد بدأوا مبكرا الحوار مع السلطات الجنوبية، وذلك ما علينا تشجيعه من خلال الحوار التلقائي بين الناس (People to People Dialogue). (3) في مقال آخر بالصحافة الأول من سبتمبر الجاري عرض د.فضل الله أحمد عبد الله لتداعيات قرار المحكمة الجنائية بخلفية قراءة تاريخ وثقافة منطقة دار مساليت غربي السودان تحت عنوان (أوكامبو والرقص الدرامي على ايقاعات نظارة المساليت). بالحق سعدت كثيرا بقدرة المقال على انصاف شعب المساليت، وتأكيد بطولاتهم وانتماءهم طوعا واختيارا للسودان، وهو انتماء زاد البلاد ثراء ومنعة ووعياً، وشخصي شاهد بذلك إذ أني من مواليد دار مساليت خلال هجرة أسرية عقب دخول (النصارى) دارفور. اما القول ان (دار مساليت هي من احدث السلطنات الاسلامية في الحزام السوداني مسهمة بقدر كبير من التجلي في رفد الثقافة السودانية حيوات جديدة في شرايينها بدخولهم في مجموعة انساق المنظومة السودانية حباً وكرامة واختيارا لا جبراً)، فهو قول حقيقي يؤكد على حجم الثراء والمنعة اللتين اهدتهما السلطنة التاريخية للسودان. ولكن من ناحية أخرى ودون الدخول في جدل حول دور الاستعمار الجديد وأوكامبو والانتماء المتواضع القيمة لمواطني دار مساليت في السودان، بحق السماء وبوعي كل المستنيرين في البلاد، ماذا قدمنا كسودانيين الى الناس الرائعين والقادة الراكزين الذين ذكروا في التاريخ وأمتدحوا في الشعر، وسكنوا ابطالا في التراث الشعبي؟ اليوم مناطقهم مبعثرة بانتهاكات مؤلمة.. فقدوا الأرواح والممتلكات وتجاوزهم السند المعنوي والدعم المادي. ان المساليت تاريخهم ناصع ومنتمي، بيد ان السؤال الذي يثور حوله: كيف يمكن استثمار ذلك التاريخ ايجابيا لمصلحة الاحياء من شعب وقبائل المساليت وبقيادة وثيقة، لبناء المستقبل وتأسيس قاعدة نهضوية في شراكة مع مواطنيهم الدارفوريين في اطار اقليمي يحفظ للسودان مستقبلا مشتركا في سياق العدالة والتراضي؟ يحلو لنا ان نسمع عن ذلك التاريخ الرائع.. فان بعض من روعته نأمل ان تشارك اجيالنا الراهنة في استعادة وهجه والاستثمار فيه بتجاه المستقبل. (4) شهدت ضمن ممثلين لفعاليات سياسية مدنية الافطار الذي اقامه ودعا له الامام الصادق المهدي تكريماً للمجتمع الدبلوماسي في العاصمة الاتحادية في الاول من سبتمبر الجاري بمقر اقامته بالملازمين (أم درمان). كان يمكن ان يكون افطارا رمضانيا عاديا لولا مبادرته بالقاء خطاب بدا مثيرا للتعليق والتلخيص وقد استمع اليه باقان من الحركة الشعبية ود.غندور من المؤتمر الوطني. لقد ثمن امام الانصار مساحة الحرية التي تسمح (بتناول الشأن العام من زوايا مختلفة عما يراه الحكام). بدا الامام مصمماً لتأكيد ان نهج المعارضة الناعم قد أتى أكله ب (سلام نسبي واعتراف نسبي بالتعددية السياسية)، ذلك ان موقف المعارضة من (انقلاب يونيو 9891م) كان مبدئياً اضافة الى العمل الفكري والسياسي والتعبوي الذي أطلقه مؤتمر القضايا المصيرية في اسمرا (5991) وكأنه بذلك يدعو المعارضة بمكوناتها المختلفة للمضي قدماً في التعبئة والعمل من اجل (مطالب الشعب المشروعة)، فانها بذلك ستحقق (السلام العادل والتحول الديمقراطي) في خاتمة المطاف. كان الصادق المهدي السياسي أيضاً بدا صريحاً مع ضيوفه من ممثلي السلك الدبلوماسي، حيث أجاب بوضوح أمامهم على أربعة أسئلة قال انها طرحت عليه من قبل ممثلي الاسرة الدولية: أولها عن الانتخابات اذ قاطعها حزبه دون مواجهة أو عنف (لهشاشة حالة البلاد..)