في هذا الظرف السياسي البالغ التعقيد.. هناك ضرورة ملحة لتعديل وزاري جديد هل يبدو هذا العنوان محرّضاً؟ لا أعتقد أن السيد الرئيس بما يملك من حصافة وتجربة تراكمت خلال أكثر من عقدين من الزمان وبما يتوافر له من مستشارين وتقارير ودوائر بحوث يحتاج منا إلى تحريض. هو إجتهاد قد نصيب فيه أو نخطئ، فنحن في الصحافة نملأ أقلامنا من حبر الواقع السياسي الذي نراه، ونجتهد في كتاباتنا الصحفية وفقاً للمعلومات المتاحة، ونثابر على قراءة المشهد السياسي بضمير يتوخى الصدق في القول. هو سؤال أو اجتهاد سيدي الرئيس نضعه بين يديك بحسبانك الرئيس المنتخب وفقاً لتفويض شعبي عريض أفرزته الانتخابات الأخيرة، وهو فوق ذلك يتوافق مع نصوص الدستور والذي تنص بنوده وهي تعرّف إختصاصات رئيس الجمهورية بالآتي: (رئيس الجمهورية هو رأس الدولة والحكومة ويمثل ارادة الشعب وسلطان الدولة وله في ذلك ممارسة الاختصاصات التي يمنحها هذا الدستور واتفاقية السلام الشامل ويتولى المهام التالية: يصون أمن البلاد ويحمي سلامتها. ب- يشرف على المؤسسات التنفيذية ويقدم نموذجاً للقيادة في الحياة العامة. ج- يعين شاغلي المناصب الدستورية والقضائية وفقاً لنصوص هذا الدستور والقانون. د- يرأس مجلس الوزراء القومي. ز- يعلن وينهي حالة الطوارئ. ي- يمثل الدولة في علاقاتها الخارجية ويعين سفراء الدولة ويعتمد السفراء الأجانب.) تلك هي بعض الاختصاصات الموكلة لرئيس الجمهورية وفقاً لنص المادة 58 من الدستور. وحينما نمارس - نحن الكتاب وأهل الصحافة - فضيلة الاجتهاد السياسي إنما نرمي لاعانة الدولة في تلمس السبل الآمنة للعبور بالوطن إلى بر السلام والأمان، ولعل هذا التساؤل الذي طرقناه بشأن التعديل الوزاري يتطلب أن ندعمه ببعض الحيثيات التي تكسبه المشروعية الواجبة: أهم تلك الحيثيات تجئ من واقع الظرف التاريخي والمفصلي الذي تمر به بلادنا في هذه الأيام... ظرف تسوده هواجس الانفصال الذي بات أشبه باليقين السياسي بعد أن كان خياراً محتملاً... ظرف تتكالب فيه بعض القوى الدولية على الساحة الداخلية للبلاد وهي تحسب نفسها في زمرة أهل الحل والعقد... ظرف تستأسد فيه بعض النخب من شركاء الحكم وإتفاق السلام التاريخي ويعلو منهم صوت يجهر بازدراء الوطن الواحد الذي تساكنا فيه وتآخينا لقرون خلت، صحيح أنها مساكنة وإخاء شابها الإقتتال وأعتورتها الدماء هنا وهناك، لكن لا الدماء ولا الإقتتال استطاع ان يطفئ وميض التطلع نحو السلام، والذي بات واقعاً معاشاً نعمنا به طوال السنوات الست الماضيات... ظرف قاتم ومناخ سياسي يكتنفه التربص الدولي الفاضح غير المستتر، ليس بالجنوب وحده، لكنه حتماً سينداح إلى بقية أجزاء الوطن الأخرى... ظرف يتطلب الالتفات والتبصر في (معايش الناس) الذين (يجابدون) لقمة العيش بمشقة بالغة وأنفاس واهنة بسبب قصور السياسات الاقتصادية في بعض مؤسسات الدولة إلى جانب تداعيات الأزمة الاقتصادية الدولية. تلك هي أهم ا لحيثيات التي تجعلنا ننساق وراء اجتهادنا في التطلع لتغيير وزاري يقلص هذا الحجم الهائل من الوزراء ويصوّب نقص الخبرة - لا الكفاءة - التي تتسم بها بعض جوانب التشكيل الوزاري الحالي. صحيح ان تجديد الوجوه والأفكار والقدرات هو أمر حيوي يضخ دماء جديدة في جسد الادارة التنفيذية، إلا أن الظرف الحالي في تقديرنا لا يسمح بترف التجريب أو إهدار الزمن الغالي في انتظار ما يسفر عن هذا التجريب. ان التحديات التي تواجه البلاد في هذه الأيام تحتاج إلى حكومة قوية لا ترتخي بعض مفاصلها كنتاج طبيعي لشح الخبرة التراكمية.. حكومة منتقاة من عناصر تنسجم كل أركانها في هدف استراتيجي واحد وتعمل كماكينة تتناغم كل تروسها في المضي للأمام. إن البرنامج الطموح الذي خاض به رئيس الجمهورية وحزبه الانتخابات الأخيرة يتطلب إنفاذه تكاملاً متوازناً بين معياري الكفاءة والخبرة، فالكفاءة التي تفتقر إلى الخبرة لا تنسجم مع التحديات الراهنة والتي تتطلب نفساً سياسياً متمرساً ومسلحاً بتراكم التجارب. لقد وضح تماماً أن بعض المسؤولين في الحكومة الحالية - رغم رصيدهم المقبول من الكفاءة والتوجه الوطني - إلا أنهم يفتقرون إلى الخبرة والحنكة والتجربة، فقد وصلوا إلى الوزارة دون التدرج في وظائف سياسية وتنفيذية