كنت في وقت سابق اقول الشعر لنفسي، ثم راودني توق لأصبح شاعراً ولكن مع الايام وتطور تجربة الجيل الذي اليه انتمي في التعبير عن مكنونات الذات اكتشفت يقينا ان جيلي ولد اصوات شعرية أصدح مني وأصدق تعبيراً عني، فتواضعت بقبول درجة التلقي وعزمت ان انهي نفسي من محاولة قول الشعر فاستجابت طائعة وفي سماحة. مع الزمن تمكن في وجداني اليقين بشاعرية عالم عباس وهو يغوص عميقا في درر تراثنا الثقافي ويخرج بها اقرارات حكيمة لليوم، وبشاعرية فضيلي جماع وهي تنطلق جامحة في الفيافي ورحاب الذات رافضة كل ازمان الخوف، وبشاعرية مبارك بشير وهي تجسد خصوصية الذات في اضيق نطاق جغرافي وان تلاطمت الامواج حولها والهياج، وبشاعرية السر النقر في الصدع بثورة العمق الانساني في وجه البغي على الحقوق. يأتي معهم وخلفهم شعراء جيلنا يلهموننا القدرة على نقد تجربتنا الانسانية بمداخل السياسة والتمسك بحق حرية التعبير، والتمسك بقدرتنا على تصويب ماثل التجارب وان طالت المعاناة وتطاولت فترات التصدي. في مثل هذا السياق، كم هي صائبة فينا وماتزال مقولة (كل ما يمكن تصوره يمكن تحقيقه)، وها نحن اليوم في خليط من الاجيال نتصور تجاوز واقع النزاع والبغضاء، ونتصور استعادة الديمقراطية.. ونتصور استعادة جمال ذاتنا المتنوعة عرقياً وثقافياً.. ونتصور تحقيق اللا مركزية بواقع البناء من القاعدة وبشراكة الناس العاديين بمقولة (الصغير جميل). نعم نتصور ذلك وعيوننا مفتوحة على الصعوبات والعقبات وكل الاحتمالات.. وقلوبنا لا تيأس حباً في تضاريس بلادنا وخيراتها وخبرات أجيالها، ورغبة في مستقبل جاذب وان طالت المعاناة والاحزان وقد توقفت طويلا لدى بعض صورها في لوحات شعرية بعث بها الي الصديق الشاعر عالم عباس اليكترونياً كمعايدة.. كانت قصيدة (سفر القيامة) لعالم، ضمن بطاقات التهنئة الكثيرة حقاً والتي تلقيتها في الهاتف ورسائل الموبايل، والبريد الاليكتروني، وهي قصيدة بعد ان أعدت قراءتها مرارا، جعلتني أعتقد انه من قبيل المعايدة الأوسع ان اشارك قراء (غداً) انطباعاتي حولها. لقد جاءت القصيدة في سبع لوحات، كل لوحة تحت حرف من أحرف لفظ (السودان)، وعندما بلغت القصيدة اللوحة الاخيرة (ن) كانت عبارة عن نقاط متناثرة في ثلاثة أسطر مائلة، دلالة تردي حال الوطن وبلوغه القاع. بدأت القصيدة بلوحة أولى (أ) تقول: وطن آيل للغرق البتلات يسقطن، البراعم يسقطن، الثمار الورق، والرماد يحاصرنا في الطرق حبال المشانق مجدولة والسيوف.. لحز العنق.. تمضي القصيدة في وصف مآلات الانهيار، والمسئول عنها، بيد انها قصيدة تود رؤية الانهيار بدراما الرياح مثل تلك الرياح الغربية العاتية التي أوردها الشاعر الانجليزي شيللي في قصيدة ثائرة بعنوان (الرياح الغربية)، انها استدعاء برياح مماثلة.. يا رياح الفواجع هبي، فقد هدنا الانتظار عذاب التوقع أقسى علينا وقنبلة الانشطار من الانفجار؟ ان اللوحات الشعرية في القصيدة وهي متماسكة تناولت حالة الوطن الآيل للسقوط والغرق.. بأنظمة تغرق معها الجذور في (العطن والعفن) والاصل يغرق في السموم، وبأناس هم ليسوا للوطن الجريح بل هم عليه، كالضيم على الاكتاف يرقص دون التفات الى النواح او الانين، وهم بمجملهم يزيدون الوطن وهناً على وهنه.. يا صديق العنا والمحن ان هذا فساد كبير ومنفى.. .... ليس هذا وطن ولم تبق امام لوحات القصيدة الا الوصايا لمن هم في الطريق او الرصيف يحلمون بالنجاة، (احذروا ان تسيروا على دربنا.. دربنا مهلك..) انه مجرد (حقل زرعناه كي تحصدوا.. سنبلات الندم..) إن المتبقي من الوقت بمنظور القصيدة يكفي فقط للشهادة على الذات الأعلى وقد تجذر فيها الفساد، والكذب، والحرص على التدمير.. أنه لا أمل.. وقفنا على كل باب لنعرض أي احتمال لتنجوا! لا سبيل سوى الموت كل المشارب مسمومة والخيارات محسومة والديار خراب! تلك لوحات بالوسع قراءاتها على أنها قصة يأس قد تنفجر على الذات بالنكوص، انها لوحات بالوسع قراءتها على سبيل القبول بالامر الواقع.. اذ لا أمل في مواصلة النضال وما تبقى من عمر فللتدامج في الفساد والمحن، انها لوحات بالوسع قراءتها على سبيل التحذير من مصير من قبلوا الانصياع للأمر الواقع وركنوا الى الهوان.. أنها لوحات بالوسع قراءتها على سبيل ان لا شيء يضيرنا من ان نبدأ من جديد، فلا شيء امامنا نفقد أكثر مما فقدنا.. فلماذا لا نحاول من جديد؟ انها لوحات ايضا بالوسع قراءتها على نحو مختلف على انه تقرير عن صراع ارادات لم يكتمل بروز الارادة الغالبة فيه على السطح، اذ كل ما حولنا يوحي بالوهن والانكسار وما يبرز على المسرح الا رموز السأم، والعناء، والالم، ومكونات الندم. أثناء قراءتي للوحات القصيدة مرارا.. برز قويا لدي سؤال: أين في هذه القصيدة الذين رفضوا رؤية الوطن غارقاً، ورفضوا انتظار الانفجار؟ أين هم من رفضوا بقاء جذور الوطن في العطن والعنف؟ ومن رفضوا الفساد الكبير، باصرار على بقاء قيم الوطن؟ ومن رفضوا الصبر على الضيم؟ بل ومن رفضوا الوصايا الاخيرة فالهلاك والعدم لا يشبههم ولا المشارب المسمومة وقالوا لا للخراب؟ اين هم؟ موجودون تراهم في ثنايا القصيدة يتوثبون بمداخل متنوعة وعديدة للانقضاض على عبث من أفسدوا الوطن وحاصروا نواياه بالاستلاب. ان قصيدة (سفر القيامة) عندما يكتمل نشرها قد تثير جدلا حول احتمالات بقاء الوطن حاضنا للسلام والعدالة والتنوع، في ظروف مليئة بالمخاطر والصعوبات والقضايا الاخرى، ومع ذلك فان المواطن العادي على ما يعيشه من عنت فان وجدانه مليء بالارادة واليقين والحيلة وقد يجد نفسه في الجانب الايجابي من المعادلة وهو جريح وموشح بالعناد والاصرار والاستمرار. ان ما يجعلني أصدق ان المواطن سيصمد في مواجهة المهددات والمغريات، ان ذلك يمكن تصوره تماما بخلفية الخبرات الوطنية المتراكمة، وما يجعلني اصدق كذلك أني امضيت عيدا مختلفاً هذه المرة، ليس لأن الازمة في دارفور قد شارفت النهاية، او ان قضايا العدالة الانتقالية قد تم الاعتراف بها او صارت على المائدة، او ان التحول الديمقراطي اصبح حقيقة ماثلة، ولكن لأن الحوار أضحى سمة العيد. لقد توفرت فرص الحوار في الاسر والاسر الممتدة، ومجموعات السكن، ومجموعات تكوين الرأي العام في القوى السياسية والمدنية الاهلية، وقد يصبح الحوار مدخلا لاستكمال السلام وتأسيس العدالة والتنمية، وتحسين فرص الديمقراطية. كانت السمة الغالبة لمعايدات العيد، الدعاء بدوام الصحة والعافية والتواصل الاسري مع ملاحظة التجديد في العبارات الناقلة للمشاعر، فقد أسرتني جداً معايدة تقول (نرتاد مرافئ الفرح بحثاً عن لغة تحمل احساسنا لنقل أنتم العيد لكل عام) وبالفعل تمنيت من عمق الوجدان ان يكون الناس.. كل الناس وأنتم العيد لكل عام. وللوطن الدعوات متلاحقة، ومن بين ما ورد من أصدقاء أعطوا البلاد ومايزالون: (كل عام والاحلام تسري في واقعنا نوراً وفعلاً وحقيقة)، (أمنياتي بسودان وقد تحقق فيه السلام) (يحقق امانيكم، ويحفظ البلاد ويصلح أمر العباد)، (مع العيد ننظر الى الامام بارادتنا لتحقيق أحلامنا في الوحدة الوطنية والاستقرار والعدالة والحرية والانسانية)، (لكم والاسرة معزتي، سنة جديدة للحرية والعدالة والجمال)، مع امنياتي للصديق عالم عباس، ود.الحواتي، وعبد العزيز خالد، وياسر عرمان، د.ابراهيم حبيب، ومدثر الريح، وعبد العزيز الحلو، ومركز الخاتم عدلان، ود.محمد الرشيد، عبد الله حميدة، ويس بشير، ود.مريم الصادق، وسايمون واحمد مكي، والناظر ابراهيم منعم منصور، وآب عبد الله بدري، ود.موسس ود.عبده عثمان، ولكل الذين بادروا بالمعايدة من مختلف البقاع ولعموم افراد أسرتي الممتدة على أرض الوطن الحبيب ولكم أطيب الامنيات بعام للسلام والحوار والاستقرار والعدالة.