، وافاد وانه حزبه سيصدر كتاب الرفض للانتخابات بما يوثق لكافة الاساليب التي أودت بنزاهتها، ثاني الاسئلة حول الاستفتاء وفي ذلك اكد تشكيك حزبه حول العملية كلها، وكخطوة اصلاحية أوصى باحالة المسائل الخلافية الى مفوضية حكماء يرتضيها الشريكان، ولتضييق فجوة الثقة تسند ادارة الاستفتاء للامم المتحدة. وثالثها حول سلام دارفور حيث حدد موقف حزبه بضرورة الالتزام بوقف اطلاق النار، وحماية المدنيين، العون الانساني، ونزع السلاح (غير النظامي) واعلان مبادئ تعترف بالاقليم الواحد، وبالحواكير لأهلها، والمشاركة في رئاسة الدولة، وحدود 6591م، وتعويض النازحين واللاجئين فرديا وجماعيا، واعتماد نصيب دارفور في السلطة واستمارة بحجم السكان، والالتزام والالتزام بعدم الافلات من العقوبة كما ورد في قراري مجلس الامن للامم المتحدة 1951، و3951، واعتماد وثيقة هايدلبيرج اساسا لاعلان المبادئ عبر لقاء قومي واقليمي. رابعها بشأن المحكمة الجنائية الدولية التي ذكر ا نها افضل نظام عدالي لمنع الافلات من العقوبة عرفه العالم. ولتفادي تداعياتها الماثلة اقترح الحزب تكوين محكمة هجين من قضاة سودانيين وافارقة وعرب لمحاكمة جرائم دارفور مطبقين القانون الجنائي الدولي. (5) ساهمت الاستاذة حليمة حسب الله وزيرة المجلس الوطني بوصفها الشخصي وانتمائها المحلي في معالجة قبول طالبة نابغة من منطقة الجنينة لجامعة الاحفاد والتي قد تبدأ دراستها في الطب هذا العام. وفي سياق المتابعة لاحظت اهتمامها بتطوير التجربة التعليمية لمواطنيها خاصة انها معلمة بالاساس واحدى طالبات بروفيسور قاسم بدري، وبروفيسور مالك بدري بكلية التربية بجامعة الخرطوم وهي بعد على علاقة لصيقة بآل بدري تاريخيا. واليوم بخلفية الاوضاع الانسانية المأساوية التي تعيشها طالبات دارفور في العاصمة الاتحادية خاصة وفي سياق تربوي اجتماعي فان ثمة ما تحب ان تقوم به الاستاذة حليمة من رعاية لجهود قد تكتمل بالحوار والمفاكرة وباصرار من مواطنيها. ان تلك مسؤولية يشاركها في الاضطلاع بها مثقفو دارفور بأي من الخلفيات التي ينتمون اليها سياسية، كانت ام فكرية ثقافية. (6) يأتي عيد الفطر المبارك هذا العام، والبلاد مقبلة على مغامرة ذات أبعاد متعددة بالاستفتاء، مع وجود الشراكة الاقليمية الدولية التي قد تساهم في تليين مفاصل العملية، فان مقام المغامرة يدعونا الى الحديث الى بعضنا بعضا وكثيرا عبر المنابر والملتقيات واجهزة الاعلام المختلفة لبناء قصة حقيقية لوطننا الجديد بالوحدة او الانفصال، ان دور مستنيري الامة سيكون متعاظما في فتح قنوات الحوار لكتابة قصة امة سودانية قد تنهض من تحت انقاض النزاعات.. انها قصة تستدعي كتابتها كل القدرات والكثير من الوقت لتكملتها، وذلك لتصبح قصة امة (Nation Narration) حقيقية واقعية. مع الدعاء لله تعالى ان يبقي الود بين السودانيين في سلام وعقل جديد مفتوح. وان وقع بينهم الانفصال، وكل عام وأنتم بخير.