مما يضعف دورهم في التصدي للقضايا الملحة والعاجلة، وبات الأداء السياسي تكتنفه نغمة ناشزة بسبب هذا الاخفاق في الخبرة. ولعل أبرز سمات هذا القصور وذاك النشاز يتجلى في الرصيد الوافر من التصريحات غير المنسجمة التي تصدر من هنا وهناك في غير اتساق، ودون توافق يخدم الاستراتيجية المحددة للجهاز التنفيذي. تصريحات يتصدى لها بعض الوزراء وكبار التنفيذيين في تعد وتغول على فلسفة الاختصاص وهي الركيزة الاساسية في فن الحكم وكفاءة الاداء التنفيذي. لقد عانت الانقاذ في سنواتها الأولى من هذا الداء.. داء التصدي للإفتاء السياسي واعتلاء المنابر المتعددة من قبل صغار التنفيذيين وكبارهم دونما تفويض أو ا ختصاص مما ألحق ضرراً بليغاً بالسياسة الخارجية وفاقم من العزلة الدولية والاقليمية، بل حتى من أقرب الاقربين إلينا، وقد نلتمس العذر لتلك الاخطاء بسبب ضعف الخبرة في تلك الايام وهي اخطاء اشبه بأعراض (التسنين) والفطام، ولكن يصبح الامر غير منطقي والانقاذ قد قوىّ عودها واشتد ساعدها بفعل تراكم الخبرات وجسامة التحديات والمجابهات. ويبدو أن حمى التصريحات التي تفتقر إلى الخبرة قد انتقلت من مضمار السياسة إلى مضمار الاقتصاد، فهاهو السيد وزير المالية يصرح قبل أيام قليلة وهو خارج البلاد لجريدة الشرق الأوسط اللندنية بتصريح نأسف أن نقول إنه مستفز، حينما قال في معرض رده على سؤال حول الاجراءات التي سيتبعها حال الانفصال وما يترتب عليه من أعباء اقتصادية جسيمة. أجاب سيادته بالدعوة للتقشف وهو يقول (دعونا نعود للكسرة والعواسة والاعتماد على الذرة والدخن)... إن مثل هذا التصريح لا يخدم التوجه السياسي للدولة ويترك سخطاً بالغاً في أوساط المواطنين العاديين الذين يعايشون التقشف أكثر مما يعايشه السادة الوزراء، ويحق للمواطن البسيط أن يتساءل: هل تقشفت الدولة وتقشف وزراؤها قبل أن يطالبوا الناس بهذا التقشف؟ كان الأجدر بالسيد الوزير أن يعلن عن عزمه على تقليص مخصصات الجيش الكبير من شاغلي المناصب الدستورية ومن بينهم المستشارون والوزراء ووزراء الدولة والولاة ونواب الولاة والوزراء الولائيون ورؤساء البرلمانات ونوابهم ورؤساء اللجان البرلمانية الذين يتقاضون مخصصات الوزير، إلى جانب أكثر من عشرين برلماناً ولائياً.. هذا الكم الهائل من الدستوريين هو الأجدر بالتقشف والاستهداف من قبل السيد وزير المالية قبل أن يدعو الناس ل«الكسرة والعواسة».. وهل يعلم السيد الوزير كم كلفة هذه «الكسرة» وتلك «العواسة» بما يلزمها من شراء الحبوب وأجرة الطحن وكلفة الحطب أو غيره من أنواع الوقود؟ وهل يعلم السيد الوزير - أو ربما لا يعلم - أن كلفة جوال العيش في الخرطوم تجاوزت المائة جنيه بينما سعره هذه الأيام في مناطق الانتاج في حدود 40 جنيهاً وكل هذا الفرق ينجم من الجبايات والضرائب التي تفرضها الحكومات الولائية؟ ومضى السيد الوزير في شأن السياسات القادمة ومن بينها على حد قوله (ترشيد الاستيراد) فذكر ان فاتورة استيراد الأثاث تبلغ مائة مليون دولار ومثلها للعب الأطفال والفواكه! ليس المطلوب يا سيدي الترشيد ولكن قفل الباب (بالضبة والمفتاح) في وجه هذه السلع الكمالية المستفزة... والتي لا يماثل أثرها الاستفزازي إلا هذه التصريحات التي تفتقر للخبرة والتي تثير السخط وتربك الجبهة الداخلية في مثل هذه الأيام الحاسمة من عمر الوطن. إن مؤسسة الرئاسة وهي تضطلع بمهامها الجسام في هذا الظرف الدقيق ليست بحاجة إلى مثل هذا المناخ المرتبك الذي يشوش على نضج القراءة السياسية الراشدة ويُعوّق الفعل السياسي السليم، وهو مناخ تغذيه هشاشة الخبرة السياسية لدى بعض التنفيذيين وان حسنت نواياهم، هذه المرحلة تتطلب نضجاً سياسياً ذا مستوى رفيع لا يحتمل كما قلنا ترف التجريب. إن ا لماعون السياسي للوطن بكافة مكوناته يزخر بالكفاءات ذات الخبرة التراكمية المطلوبة، فلماذا لا نعيد النظر في توزيع المهام التنفيذية وفقاً لهذه الخبرات، والتي نحتاجها في هذا الظرف الدقيق مما يعطي آمالاً عراض للشعب بإمكان العبور بالبلاد إلى بر الأمان. يا سيادة الرئيس... إن التعديل الوزاري الذي ننشده من واقع انفعالنا الوطني بهذه المرحلة الحاسمة التي يمر بها الوطن، هو مجرد اجتهاد نضعه بين يديك.. فانظر ماذا ترى.