كان لنا لقاء سابق مع الروائي كامل التوم من الله في رواية «الإ شقيفة» في رواية متسارعة الخطي هرولنا فيها مع الكاتب بين حواري وأزقة سوق أم درمان... تسلل الروائي بنا خلسة ألي عالم خفي المعالم كاشفاً لنا خفايا وخبايا عالم المشردين أمثال شقيفة ومحيطها من المشردين الذين طمست صعوبة الحياة معالم البراءة فيهم و أبتلعهم تيار المدينة الهادر الصاخب الغادر فضاعوا وضاعت عوالمهم وأحلامهم. ولتخفيف مرارة رواية «إلا شقيفة» شدني عنوان رواية أخري لذات الكاتب حلمت فيها بقراءة رواية جديدة رومانسية لكاتبنا تحاكي روايات أحسان عبد القدوس ادلف بها إلي عالم وردي مفعم بالحب وهذا ما تبادر إلي ذهني عند قراءتي لغلاف حمل عنوان «قمر علي سطل من الماء».... فلقد تولدت داخلي رغبة ولهفة لقضاء ليلة بين قمراً وماء ووجه حسن وروميو وجوليت سودانية... رواية انتقل بها الي عوالم من الفرح... فخاب ظني عندما وجدتها احدي روايات كامل التوم من الله الرواي المهموم بمن حوله الذي يجوس بكلماته خلال ديارنا هابطاً الي قاع المدينة صاعداً الي العوالي الي عالم يعيش علي مدرجات المدينة فعرفت حينها كيف سرقني وأدخلني عنوة داخل مجتمعي فتبعثرت بين هؤلاء وهؤلاء... فبدأت اقرأ عصير كلماته... عانيت كثيراً وأنا أتجرع ما عصر... عصير صراع في مجتمع آخر مختلف يسير في خط متوازي مع عالم رواية «إلا شقيفة» المشرد... عالمان لا يلتقيان أبداً... عالم «شقيفة» المكتظ بالجوعي والعرايا الذين يبحثون في مكب القمامة... الذين يجرجرون أثمالهم ويكتبون قاموس لغتهم الخاصة التي لا يفهمها دخيل.. ينامون علي الرصيف ويتغطون بالسماء... يموتون ويتكاثرون علي أسفلت الطريق وتحت أنقاض الجدران ولا جدران تخبئهم... وعالم «قمر علي سطل من الماء» عالم فيه مفكرون وأفذاذ ...نري فيه كيف امتزجت البطولة بالترف ... فشتان ما بين العالمين ففي رواية «قمر علي سطل من الماء» نطالع عالم «بدر الدين» البطولي وعالم ليلي عمران واحدة من اللائي يحلن الهزائم إلي انتصارات .. قال عنها الراوي: « أنها لوحة لم يضع الفنان ريشته عنها بعد» وعلي نقيضها «خضراء» تلك المرأة الفاتنة القناصة التي تعيش حياة مترفة من جيوب الآخرين... تعيش في فيلا فرشت دهاليزها برياش الخديعة والمكر ومرايا عكست منظورهم الخارجي المنمق ....قال عنها الراوي « خضراء السيد الدرديري.. لو أتت إليك ستصادر كل الأجهزة الحسية التي تملكها وستتجمد ولن تنبس ببنت شفة ...امرأة تدثرت بالحرير كنعومة كلماتها التي تذيب صلابة الشجعان الذين تحدو بنادق العسكر ليقعوا في براثن كلمات «خضراء» المعسولة التي تتصيد الرجال للحصول عن طريقهم علي عطاءات لشركتها أو للحصول علي إعفاء جمركي ثم تلفظهم بعد أن تجردهم من أموالهم ومناصبهم رجال مثل «النعمان» الذي قيل عنه أنه الرجل الذي يعرف كيف يصنع القرارات وكيف يحسم الأمور ولا يعرف التردد... لكن بعد أن عرف «خضراء» التي وصلت إليه بعد أن جمعت كل ما تريد من معلومات عنه كمدير للشركة العامة للمقاولات والتجارة وبعدها رتبت لحادث اصطدام بسيارتها المرسيدس الفاخرة بسيارة النعمان مدير الشركة لخلق جسر للتواصل ورمي الشباك حوله لأنه هو من يملك مفاتيح العطاءات التي تطرحها شركته .. وقد كان... فنراه بعين الراوي الذي قال عنه, بعد أن سقط في فخ خضراء وتزوجها, وعند عودته من شهر العسل مع خضراء قال الراوي: «حين دخل نعمان منزله لم يكن في خياله شئ غير صورة خضراء.. وحين دخلت خضراء مكتبها لم يكن في خيالها شئ من صورته» حتماً فلقد كشفت كل ما كانت تريد عن أسرار المناقصة الضخمة المطروحة وضمنت رسو العطاء عليها.. وهناك أيضاً بدر الدين وحيدر ودكتور قريب الله داخل تيار التظاهرات بشارع الجامعة وداخليات الطلبة نري هناك بدرالدين يخوض التظاهرة تلو الأخرى هاتفاً بشعارات أعادتنا الي ذكريات الجامعة وشقاوة عصر المراهقة والهتافات المدوية التي يطلقها الطلاب...ودُرت دورة كاملة كدرويش ليلة المولد يضرب النوبة ضرباً فتئن وترن... دورة بين نهم القراءة والبحث عن قمر تنعكس صورته علي الماء... فلم أجده ...حقاً أنه عالم مضطرب تحمله الرواية... حطام أجزاء بشرية تتكوم بلا رغبة، أفكار تصطرع في لاواعي الكاتب نتيجة ركوبه موجة الفوضى التي تضج وتعج من حوله ... فماذا تظنون انه فاعلاً وقلمه تتجاذبه أحداث وأفكار بلا نهاية ... فلقد حاصرت الكاتب أزمان وأحداث جعلته وقلمه يلهثون في هستيريا محاولين غزل وحبك خيوط مصبوغة بشتى الألوان... فأمسك بمغزله (اقصد قلمه) وبدأ بالغزل فتشابكت خيوط مغزله... فصار يمسك بخيط ويتركه ثم يمسك بالآخر... فهذا خيط اصفر حاك به الماً وذاك أحمر يحكي نزيف أجساد صبغت أسفلت شارع الجامعة... وخيط أخضر تدلي من فرع شجرة صفصاف هرمة غرب جامعة الخرطوم أوراقها تهتز طرباً مع نسمات هبت من شارع النيل وكل ورقة تحكي أحداث أجيال خلت ترعرعوا في حضنها وحكايات ساسة ومصلحون وأغنيات أحباء وعاشقون... تسجل علي أوراقها اعترافاتهم وتدفنها بين الجذور.. فيستمر الكاتب بغزل ثوب موشي بشتى الحكايات جمع فيه رسوماً تشكيلية صعبة القراءة...تاركا اللوحة لمن يجيد قراءة ما بين السطور... رواية أعطانا فيها الكاتب حرية وضع النهايات لتلك الأحداث المتناثرة بين الصفحات... فتصير تبتر من هنا لتوصل هناك ... ككلمات متقاطعة تبعثرت حروفها بين مربعات اللعبة... والماهر من يجيد توصيل الأحرف بمهارة ليكشف لنفسه ما أخفاه الكاتب عن قصد... فجودت الرواية أتت من نهاياتها المفتوحة... لتحكي قصة مجتمع حي مازال مضطرباً يموج ويصطرع... ...فطفقت أحدث نفسي التي مازالت هائمة وحائرة بين حواري أم درمان والمنطقة الصناعية بأم درمان، الامتداد وشارع الجمهورية والجامعة والبلدية... وأنا ما زلت ابحث حائرة في طرقاتها عن باقي الرواية وعن صورة قمراً منعكساً في سطل ماء... يحاكي حالي حال الراوي في هذه الرواية حينما كتب قائلاً: « الآن.. لا أستطيع أن أركز علي نقطة بعينها.. بل أن العقل خال تماما، أو هكذا بدأ لي فالخيال نامت عفاريته ولا حراك البتة» ... جدار من الصمت.. جدار تكاد تسمع من خلفه همهمة الشمس... وباقي الجسم أستعمره القلق... استوطن فيه وأقام عليه مخيمات ومعسكرات للتخدير» والي لقاء قريب،،،،